«وحيدة قرن» لإيمان ابراهيم

23-11-2006

«وحيدة قرن» لإيمان ابراهيم

لا يوجد ما تحتمي به الشاعرة السورية إيمان الإبراهيم في ديوانها الأول «وحيدة قرن» الصادر في بنغازي، عن دار البيان، 2006، سوى خوفها، هي المنحدرة من نسل الشاعرات الكئيبات اللواتي أدمنَّ كتابة العزلة شعراً كسنية الصالح ودعد حداد خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الفائت في سورية. ولا غرابة في أن نراها تعتمد تقنيات فنية ميزت أسلوب هاتين الشاعرتين، خصوصاً في مستوى العناية بالجملة القصيرة، المكثفة، وصقل المكاشفة التعبيرية، والاعتماد على اللقطة الشعرية، القائمة على الاختزال. وتوطدت لاحقاً هذه النزعة في الشعر السّوري النسوي الراهن، بدرجات متفاوتة، على يد شاعرات مثل هالا محمد ومرام المصري ورشا عمران وغيرهن، ممن اعتمدن الواقعية التعبيرية، أسلوباً لمخاطبة العالم. وإيمان الإبراهيم تنضمّ إلى هذا الخطّ، بل وتضيف إليه بعداً جديداً، عبر تعميق الرؤيا الشعرية، ومقاربة صورة الأنثى من زاوية الشكّ والتساؤل، بعيداً من تصورات أزلية ثابتة، تفرزها، عادة، ثقافة بطريركية مهيمنة.

والشاعرة لا تتردّد في استنطاق خوفها الذي يبدو أنه يسري في عروق جملتها الشعرية، ويرصّع لغتها بقشعريرة صامتة. ويتأتى هذا عبر تفكيك العلاقة الملتبسة بين ذات أنثوية شغوفة بالحرية، وعالم ذكوري قامع، يسعى إلى ترسيخ الطوطم العاطفي، وتأبيد النظرة الأخلاقية الضيقة للمرأة. ويتحول هذا الخوف إلى ندم، في قصائد كثيرة، يضيء شعوراً تراجيدياً بالخيبة، تنوء به الذات المتطلعة إلى تجاوز الرؤيا النمطية والمفهوم المسبق. ولأنّ الشاعرة تعي جيداً ثقل النظرة البطريركية، التي تحنّط صورة الأنثى داخل نسق معرفي ساكن، نراها ترسم مشهداً قاتماً للفضاء الاجتماعي والأخلاقي الذي يحيل المرأة سجينةً تصدأ القضبان على أصابعها، ويهرب منها الضوء: «أقف/ متشبثةً بقضبان نافذتي/ تصدأ يداي/ وتسخر مني الشّمس» (ص 9)، وهذا يجعلها ترفع الصوت، وتخاطب أمها، رمز الطمأنينة المفقودة، لتقول: «اخلعيني كضرسٍ مسوّس/ كمسمارٍ معوَج» (ص 11). وتتعمق الصورة الكئيبة، في قصيدة أخرى، حين تصور الشاعرة قسوة الواقع الذي يهددّ رهافة الحلم، ويحارب رغبة ترفضُ أصلاً أن تتحقّق: «عرفتُ أخيراً/ كيف أصون رهافتي/ عرفتُ كيف أكونُ/ حطّابةَ حلمٍ خشبي» (ص 63). ولأنّ الشاعرة بارعة في اصطياد الخيبة، ولملمة شظايا روحها، نراها تصحو مراراً على رغبات مكبوتة، وشهوات غامضة لا تتحقق أبداً. وإذا كانت الأمّ، الحاضرة بقوة في كثير من قصائد الديوان، ترمز الى الأمان ودفء البراءة الغائبة، فالأب يجسّد القلق، لأنه يرمز الى سلطة عليا، اجتماعية وأخلاقية، تراقب وتحاسب: «في أقفاص الحلم/ لا يجد أبي سوى الريش» (ص 18).

وللإمساك بخيوط التجربة الداخلية، تلجأ الشاعرة إلى التقشّف اللغوي، معتمدة أدوات بلاغية بسيطة، ومتجنبة الوقوع في الطلسمية التي تميز عادةً التجارب الشعرية الأولى. ونرى الإيحاء، المستند إلى وضوح اللمسة، أقوى تلك الوسائل، كما في قولها للتعبير عن حال سكون تلفّها: «جرسُ الباب صامتٌ/ ثمة أخرسٌ يقف خلفه» (ص 70). وغالباً ما نجد جملتها قصيرة، خالية من الزخرفة الفائضة، ترتكز على الدلالة العارية، وما تولّده من إرهاصات سيكولوجية ومعنوية، كقولها: «أمرّن لساني على لعق الماضي/ مهما كان لاذعاً» (ص 17)، أو عبر إيقاظ التشبيه القائم على توتر الدلالة وتناقضها، كما في قولها: «أنا... كأوّل كلّ موسم/ متقلّبة./ صوتي مصيدةٌ بدائية/ لا يقع فيها غير الوحوش» (ص 30) أو عبر استخدامها الأمثولة المجازية، التي تعتمد الدمج بين نقيضين، كالمطر الذي يرمز الى الطهارة، والوحل الذي يرمز الى التلوث.

والديوان، كما نوهنا، قائم على قصائد قصيرة، موجزة، ومكثفة، فقيرة البلاغة، غنية الإيحاءات. ففي التعبير عن مشاعر الحب، لا نرى الشاعرة تلجأ إلى العبارة النمطية الجاهزة، بل تفاجئنا بإشارات غير متوقعة، في استعادة غنائية لجماليات القصيدة الوجدانية، كقولها: «أريد أن أراكَ/ في مدينة مسحوقة/ لأعرفَ سرّكَ الشاهق» (ص 19)، أو كما في تعبيرها عن حال قطيعة عاطفية، واستخدام التشبيه القائم على مقارنة تضادّية، كما في قولها: «أدير ظهري لذاك الواقف/ كفزّاعة حقل/ يلمسني فأصيرُ الفزاعة» (ص 47). وإذا كانت الأحجية تكمن في عدم القدرة على فهم الجسد، أو تفسير شفراته الغائرة وتأويلها، فاللجوء إلى المعجم الفرويدي يصبح مبرراً، لتستقي منه الشاعرة إيحاءات مكتومة عن اللذة الغائبة، كاستعارة الضباب التي تشير إلى قوة خفية تهدّد استقلالية الأنا، وترمي المتكلّمة في مهب السؤال والحيرة.

ولن ننسى أن عنوان الديوان يحيل إلى امرأة ضبابية تريد أن تستعيد صحوها، وهي لا تزال تربّي أنوثتها كقرنفلة غافية، وتتسلّح بتعويذة الأم لكي تحمي براءتها من خطر داهم يحيق بها: «كل ليلة/ تشمّني أمي/ لتوقن أن القرنفلة/ ما زالت غافية» (ص 62). هذه العودة إلى براءة منسية، تستدعي استحضار صورة سندريللا، المكتنزة بدلالات الهجر والحرمان، وهنا تدوّن الشاعرة لمُعاً من حزن دفين، يفصح عن معاناة خفية: «وحدها الريح/ تطرق بابي/ سندريللا أنا/ وحذائي ابتلعتهُ الساعةُ الثانية عشرة» (ص 21)، وفي كل هذه الإشارات، ثمة رغبة ملحّة في تصوير عالم كئيب يحاصر الحلم الأنثوي، وترصده عين الشاعرة بحذر وأناة، عبر استخدام العبارة المقتضبة، اللاذعة، والتمسّك بدلالات القلق والخوف، وتسليط الضوء على الفراغ العاطفي الذي تعيشه المرأة في مجتمعات قائمة على العنف النفسي والفكري والسيكولوجي.

إنّ قصائد الإبراهيم لا تخلو من وميض الاختلاف، ومن رغبة حقيقية في البحث عن فضاء شعري جديد في الرؤية والأسلوب. ولعل صوتها يمثل بداية واعدة لشعرية تنحرف عن التجريد الذهني، وتتخطى ضبابية المجاز السائد، وتذهب في ثقة إلى غايتها، متسلحةً بالنزر اليسير من الصّنعة، والكثير من المكاشفة الداخلية.

عابد اسماعيل

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...