إنهيار الايديولوجيا يغتال المذاهب الأدبية

28-01-2007

إنهيار الايديولوجيا يغتال المذاهب الأدبية

المذهب ظاهرة من ظواهر الفكر البشري , اذ لكل انسان ذاتيته من حيث تميزه بملامح وجهه ونبرات صوته وبصمات اصابعه.

وهو سمة تقتصر على الفنون والعلوم الانسانية والاجتماعية. فقد تتلاقى افكار فئات من الناس في مجالات الدين والفلسفة والاخلاق والفن والادب و الاقتصاد, ثم تصب في قنوات محددة الملامح لتتشكل بعد ذلك في تيار, او تتجلى في اتجاه او تتبلور في مذهب وفحوى ذلك ان جذور هذه المذاهب الادبية لا تعدو ان تكون في بادئ الامر وجهات نظر آلت في النهاية الى اصول محددة ومبادئ مقررة.‏

و على صعيد الادب فلم يعرف العرب المذاهب الادبية بمعناها الدقيق وان ظهرت لديهم ملامح التمذهب, من مثل ما لاحظه الاصمعي لدى الشاعر زهير بن ابي سلمى وابنه كعب والحطيئة من تشابه في المنحى الفني حين جعلهم في مدرسة شعرية واحدة اسماها عبيد الشعر ومن خصائصها حرص الشاعر على اعادة النظر فيما ينظمه من شعر, وتنقيح قصائده وتجويدها, وكأنه ارتضى لنفسه ان يكون عبدا لفنه المنشود الذي جعله متبغاه وغايته.‏

,من هذا القبيل ايضا ظهور شعر الغزل العفيف او العذري في العصر الاموي بسماته المميزة وقد عرفت به قبيلة بني عذرة في مقابل الغزل الحسي المعهود. وتمرده على التقاليد العربية السائدة وخروجه على عمود الشعر العربي ا لموروث ثم ما كان بعد ذلك من ظهور مذهب البديع اي الجديد في اسلوب التعبير ومنحى التصوير, وقد جنح اليه اول الامر شعراء مجددون مثل بشار بن برد ومسلم بن الوليد, ومن بعدهما ابو تمام وابن المعتز وكلهم جد في طلب الصنعة في الشعر والاغراب في صوره كل ذلك في مقابل ما كان سائداً لدى سائر شعراء العصر العباسي ذوي النزعة المحافظة السائدة والمنحى التقليدي الموروث وفي طليعتهم البحتري وامثاله في عهود الادب العربي السالفة.‏

وفي القرن العشرين من الحقبة العربية الحديثة ظهرت في الادب والفن اتجاهات معاصرة قوية تدعو الى التجديد والتحديث ومواكبة تحولات العصر وتسارع نبض الحياة وكان من اهمها ما دعت اليه جماعات ادبية في مصر والمهجر وكان في طليعتها ما عرف باسم جماعة ( الديوان) التي حمل لواءها عباس محمود العقاد وابراهيم عبد القادر المازني وقد واكبها في الوقت نفسه بعض ادباء الرابطة القلمية في الولايات المتحدة الاميركية ومن اقطابها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وايليا ابو ماضي.‏

تأسست في مصر جماعة ابولو بمبادرة من الشاعر احمد زكي ابو شادي, وكان قوامها كسواها احياء الشعر العربي وتجديده وتخليصه من الجمود على ان مجمل هذه الحركات في القديم والحديث كانت في واقع الحياة الادبية نزعات فنية ونقدية عارضة تسربلت احيانا بسمات مذهبية نتيجة مبادرات فردية جريئة وطموحة, فلم يقدر لها ان تتنامى وتتضافر حتى تتخلق في صورة مذهب مكتمل الملامح محدد المعالم .‏

كما انها ولعل هذا هو الاهم كانت تفتقر الى ما تقتضيه طبيعة المذهب الادبي وهو الارتكاز الى منطلق فكري أوخلفية فلسفية.‏

ومثل هذه القاعدة الوطيدة كان اساس انبثاق المذاهب الادبية في اوروبا ومع ذلك فإن البلاد الغربية ومنها المانيا وروسيا واسبانيا لم تعرف المذاهب الادبية على نحو مطرد متكامل كالذي عرفته فرنسا, وعندما يطلق القول بصدد هذه المذاهب فإن القصد يتجه بالاجمال الى الادب الفرنسي .‏

لقد ظهرت الحركة الكلاسيكية مع بداية النهضة الاوروبية الكبرى Renaissane التي تعني الولادة من جديد. وكان قوامها العودة الى المنابع والجذور وبعث تراث الاجداد الاصيل الذي خلفه اليونان والرومان ولا سيما في مجال الآداب والفنون.‏

وكان ان ولدت بذرة الكلاسيكية في ايطاليا التي احتضنت جموع النازحين عن القسطنطينية أثر سقوطها بيد الاتراك, في نهاية القرون الوسطى, ومعهم نفائس المخطوطات اليونانية. غير ان هذه البذرة ما لبثت ان نمت وترعرعت في فرنسا ثم امتدت لتشمل معظم الغرب الاوروبي.‏

وقد ترسخت الحركة الكلاسيكية في صورة مذهب ادبي ابان القرن السابع عشر الذي لقب بالعصر العظيم او العصر الذهبي. وكان ثمة منظرون اوائل وطدوا أسس هذا المذهب وقواعده وفي طليعتهم الشاعر الفرنسي ( بوالو Boileau) عبر مطولته الشعرية ( فن الشعر L Art poetipue وكان افكار ارسطو ومعظمها في صدد المسرح عمدة هذا المذهب وجوهر الكلاسيكية Classicisme دعوة الى محاكاة نوابغ السالفين واستيحاء اعمالهم الاصلية واتباع اساليبهم البليغة ومن هنا يعرف ايضا دعاة الكلاسيكية في الفنون والآداب ( بالاتباعيين ) او اصحاب المذهب الاتباعي اذ كانوا يرون في ادب اولئك الاغريق خير ادب اخرج للناس فهو لذلك جدير بالاتباع والاقتداء.‏

ولقد قيض للحركة الكلاسيكية ادباء افذاذاً رفدوا الحياة الادبية في أوروبا بروائع ادبهم التمثيلي مثل كورني وراسين في مجال المسرح الجاد ( التراجيديا Tragedie) ثم موليير على صعيد المسرح الهازل او الساخر Comedie .ومن ابرز سمات الادب الكلاسيكي الاهتمام بالانسان من حيث طباعه ومنازعه وما ينطوي عليه من خير وشر وحب وبغض ورحمة وقسوة وايثار واثرة, وتضحية وجبن, وشهامة وغدر كما كان الاسلوب البليغ والفصيح والتعبير الجزل والخيال المعتدل اهم مقومات هذا الادب.‏

على ان شمس الكلاسيكية قد اذنت بالمغيب حين اخذ نجم الرومانسية بالصعود وذلك على نحو جارف في اواخر القرن الثامن عشر فقد طلعت على الملأ طبقة برجوازية ناهضة ازاحت الطبقة الارستقراطية عن مجتمعات الرب وراحت تزداد غنى ومضاء بعد نجاح الثورة الفرنسية وإثر حدوث الانقلاب الصناعي الكبير والتقدم العلمي والتكنولوجي الباهر.‏

وكان الطابع الانقلابي على الصعيد السياسي والفكري والاجتماعي والاقتصادي اهم سمات هذه الحقبة الحافلة بكل جديد.‏

دعا الرومانسيون الى نبذ عبادة الماضين والتحرر من سلطان ادب الاغريق واللاتين وطالبوا بالتطلع الى حاضر الامة واحتضان المبدعين المعاصرين فالله قد جعل الخير والفضل في كل جيل كما تجرؤوا على نزع القداسة عن ارسطو وافكاره,ولا سيما قانون الوحدات الثلاث في المسرح ( وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة العمل اي وحد الموضوع) وما يتصل بذلك من شرائط ومواصفات.‏

وتركوا لكل انسان , او لكل مواطن ولكل اديب ان يعبر عن افكاره واحاسيسه بحرية مطلقة لأن مجالات الابداع ليس لها حدود. وكان من اكبر دعاة الرومانسية ومنظريها في هذه المرحلة في فرنسا الشاعر والروائي والكاتب فكتور هوغو Hugo الذي سخر بقوة من تزمت الكلاسيكيين كذلك عرفت الرومانسية اعلاماً بارزين ولا سيما في مجال الشعر الغنائي والادب الروائي, وفي طليعتهم هوغو ولامارتين وشاتوبريانا وألفريد دو موسيه وألفريد دو فيني .. وكان ادبهم مفعماً بالعذوبة, فياضا بالمشاعر مجنحا بالخيال.‏

كذلك سمي المذهب الرومانسي ايضا باسم المذهب الابتداعي في مقابل الطابع الاتباعي في الكلاسيكية فهو ادب ذاتي وجداني الى ابعد مدى. وغلب على الرومانسيين حب الطبيعة وتمجيدها كما اتشح جانب من ادبهم بروح التشاؤم واستمراء الالم وكثرة الشكوى.‏

واكثر الباحثين لا يرون في الرومانسية مذهبا ادبيا محدد المعالم دقيق الملامح انما هي لديهم حالة نفسية طاغية كثيرا ما تتجاوز الشعراء والكتاب لتعم سائر الناس وتنتظم الحياة والعصر, او هي جملة مظاهر ثورية متمردة على الاعراف والمورثات وسائر المواضعات السالفة. ومن هنا, وبهذه الدلالة الواسعة, سادت الرومانسية ارجاء اوروبا كلها كما تجلت في بلدان كثيرة اخرى بعيدا عن القارة الاوروبية مثل سورية ولبنان ومصر وتونس وذلك بسبب الظروف والاحوال المشابهة التي شملت معظم المجتمعات الناهضة في العالم..‏

وقد انجب هذا العصر الثري في ابان القرن التاسع عشر اعلاما (كباراً) من الرومانسيين مثل بايرون وشلي وكيتس وردزووث في انكلترا وغوته وشيلر في المانيا وبوشكين في روسيا فضلا عن نوابغ الادب الرومانسي في فرنسا نفسها وهم الاكثر عددا والاغزر عطاء.‏

غير ان دوحة الرومانسية الوارفة أخذت في الذبول بعد ان اسرف ادباؤها في الشكوى والنواح,وتمادوا في اظهار نوازعهم وهواجسهم, حتى كادوا ينغلقون على انفسهم وينعزلون عن محيطهم.. وكان لابد ايضا من النهاية.‏

وهكذا انحسرت موجة الرومانسية بعد عهد حافل بالالق والابداع , واخذت تتلاشى في ضحى القرن العشرين, لتظهر على انقاضها من جديد مذاهب ادبية جديدة ومتعددة هذه المرة, على نحو لم يعهد من قبل.‏

كان في طليعة المذاهب ا لادبية التي تفجرت في اعقاب غروب شمس الرومانسية, المذهب الواقعي, ومذهب الفن للفن, ثم المذهب الرمزي والمذهب البرناسي, واخيراً المذهب الوجودي ومذهب الالتزام والمذهب السريالي واللامعقول .. الخ وهي في معظمها مغايرة للرومانسية بل مناقضة لها.‏

وقد تعارضت هذه المذاهب تقريباً وتعايشت او تصارعت في اوقات متقاربة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر, وامتد بعضها الى العقود الاولى من القرن العشرين بل الى ما بعد الحرب العالمية الثانية,كمذهب الالتزام والمذهب الواقعي الاشتراكي.‏

ولكن اكثرها لم يقدر لها ان تعمر طويلا في الساحات الفكرية والفنية والادبية.‏

ومن يتتبع نشوء المذاهب الادبية والفنية في اوروبا يلاحظ توالد بعضها من بعض بوجه عام وذلك على نحو من الفعل ورد الفعل. فالرومانسية طلعت على الملأ كردة فعل تجاه عقلانية الكلاسيكية وسلفيتها المفرطة. كذلك برزت الواقعية كردة فعل ايضا تجاه تهويمات الرومانسيين وذاتيتهم الضيقة, وبعدهم عن واقع حياة الناس . ثم ظهرت الرمزية كردة فعل اخرى تجاه الواقعية ونضوبها ا لعاطفي وابتذال لغة التعبير فيها, وفقرها بعنصر الخيال والتصوير.‏

وعلى هذا الغرار مضت المذاهب الادبية في مسيرتها الحافلة, وامتدت طوال ثلاثة قرون تقريبا في اوروبا الى ان استنفدت اغراضها او كادت في نهاية المطاف.‏

واليوم ومع بزوغ قرن آخر جديد, وفي غمار عصر مفعم بكل حديث وطريف , لم يعد للمذاهب الادبية في الحياة الفكرية والنقدية والثقافية شأن يذكر. لقد صوحت اوراقها وانحسر ظلها, وفقدت ألقها. على حين ظلت الفنون والآداب دائبة في ابداعات لا تنضب, ومستشرفة آفاقاً لا تحد.‏

والعالم نفسه اليوم, على اتساعه, بات يضيق بالمذاهب كلها, اجتماعية وفكرية وفلسفية وادبية وايضا سياسية.‏

وهذا الوضع الجديد المعاصر ناجم عن انهيار الايديولوجيات,هذه الايديولوجيات التي ملأت الدنيا وشغلت الناس عهودا من الزمن والتي تشكل بالاجماع القاعدة الوطيدة للمذاهب الادبية.‏

د.عمر الدقاق

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...