جولة في ثقافتنا التلفزيونية

25-09-2006

جولة في ثقافتنا التلفزيونية

رغم أننا من البلدان النادرة المحظوظة التي تتمتّع "بامتياز" وجود وزارات للإعلام لديها، ورغم انتشار المحطات الفضائية كالفطر في سمائنا، وخضوع إعلامنا العربي للخطوط الحمر السياسية إلا في ما ندر، فلا خط أحمر واحداً يحفظ حق المشاهد. لن نكون متهكمين ونسأل عن دور وزارات الإعلام، ولن نكون حالمين ونسأل عن مواثيق الشرف الإعلامية، سؤالنا محدد ومتواضع للغاية: ماذا عن الثقافة؟ نعم، الثقافة. أليس مشروعاً، بل أليس واجباً التساؤل عن موقعها تلفزيونياً؟
نحاول ان نقبل على مضض غياب قناة ثقافية متخصصة في عالمنا العربي، شبيهة بقناة "آرتي" الفرنسية - الألمانية مثلا، ونحاول أن نغفر غض النظر والتعامي المتبادل بين وسائل إعلامنا، ونحاول ان نتفهّم واقع وجود برامج "مطبوخة" على عجل، لكن ما لا نقبل به ولا نغفره ولا نتفهّمه، هو تلك الحصّة الهزيلة من فضاء البث المعطاة للبرامج الثقافية على الشاشات العربية. وعلى أمل ألا يكون العرض الآتي للبرامج الثقافية العربية نوعاً من مسح للخسائر، نشير - فقط نشير- إلى أن بعض الدول الأجنبية تفرض "كوتا" ثقافية على محطاتها التلفزيونية، فأين نحن من تلك الكوتا؟
"يقال إن لا شيء أوسع من الثقافة"، ثم تطلّ علينا المذيعة الواثقة من ثقافتها، عبر شاشة إحدى محطات التلفزيون المحلية. نتساهل مع الطريقة التي تغنّج فيها كلمة "سكافة"، في غمرة فرحنا بقرار المحطة، التي تبتعد برامجها عن صفة "الثقافية" مثلما يتجنّب المعافى الهواء الأصفر، بث برنامج ثقافي في فترة الذروة. لحظات ويعلن المقدّم بضحكة تستهلك نصف وجهه: "أهلاً بكم مشاهدينا في حلقة جديدة من برنامج كذا، الذي يخوّلكم ربح الملايين". ما لنا ولغة مذيعات الربط الخاصة، ما لنا ومفهوم الثقافة لدى القيّمين على المحطات العربية. فلنحاول فقط في هذا العرض رصد المشهد الثقافي المتلفز من خلال أبرز البرامج الثقافية، أدبية وفنية وفكرية (مع التحفّظ عن التبذير الحاصل في هذه الصفة)، التي يمكن متابعتها على قنوات أرضية وفضائية.
لا تمش بين القبور كي لا ترى منامات سيئة، هذا تعليق سمعته. قبور؟ لا بد من السير إذاً في حقل الألغام هذا، ولا بد من اعتذار مسبق من الزميلات والزملاء الذين يعدّون البرامج الثقافية ويقدّمونها، على بعض القسوة الواجبة، أو بعض الإغفال غير المتعمّد.
المسح الأولي يتناول إذاً عيّنة من أبرز البرامج التي تُبثّ على قنوات متنوّعة. في نظرة عامة يمكننا إحصاء البرامج الآتية: "الكتاب خير جليس" تقديم خالد الحروب (الجزيرة)، "مسارات" تقديم مالك التريكي (الجزيرة)، "العدسة العربية" من دون مقدّم (الجزيرة)، "روافد" تقديم أحمد علي الزين (العربية)، "إضاءات" تقديم تركي الدخيل (العربية)، "قريب جداً" تقديم جوزف عيساوي (الحرّة)، "خلّيك بالبيت" تقديم زاهي وهبي (المستقبل)، "ملفات الشاشة" تقديم غسان جواد (الصفوة)، "أمسيات" تقديم فاطمة بري بمشاركة الرسّام عبد الحليم حمود (المنار)... الخ. إلى فقرات المفكّرة الثقافية ضمن برامج الفترة الصباحية في: "تلفزيون لبنان"، "المؤسسة اللبنانية للإرسال"، "تلفزيون المستقبل"، "الشبكة الوطنية للإرسال"، وغيرها.

تبدو قناة "الجزيرة" الأكثر اهتماماً بالثقافة، إذ خصصت برامج ثلاثة لها، لكن التفاؤل هنا قد لا يكون في محلّه، لأن البرامج السياسية – المسيّسة تأكل حصة الأسد (هي ثلاثة برامج من أصل 39 برنامجاً!). في كل الأحوال، يعرف الجميع أن ضرع ثقافة "الجزيرة" هو السياسة. يعرض البرنامج الأول، "الكتاب خير جليس"، أسبوعياً لعدد من الكتب الصادرة حديثاً، مستقبلاً ضيفين أو أكثر لمناقشتها، غالباً ما يكون المؤلف أحد الضيفين. هذا التعدد يمنح الحلقة مزيداً من الغنى، لكنه لا يبعد الرتابة عنها، بسبب غياب التقارير المصوّرة، أو الأساليب التي تسمح بالتفاعل المباشر مع المشاهدين. لذلك، وتفادياً لهذه الرتابة، قُدّمت بعض الحلقات في مناسبات معينة، ومن خارج الأستوديو (بُثّت حلقتان من تونس في الذكرى المئوية لابن خلدون). بالطبع في جعبة البرنامج حتى اليوم عدد كبير من الكتب العربية والأجنبية منها: "زيف ديموقراطية إسرائيل" لفايز رشيد، "في الطريق إلى الدولة الفلسطينية" لأحمد قريع، "المأزق الفلسطيني الإسرائيلي" لمهدي عبد الهادي، "سلطات دنيوية" لمايكل بورليغ، "موسوعة البدو" لماكس فون أوبنهايم، "اليابان بعيون عربية" لمسعود ضاهر، "عصر العلم" لأحمد زويل، "النهضة وصراع البقاء" لابرهيم بدران، وغيرها.
يستضيف برنامج "العدسة العربية"، الذي لا مقدّم له، مخرجاً في كل حلقة يتحدّث عن تجربته وأفلامه، التي تعرض مقتطفات منها أحياناً. الطابع العربي، على ما يدلّ اسم البرنامج، "يعصمه" من التوسّع في رصد تجارب سينمائية عالمية (بعض من استضافهم البرنامج أخيراً: المخرج المصري توفيق صالح، المخرج اللبناني غسان سلهب، المخرج الفلسطيني ميشال خليفي، المخرج اللبناني برهان علوية، المخرج المصري مجدي أحمد علي وغيرهم). يتميّز هذا البرنامج بطابعه السلس، ربما بسبب توافر مشاهد جميلة من أعمال المخرجين، أو اعتماد التعليق الصوتي وتصوير الأماكن التي يتم الحديث عنها.
في المقابل، يأتي برنامج "مسارات" فكرياً محضاً، يستضيف مفكّراً أو أكاديمياً لمناقشة مجموعة من الأفكار. وتضفي عليه شخصية التريكي مزيداً من الجدية والرصانة، ولكن مزيداً من الطابع المغاربي، أو ربما الإفريقي الشمالي. هذا ما يبدو من خلال رصد الحلقات الأخيرة التي استضافت: المفكّر الجزائري محمد أركون، والكاتبين المصريين بهجت النادي وعادل رفعت. وما قيل عن "الكتاب خير جليس" ينطبق على "مسارات" الذي يغيب عنه الجزء التفاعلي، ويبدو نظرياً صرفاً، على الرغم من انفتاحه الفرنكوفوني.
متتبع برامج "الجزيرة" الثقافية لا بدّ أن يتكوّن لديه انطباع بـ"أدلجة" ما تمارسها القناة، إن من حيث اختيار الضيوف، أو الموضوعات، أو طريقة إدارة المقدّم للمناقشة، مما يجعل هذه البرامج منتظمة ضمن خط عروبوي - إسلاموي عام، يسمح ببعض الهوامش. هذا ما يبدو أيضاً من خلال امتداد السياسة إلى الثقافة، ولا سيما في برنامج "الكتاب خير جليس" الذي تكاد تغيب عنه الكتب الأدبية، وينحصر في الترويج لكتب معادية لإسرائيل وأميركا، أو أخرى تعوّل على نهضة عربية جديدة.

يبدو برنامج "روافد" على قناة العربية الأكثر استحقاقاً لصفة الثقافي، على الرغم من النمط الموحّد القائم على حوار ثنائي يسود الحلقات كلها. لكن هذا الحوار ليس مضجراً، بسبب شخصية أحمد علي الزين القريبة، والتي تنسج دائماً أواصر الحميمية مع الضيف. نلاحظ إمساك الزين بالمناقشة وسرعة بديهته، وكذلك ابتعاده عن المقدّمات الرنّانة التي يعتمدها البعض. على سبيل المثال، نفّذ الزين هرباً ذكياً في إحدى الحلقات التي استضاف فيها الأمير خالد الفيصل، فبدأ الحلقة بالحديث عن المكان الذي تدور فيه، أو منطقة عسير السعودية، بدلاً من التعريف بالضيف. على أي حال، فإن المكان تيمة تتكرر في معظم حلقات البرنامج، سواء في المقدّمة أو أثناء الحلقة. هذا ما حدث في الحوار مع الروائية اللبنانية هدى بركات، إذ بدأت الحلقة بالحديث عن باريس حيث تقيم، وكذلك في الحلقة مع الشاعر العماني سيف الرحبي، أو مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم. حلقات أخرى بدأت بسرد بعض الذكريات التي تجمع الضيف بالمقدّم، كما في حلقة الموسيقي الفلسطيني مروان عبادو، أو الشاعر اللبناني عصام العبدالله، في حين افتتح أمجد ناصر حلقته بنفسه متحدّثاً عن طفولته. يتميّز البرنامج بتعدد الضيوف والتجارب بين الشعر والموسيقى والرواية والفكر، وبالتنويع الدائم في الكادرات، لأن الزين يزور الضيف عادة في مكان سكنه أو في المقهى أو غيره. على الرغم مما تقدّم، يحتاج البرنامج الجيد، إعداداً وتقديماً، إلى إدخال روح جديدة من حيث طريقة العرض.
البرنامج الآخر على قناة العربية، "إضاءات"، الذي يقدّمه تركي الدخيل، يهتم أكثر بالقضايا الفكرية، ويضيء تحديداً على المجتمع الخليجي ومشكلاته. لكن قائمة ضيوفه متفاوتة من حيث المستوى، فقد استضاف أخيراً السيد هاني فحص للحديث عن دور الشيعة في الخليج، الكاتبة السعودية زينب حفني في حلقة ساخنة من حيث الاتهامات التي وجهها إليها المذيع وإن على لسان غيره، والمختصين السعوديين حمزة المزيني ومحمد النجيمي.

"لقاءات مع أرباب الفكر والفن والثقافة. حوارات ساخنة مع أبرز الكتّاب والفنانين والمفكرين في الشرق الأوسط يتحدثون فيها عن حياتهم وإبداعاتهم". بهذه العبارات يعرّف بنفسه برنامج "قريب جداَ" الذي يقدّمه الشاعر اللبناني جوزف عيساوي على قناة "الحرة". قد يقول البعض إن تعريفاً مماثلاً يفتقر إلى التواضع، وقد يقول آخرون إنه الأقرب إلى حقيقة البرنامج. لكنْ ثمة سؤال يُطرح: هل يقتنع القيّمون على البرنامج بهذا التعريف، وخصوصاً أن الضيوف لم يكونوا دائماً من "الأرباب"، وما المقصود بهذه الكلمة أصلاً؟ نسأل لأننا نعرف أن "قريب جداً" هو البرنامج الوحيد الذي كانت له الجرأة الأدبية في بث حلقة تقويمية سبقت انطلاقته الجديدة. "هل كنتُ منصفاً مع ضيوفي، هل كان يحقّ لي أن أسأل ما سألت؟"، "هل طبيعة التلفزيون تسمح بإقامة حوار ثقافي معمّق؟"، "هل تساعد نجومية المقدم وسلطته الرمزية أي ما يُسِّر له من ديكورٍ وملبس على قمع الضيف أو توجيه الحوار؟"، أسئلة طرحها عيساوي في الحلقة المشهودة، التي تحوّل فيها ضيفاً للناقد في جريدة "الحياة" ابرهيم العريس. ليست الإجابات هي الموضوع، ما دامت البادرة جيدة.
على أي حال، يتميّز عيساوي بأسلوبه الخاص والمشاكس المُعتمد في حواراته التي استضاف فيها أكثر من مئتي كاتب وشاعر وممثّل وفنان ومخرج من كل أنحاء العالم العربي، هذا الأسلوب الذي ينجح، في أحيان كثيرة، في حمل الضيف على قول ما يؤمن به من دون مواربة.
استضاف زاهي وهبي في برنامج "خليك بالبيت" نحو 500 فنان ومثقف. مع دخوله عامه العاشر، يعِدُ البرنامج مشاهديه "بمتابعة العمل لتقديم الأفضل والاحتفاظ برقي الحوار وجدية الطرح، واحترام وعيهم"، مؤكداً حرصه على الاستمرار في استضافة "كبار نجوم العرب ومبدعيهم، وانفتاحه أكثر على عنصر الشباب". يعزو البعض استمرار البرنامج "المعمّر" إلى طابعه التفاعلي من حيث إشراك المُشاهد في طرح الأسئلة، بينما يتحدّث آخرون عن التنويع الذي يدخله وهبي من حيث اختيار الضيوف، بغض النظر عن العوامل التي تدخل في هذا الاختيار. وإذا كان تلفزيون "المستقبل" خصص للثقافة بطابعها الشامل، والمتساهل أحياناً، برنامجاً واحداً، فإن القنوات اللبنانية الأخرى لم تلتفت قط إلى هذا النوع من البرامج، بالحجة القديمة نفسها: "الجمهور عايز كده".
ينقل الشاعر برنار نويل عن مدير القناة الأولى في التلفزيون الفرنسي قوله: "إن مهمتنا هي تصنيع أدمغة جاهزة"، ويتابع شارحاً الفكرة: "حرفة القناة الأولى هي أن تساعد كوكا كولا مثلاً في بيع منتوجاتها. ولكي يتم إدراك هذه الرسالة، يجب أن يكون دماغ المشاهد جاهزاً: أي أن نلهيه ونسلّيه لأجل تهيئته بين رسالتين. ما نبيعه لكوكا كولا هو زمن دماغ الإنسان الجاهز". إذا صدّقنا قولاً مماثلاً، سيكون من العبث البحث عن "ثقافة" تلفزيونية، لأن الرسائل التي تبث في فترة استعداد المشاهد بسيطة للغاية من نوع: توجّه إلى أقرب سوبرماركت. لكن نويل يستنتج أن "الثقافي" في التلفزيون تحوّل فناً لإعداد الدماغ البشري. فن لم يعرف أي نظام شمولي ممارسته بمثل هذا التفوّق. عليه، هل بثّ هذا الثقافي هو من باب التنويع الاستهلاكي؟ تعالوا نفكّر: ما قصد مذيعة الربط؟

زينب عساف

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...