إشكالية السلطة العلمية بين هيمنة سلطة الفتوى وتغييب العقل

09-06-2007

إشكالية السلطة العلمية بين هيمنة سلطة الفتوى وتغييب العقل

ان الخبرة الإسلامية قد طورت مفهومين أساسيين للقوة. الأول، هو السلطة السياسية والذي انعكس بشكل كبير في مفهوم العصبية، والثاني، مفهوم السلطة العلمية أو الثقافية، حيث في المرحلة الأولى والتي تشمل عصر النبوة والخلفاء الراشدين كان هناك المزج بين السلطتين السياسية والعلمية، أما المرحلة الثانية والتي تمتد من الدولة الاموية وحتى زوال الخلافة العثمانية في أوائل القرن الماضي كان هناك انفصال ما بين السلطتين، فالسلطة العلمية في الخبرة الإسلامية طغى عليها الجانب الديني، وهذه السلطة تنوعت ما بين الاستقلال والتابعية للحاكم وخصوصاً علماء الطبيعة والذين لم يبرز دورهم السلطوي كما كان موجوداً لدى الفقهاء الذين دخلوا في صراع حول مدى امتلاكهم السلطتين السياسية إضافة إلى العلمية، على كون أنهم هم الذين يعطون شرعية لممارسة السلطة السياسية (الحاكم) حيث ان الفقهاء ما فتئوا يدعون أهلية الرقابة على السلطة السياسية وحقهم في ذلك ولكن على درجات. فغالبيتهم ركنت الى مفهوم «النصيحة» وهو مفهوم يضبط علاقة العالم بالحاكم لمصلحة الأخير، فليس على العالم بحسب ما ذهب معظم الفقهاء أن يثور على الحاكم حتى لو تفاقم جور هذا الأخير، عليه ان يقدم اليه «النصيحة».

الواقع، ان القصد العميق للفقهاء هنا هو ان يظهروا لصاحب السلطة أنهم ليسوا علماء شريعة معيارية وحسب بل علماء بالسياسة يلتجأ إليهم في أمورها... وبهذا حاول الفقهاء ان يضمنوا لانفسهم احتلال موقع الاستشارة لدى الحاكم. وعلى جانب آخر هناك فقهاء تمسكوا بما اعتبروه الوضع الطبيعي إسلامياً للعلاقة بين الشريعة والسياسة وان هذه فرع لتلك، وما دام الأمر كذلك في زعمهم فان للفقيه السلطة العليا في دولة الأمة، وهكذا لم تقدم الفلسفة الإسلامية مشروعاً بديلاً مما كان قائماً أو مما كان يقدمه الفقيه. وحده هذا الأخير كان يحاول مراقبة السياسة باسم أولوية الشريعة، فيذهب أحياناً - وبحسب الأشخاص والظروف - إلى المدى البعيد فيلتزم هذه الأولوية ويلزم بها، وأحياناً أخرى يحاول الوصول إلى تسوية ما مع السلطان القائم. لقد ظل الفقيه يحتكر السلطة العلمية في غياب منافس جدي بين أصناف حملة العلم الآخرين ويبسطها على العامة ويفاوض بها الحاكم أو يلزمه بها بحسب الأحوال، وهذه تشكل إشكالية خطيرة ما زالت لها تداعياتها الخطيرة على الثقافة العربية في الوقت الحاضر. ومن هنا فان السلطة العلمية في أحد جوانبها الأساسية والمتمثلة في سلطة الفقهاء قد طورت من ركائزها في سبيل تعظيم قوتها، وكانت أهم هذه الركائز «الفتوى» وخصوصاً التي تتعلق بقضية عامة. وقد تكون هذه القضية من قبيل «النازلة» أي ممارسة مجتمعية لا يوجد لها مثيل فيما خبره الفقهاء السابقون، فيكون على الفقيه المستفتي ان يستنبط لها حكماً في إطار الجهاز التشريعي للمذهب الذي يتبعه. وبدأت تظهر خطورة الفتوى السياسية هذه في المجتمعات العربية في العصر الحديث والذي ظهر فيه الكثير من المستجدات التي كانت تستلزم من الفقيه ان يجد لها ما يتوافق معها مع الشريعة. الا أننا نلاحظ ان الفتوى سواء تعلق الأمر بالنوازل كما في مجتمعاتنا القديمة أو بالتنظيمات والعوائد التى عرفتها المجتمعات العربية في العصر الحديث، فان هدفها واحد وهو بسط سلطة الشريعة على المجتمع، أي بسط السلطة العلمية للفقيه. وبدأت تظهر خطورة الفتوى في الحياة المعاصرة مع صعود التيارات التى سميت «أصولية» والتي أعادت الفتوى الي سلطتها خصوصاً لدى فئات الشباب المرتبطة او المتأثرة بهذه التيارات، هذا على رغم وجود الجهة التقليدية للفتوى. وهذا النوع من الفتوى مختلف تماماً عن الفتوى التقليدية، فهي، أولاً: لا تعترف بالفتوى الرسمية ولا تعترف بالشرعية العلمية المؤسسية او الرسمية مثل مؤسسة الإفتاء الرسمي، وهي ثانياً: فتوى سياسية أو على الأصح يتخذ أصحابها موقفاً سياسياً ثابتاً من النظام والمجتمع القائمين وهو موقف المعارضة الكلية وعدم الاعتراف، وهي ثالثاً: فتوى تنطوي على سلطة باعتبارها تدعى امتلاك القول الفصل ووجوب فرضه. فنحن في هذه الحالة ابعد ما نكون عن الفتوى/ الرأي، أو الفتوى/ الاجتهاد. وهنا تكمن الإشكالية.

والتساؤل الذي يطرح نفسه الآن ما هو التطور الذي حدث في مفهوم السلطة العلمية في سياق الخبرة العربية الإسلامية؟ نلحظ أن الواقع الحالي، وعلى رغم مرور مئتي سنة من دخول النهضة الحديثة الى المجتمعات العربية، يشهد ما يشبه حالة الطغيان والهيمنة لسلطة الفقيه والتي ازدادت خطورتها بظهور سلطة الفتوى لدى الجماعات الراديكالية التى وجدت أرضاً خصبة وأنصاراً لها لتفرض سلطتها، ليس فقط على تابعيها، وانما على المجتمع والقوى الرسمية الموجودة فيها وكل ذلك تم على حساب العقل والأنواع الاخرى للسلطة العلمية... وخصوصاً اذا كانت الخبرة الإسلامية لم تعدم هذه الأنواع في السابق، فقد ترك العلماء والفلاسفة المسلمون إبداع إنساني في مجالات الفلسفة والطب والفيزياء والرياضيات، الخ... إلا أن وجه الغرابة يكمن في ان على رغم أن العصر الحديث يتميز بسيطرة السلطة العلمية والمعرفية إلا اننا نجد مجتمعاتنا على العكس طغت فيها في مقابل ذلك السلطة الدينية بتنويعاتها المختلفة والتي تطورت ركائزها المختلفة المتمثلة في الفتوى وخرجت من مجال السلطة الفقهية التقليدية الي ما يشبه العشوائية في صور جماعات أصولية متطرفة تستخدم الفتوى كسلطة تواجه به ليس السلطة السياسية الرسمية وانما المجتمع نفسه.. وهنا نلاحظ ان السلطة السياسية بمراحلها التي تتطورت بها في الخبرة العربية الاسلامية كانت سبباً بشكل مباشر لطغيان سلطة الفقيه على الأنواع الأخرى للسلطة العلمية، فالأولى هي قرينة لفترات الانحطاط والاستبداد السياسي التي أعقبت فترة الازدهار في الحضارة العربية الإسلامية والتي لم تزدهر فيها ليس فقط العلوم الطبيعية وانما العلوم الفقهية اتسمت نفسها بالتنوع والعقلانية مما أدى الى تضاؤل تأثير الدور السلبي للفقهاء على المجتمع، هذا على عكس الوقت الحاضر الذي بات للفتوى - ليس المهم من قائلها أو ما مدى أهمية الموضوع - دور خطير يحرك ليس فقط المجتمع بل الأجهزة الرسمية للدول... وهو ما يضع اكثر من علامة استفهام حول استفحال سلطة الفتوى في مقابل تغييب سلطة العقل، خصوصاً اذا كانت هذه الفتاوى في معظمها تتعلق بأشياء شكلية لا تمس جوهر الوجود والحياة للبشر... وهو ما يعني أننا أصبحنا في مقابل غياب ركائز القوة والسلطة العلمية الحقيقة واقتصارها فقط على أمور الدين أمام حالة من هيمنة الخرافة والدين وقدرتهما على التأثير في المجتمع هو مؤشر على الضعف وليس القوة.

عزمي عاشور

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...