اقتحام الغرف السرية لبورخيس

28-03-2007

اقتحام الغرف السرية لبورخيس

أصدر الباحث والمترجم المغربي محمد آيت لعميم أخيرا كتابا بالغ الأهمية يضع القارئ من خلاله أمام تلك الصورة الكبيرة التي تشغل حيزا شاسعا في غرفة الأدب. أقصد صورة الكاتب العالمي خورخي لويس بورخيس. تكمن أهمية الكتاب في كونه يشمل أعمالا لبورخيس (محاضرات حول مفاهيم أدبية وفلسفية) وأعمالا أخرى عنه كتبها كل من جورج أروين وأمبرتو إيكو وليلى بيرون موازي وعبد الفتاح كيليطو وخوان غويتيسولو وآرون كيبيدي فارغا وبيار ماشري وأنطونيو تابوكي، إضافة إلى مكاشفات بورخيس واعترافاته من خلال الحوارات التي أجريت معه واستهل بها المترجم كتابه "خورخي لويس بورخيس أسطورة الأدب".
في مقدمة الكتاب، يجيب محمد آيت لعميم بشكل استباقي عن سؤال قد يطرحه القارئ "لماذا بورخيس؟": "إن المفكرين اليوم يحتاجون إلى ذكاء بورخيس، فهو كاتب يورث الذكاء، والقصاصون يحتاجون إلى أن يتعلموا منه كيف يبنون عوالم قصصهم التخييلية ويقولون من خلالها فلسفاتهم وأفكارهم، والفلاسفة يحتاجون إلى ريبيته وقلقه الدائم، والأدباء والكتاب والقراء في حاجة إلى موسوعيته وقراءاته، إذ بورخيس قارئ أكثر مما هو كاتب، والمتحذلقون يحتاجون إلى تواضعه وخجله الفطري".
يؤثر المؤلف أن يفتتح مواد كتابه الشيق بحوار مع ماريا قداما، زوجة بورخيس، كان أجراه معها في المنزل الذي استأجرته في مدينة مراكش خلال إقامتها هناك من اجل الإعداد للاحتفال الكبير بمئوية بورخيس، الذي أقيم في خمس مدن عالمية: باريس، مدريد، بوينس آيريس، جنيف، ومراكش طبعا.
تعود ماريا إلى طفولة بورخيس حيث كان لجدته الإنكليزية البروتستانية فضل كبير في إغناء رصيده من المعرفة والخيال من خلال قراءة الإنجيل على مسامع حفيدها وسرد قصص "ألف ليلة وليلة" وأساطير الهنود الحمر ومرويات ثقافة المايا، إضافة إلى ما قدمه له والده من شروح دائمة لمذهب الفلسفي المثالي.
كان بورخيس محظوظا لأنه عاش منذ طفولته في أحضان السرد والفلسفة، إذ تحكي ماريا عن عدد من الصفات اتسم بها زوجها ويمكن إجمالها في النقط الآتية: الهوس الكبير بالقراءة، عشقه للنمور، ميله للصدامية والسباحة ضد التيارات السائدة، حبه للثقافة العربية والشرقية عموما، افتتانه بشوبنهاور إلى حد أنه تعلم الألمانية من أجله.
كان بورخيس عاشقا للعالم، راغبا في الاقتراب من المعرفة الكلية. تقول زوجته إن إدمانه القراءة في المقهى والمكتبة والقطار هو الذي عجّل في عماه، وليس غريبا أن يعلن بورخيس في أواخر حياته أنه لا يريد أن يترك هذا العالم قبل أن يتعلم اللغة العربية. من أجل ذلك استقدمت زوجته أستاذا مصريا وكانت تتكفل هي رسم شكل الحرف العربي على راحة بورخيس كي يدركها.
استطاع آيت لعميم في حواره مع زوجة بورخيس أن يستدرجها إلى الحديث عن مدينته، مراكش، التي كان بورخيس عاشقا لها وتمنّى أن يعيش فيها، ووصف ساحة جامع الفنا في هذه المدينة بأنها مكان ساحر يجسد أحلامه الطفولية.
في الحوار الذي نقله المترجم عن "لو ماغازين ليتيرير" الفرنسية، يكشف بورخيس عن مرجعيته القرائية الشاسعة، وعن تحولاته الكبرى في خصوص تلك العلاقات السرية والمعلنة التي كان ينسجها مع المقروء، مبررا انتقال شعوره إزاء بودلير من العشق إلى الحذر. الشيء ذاته سيقع مع إدغار ألان بو وجلّ الشعراء والروائيين الرومنطيقيين، ليجد البديل في أعمال والت ويتمان حيث الإحساس بالسعادة الحاضرة والآنية لا تلك السعادة المرجأة التي يشغل مكانها الآن حزن متوهم أو حقيقي. يذهب بورخيس في هذا الصدد مذهبا متفردا إذ يرى أن الكاتب عليه "أن يلزم نفسه واجب أن يكون سعيدا بدل أن يلزم نفسه واجب ان يكون تعيسا أو مهمشا أو محتاجا الى الشفقة".
هذه النظرة المتشامخة الى الفن والى الكائن الخلاّق أو المتلقي، هي التي تسم أعمال بورخيس، حيث الانتصار لما هو إنساني، وحيث شمس المعرفة تغطي ذلك العتم الذي يخلقه الفراغ والإحساس بالضحالة والكآبة.
لا ينتصر بورخيس كثيرا للحيل والألاعيب السردية التي تحملها أعمال فولكنر أو حتى بروست. تجذبه أكثر فتنة السرد، لا القناع الذي يتزيا به، لذا سيتوب هو نفسه عن اقتراف ذلك معلناً أن لا جدوى من إضجار القارئ عبر تعقيد المسالك السردية وتوظيف شخصيتين مثلاً تحملان الاسم نفسه أو اسمين متشابهين في نص واحد.
تتبدى رمزية العنوان، "بورخيس أسطورة الأدب"، في الصفحات الداخلية بشكل معلن، انطلاقا من مواقف الكاتب، لن أقول السياسية أو الايديولوجية، إنما أسمّيها الإنسانية، وهذه هي الصفة الأنسب لكاتب في حجم بورخيس.
اقترح المترجم في كتابه اثنتين من أهم محاضرات بورخيس، "الاستعارة" و"الزمن"، وإذا كان القارئ يجد متعة جلية في قراءة الأولى التي تدرس الاستعارة في الآداب اللاتينية والاسكندينافية والأنكلوسكسونية والعربية وغيرها، فإنه في الضرورة سيحسب القلق والتوتر وهو يحاول تتبع الخيط الفلسفي الناظم لأفكار المحاضرة الثانية. ذلك أن بورخيس في مقاربته مفهوم الزمن، سيستدعي مفارقات زينون وتساؤلات القديس أغسطينوس ومقولات هيراقليطس وأفكار شوبنهاور وتنظيرات جيمس برادلي وعدد من الرياضيين والفلاسفة بغية الاقتراب من الإجابة عن سؤاله الجوهري: ما الزمن؟
يشمل الكتاب أيضا مقالات لكتّاب عالميين قاربوا المتن البورخيسي من مداخل مختلفة، فالكاتب الإسباني خوان غويتيسولو المقيم في المغرب يسعى إلى تبرير البناء الدائري لقصص بورخيس، بتأثره الكبير بالفكر الصوفي عموما وبالخيال الديني عند ابن عربي على وجه التحديد. ويقرأ عبد الفتاح كيليطو قصة ابن رشد لبورخيس من منظار يسائل المرجعية المعرفية المنتجة لهذا النص. ويقف أمبرتو إيكو عند إشكالية التناص، بينما يطرح أنطونيو تابوكي سؤالا غريبا: "هل وجد بورخيس فعلا؟"، متوقفا عند حكاية المجلة الفرنسية التي نشرت خبرا مفاده أن بورخيس لا وجود له وأن الوجه الذي نعرفه هو لممثل إيطالي وأن أعمال بورخيس هي من إنتاج عدد من الكتّاب اللاتينيين.
إذا كذّبنا هذه الحكاية التي تجعل من بورخيس شخصية أسطورية في المعنى الوجودي، فإننا سنصدّق في الضرورة، بعد قراءة الكتاب، أن بورخيس فعلا أسطورة، من النادر أن تتكرر في تاريخ الأدب.

 

عبد الرحيم الخصار

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...