البعد الإيماني والبعد العلمي

10-06-2007

البعد الإيماني والبعد العلمي

العلاقة بين العقل والعلم والايمان هي علاقة جدلية، قامت على الكشف بالعلم وبالمعرفة وبالعقل والاختبار الموضوعي الحسي عن اسرار الكون والانسان او الكشف بالايمان والاصغاء الى الوحي الالهي ايضا عن اسرار الكون والانسان، في تساؤل دائم قائم في قعر الكائن البشري عن سر وجوده، وسر وجود الكون وعن معنى حياته ومعنى الكون والمصير، وعن لغز وسر الرغبات والبقاء والفناء.
هذا المسار من العلاقة ما بين العلم والعقل والايمان ربما كان من اهم المسارات المحاط بالازمات والمذابح والمحرقات والممنوعات والمحرمات والتصادمات في تاريخ الفكر البشري. الرغبة المعرفية للوصول الى التأله كانت هي الرغبة الآدمية لكسر المحرم والوقوع في الخطيئة واستجلاب اللعنة والقصاص. "ان التجربة التحليلية تبين ان الارتباط بالدين هو ارتباط ومكون وليس مكونا... فمن الوهم القول ان الدين وهم. فمنذ نشوء المجتمع لم تنقطع اية جماعة عن الرجوع الى السماء لتوطيد علاقتها بالعالم ناهيك عن ان فعالية الدين الرمزية قد بنيت وما برحت بين قدراتها على الواقع وعلى تلطيف قلق الانسان بمواجهة العالم" (النشرة المعرّفة بموضوع المؤتمر).
الصوت الذي سمعه آدم اتى من الداخل. الحية التي خاطبته هي اعماق الذات، ورغبة التأله والمعرفة هي pulsion تنفض داخلي مشحون بتوهج النار المقدسة. وهو يبقى لذاته سؤالا وسرا عميقا من هنا عظمته وشقاؤه في آن واحد.
ان آدم لم يكن يتعزى على كونه ليس الها. ولم يكتف ولم يشفَ من سأمه وضجره من وجود نصفه الثاني معه: حواء. الشوق للألوهية لم يكن مضافا اليه بل هو فيه منذ ملامسته يد الذي خلقه. الوهيته وترابيته فيه، منذ البدء. الشوق مكون لذاته، وليس مضافا اليه بل هو ينبت من دمه وقلبه واحشائه وكبده. هو نسيج فيه كما لحمه وعظامه. لذلك كانت المعرفة او العلم او العقل هي باب التأله والاكتمال الذاتي الانساني كما طرحته الفلسفة الغنوسية. الكشف للتأله يأتي بالتدرج المعرفي والاستسلام الصوفي له. المعرفة او العلم طالب بهما العقل الاغريقي وبعده العصور التنورية وخاصة مع الفكر الموضوعي الاختباري الحسي الوصفي الشمولي مع اوغست كونت. وعند العرب كل هذا الفكر المعرفي العقلي العلمي مع ابن رشد مما سبب له الاضطهاد والشجب والادانة.
هذا العقل او هذه الرغبة بالتأله تُنسي الانسان انسانيته ومحدوديته ومعطوبيته، ليتوق الى الملء والاكتمال وهو في التراتبية والد لغان و"الآدمه" فبنى لذاته برجه البابلي فجعل ذاته نديم الله وصار واحدا من الله. اشتاق ليصبح اله ذاته. فانتحر وغرق في الموت اذ اغلق نبع افق الالوهة الذي ليس منه وفيه ومات فيه التصوف والاشتياق.

وبقيت المأساة مستمرة في هذا المسار من الفصل بين العقل والايمان. وبعد ان وصلت الفلسفة الى حد مستقل ومعزول عن محتوى الايمان. هذه الازمة ولدت العدمية او الفلسفة العدمية دون امل بالتوصل الى الحقيقة. لأن كل شيء عابر ووقتي. ولم يدفع الى معرفة قادرة الى الوصول الى ارقى اشكال الفكر النظري دون البقاء في ذهنية وضعية، ولا تقبل اية مرجعية او اية رؤية ميتافيزيكية واخلاقية وادبية. هنا ازدادت التوترات بين العقل والعلم والايمان ويبقى السؤال الكبير كما يلي هذا المرجع هو الاستناد الى العقل المغموس بالايمان ليصل كما هي الحال اليوم، الى العنف الديني بوصفه مقدسا ورسالة سماوية، وليس جريمة وارهابا وخطيئة وشرا يصبح فيه سفك الدم، دم الناس الابرياء ذبيحة مقبولة لدى الله كفعل المحرقات في ازمنة التفتيش وندخل ملتزمات تضحوية مبررة دينيا تحت اسماء لا يجرؤ احد على نقدها او نقضها والا اتهم بالكفر بالخيانة واهدر دمه وضع عليه حد السيف. اليس هذا ما اصاب فرج فودا وحسن حنفي ونصر حامد ابو زيد والمعتزلة في القرن السابع ميلادي وابن رشد (1126 – 1198) وطه حسين وقاسم امين ومحمد عبد الرزاق.
المشكلة الكبرى هي دلالة النص المقدس او تفسيره او ربطه بالتاريخ والواقع الجغرافي والبشري. فالايمان لا يخشى العقل بل يلتمسه ويثق به. الايمان يفترض العقل ويكمله (ص69) المشكلة هي في التأمل ودخول دوائر المحظور والمحرم في الوعي الديني والخطاب الديني المؤثر دون المساس بالجانب الالهي.
العقل المستنير بالايمان يحرر من الاوهان والمحدوديات ويقترب من النص المقدس كنص مفتوح للتفسير والاجتهاد وقبول الحقائق العلمية والحداثة والنقد التاريخي. ويجد القوة اللازمة للارتقاء الى معرفة سر الله.
الايمان يتخطى الطبيعة وله طابع عقلي. المعنى ثابت. المتغير هو الاختبار والتعبير. المدلول متحرك الدال ثابت. هناك توفيق بين دنيوية العالم وجذرية الايمان. رفضت المسيحية التلوث بالفلسفة الدنيوية ولكنها لم ترفض الفلسفة الجديدة والثقافة الشاملة.

الاختبار الروحي هو اختبار مكون للطبيعة الانسانية. كما ان الاختبار العقلي هو اختبار ملازم للوضع البشري. هذا الاختبار هو بنية مكونة للشخص البشري كما هي البنيات الاساسية للذات الانسانية كالحاجة الى التنفس والغذاء. الاختبار الروحي ليس هو بنية مضافة بل هو بنية قائمة في قعر الذات الانسانية كما هو الجنس والجوع والعطش.
البحث عن الفردوس او عن هذا البعد من اللذة والسعادة والهناء هو الذي حاول العلم ان يوفره انطلاقا من الطبيعة ويحل محل الدين اي ان يصبح هو البديل الآخر او الدين الآخر الذي يحل مشاكل الموت والحياة ومعنى الوجود. وتستمر المجابهة بين العلم والدين منذ غاليليه وداروين حول دوران الارض او نشوء الكون والانسان وأصل الانسان فمنذ أوريجان في الـMonogenése او لبوليجنس قامت القيامة ولم تنته بعد.
لكننا نحن نعرف انه منذ وجود الانسان هناك دلائل عن ايمانه. وليس معتقداته وطقوسياته خصوصا في طقوس الموت والحياة والحماية والخصب وتهدئة القلق الوجودي والتساؤلات عن المصير من "الابانيشادا" الى اناشيد التصوف والعشق الا شاهد على ذلك.
في مدينة بابل يعلو بنيان يريد ان يصل الى السماء. فتبلبل الانسان من جراء هذه الرغبة التي تحاول ان تجعل المحدود لا محدوداً. هذا هو التشكيل المتنوع والموحد لرغبات التسامي والتراقي، او الشوق الى المطلق او للكيان الاكثر مما نحن عليه. هذا ليس سرابا ووهما.

هناك شبكة قائمة على كم من الشعائر والرموز والطقوس الدينية والاساطير والاعياد والحكايات والاحتفالات تعطي الانسان امانا وقدرة على ادارة الغيب وغير المنظور بدافع من عامل التهدئة والاقتراب من المقدس الخفي والالتجاء الى عدم تجاوز المحرمات والممنوعات لئلا ينفجر المقدس ويقع المحظور ويندفق القلق ولا يمكن عندها الاستعاضة والحماية فيكون الطاعون والمرض والدمار والتفكك الفردي والجماعي او هذه الحالة البابلية من الضياع وعدم الفهم والتفاهم.
اذا كان علماء النفس يبحثون عن تهدئة القلق وتطمين الشخص البشري تجاه عدم قدرته على فك رموز اوهامه وتخيلاته و"فاتسماه" فإن علماء الدين بعيدا عن الضمانات الدينية وتهدئتها العقائدية الفكرية والطقوسية، يشيرون الى مرتكز مطلق وهذا يولد امانا حتى واذا كانت الديانة وهما كما يقول البعض او افيوناً او حاجة نفسية فان الشخص البشري بحاجة بنوية لهذا الوهم الذي له وظيفيته التطمينية للكائن البشري مقابل التساؤل حول الحياة ومعناه والوجود ومعناها، والموت ومعناه. فان طقوس الحياة والموت تعزز ذلك. فان الاختبار الروحي والاختبار العلمي يتلاقيان.

هذا هو جرحنا النازف ابدا فينا "عدم الاكتفاء". كياننا في حالة عرج وجودي كما يعقوب او اوديب. يولد فينا هذا الاحتراق فنغرق في الحركات الاصولية فنصبح امراء الحياة والموت. هذا هو قدرنا ان نصارع طوال الليل في الظلمة كما يعقوب، ملاك الله، حتى يخلع لنا وركنا مع الفجر ونبقى طوال العمر حاملين نقصنا وعرجنا. غريبة هي النقيصة في لحمنا وقلبنا والتي كانت ايضا في كاهل اوديب ومنعته من السير مستقيما طابعة كيانه بهذه الديكوتومية الترابية الكتونية المولدة لمعطوبية انساننا وفجيعة وضعنا البشري ففي قلب كل انسان نهر من الرغبة والحب والمعرفة. معرفة الذات ومعرفة العالم معرفة معناه ومعنى الوجود. هذا السؤال الكياني يبحث عن جواب.
هذا الحرمان هو من بنية البشرية ذاتها المجروحة في عمق رغباتها وعواطفها وكأنها تطمح الى ارواء اوهامها في مصالحة مستقبلية. مستقبل الوهم والشعور بالذنب يولدان اما هذا القلق او هذا السحر التطميني والتهديئي المؤمن تجاه عالم الظلمة المحيط بالماورائيات وتجاه هذا الجذب اليها. وشهوة العودة الى الفردوس الارضي او الفردوس السماوي او الخروج من عالم الشقاء الى عالم السعادة والعودة من عالم الدنس والخطيئة الى عالم الطهارة والنقاء. فيهدأ بحثنا وعن الفردوس المفقود وقلقنا بالعودة الى ملء السعادة ويستقر استشهادنا وترتوي رغباتنا ويكتمل نقصنا الكياني بعدم الاكتمال فتزول رغبتنا بالتأله وشعورنا بالنقص وعدم الاكتفاء.
هناك في قعر الذات وفي اعماقها بحث عن فردوس ضائع عن عدم اكتفاء عن سعادة لا ترتوي ولا تعوض عن هذا النقص الضارب في جذور الرغبة. الاكتمال المشتهى S'identifier لا يوازي اكتمال السعادة الا في الحب او الغرق في الحب والاتصال بالآخر اللامتناهي الذي هو الله. كما هو اختيار الحلاج ابن عربي، جلال الدين الرومي، السهروري، يوحنا الصليب، تريزيا.
المتصوفون يتصلون بالحضور الالهي المفترق والآخر عبر كفرهم بالعالم وليس عبر حالات مرضية اجتماعية انتقالية تمويهية transfert فان التراقي الديني يقود الى الوصول الى الله، ويقدر عندها الايمان على فتح افق الفتح والحب والحياة والاكتفاء.
السؤال الذي يبقى دائما مطروحا هو: ما هي طبيعة الموقف الروحي بذاته، وليس هذا او تلك من مظاهره الفاشلة المحض مرضية، البحت اجتماعية؟
الديانة المرضية يمكنها ان تكون موضوعا محقا لعلم النفس، فهي بذاتها موضوع للتحليل النفسي وللمظاهر المرضية obsessionnel البرانوياك. انظر كتاب:
Antoine Vergate (Psychanalyse et Anthropologie Philosophique Charles Dessart éditeur Bruxelles 1964 p. 224. La Psychanalyse science de l'homme)
نعود مجدداً الى الاشكالية بين الدين والعقل والعلم والايمان(1)
هذه الاشكالية بين الدين والعقل وهي محاولة عقلنة الحقيقة الدينية او تديين الحقية العقلية تبقى اساسا في تاريخ الفكر والدين. العقل حاول دوماً ان يشق لنفسه فضاء فكريا فمنذ قال هيراقليطس بوجود اللوغوس، او العقل الكوني والقانون الكلي الذي يحكم الظواهر ويتحكم في صيرورتها الدائمة الابدية.
ومنذ قال اتناغوراس ان "النوس" او الروح هو القوة المحركة التي اخرجت الكون من حالة العماء والخليط المعطل الى حالة التركيب والنظام، ومنذ قال مالبرانش ان العقل الذي تهتدي به هو عقل كلي دائم ضروري وثابت لا يختلف عن الله، ومنذ قال ديكارت بالفصل بين العقل والطبيعة ومنذ قال بولس "اؤمن لا تعقل" الى اغوسطينوس الذي قال "احبب وافعل ما تشاء" الى توما الاكويني القائل، بالعلاقة بين العقل والايمان. انهما لا يتناقضان بل يتعاضدان ويتساندان وتبقى التجربة الانسانية اساس هذا الاختبار. مع دايفيد هيوم وايمانويل كنت والمعرفة اليقينة لا يمكنها ان تتجاوز عالم الظاهر. اما الشيء في ذاته فلا يحق للعقل الوصول اليه او التعبير عن حقيقته، وبالتالي فان العقل عاجز عن الكشف عن كليات الكون وعن اي نظام من نظمه.
ليأتي هيجل محاولا تجاوز المعضلة موحداً بين الظاهرة وبين الشيء في ذاته، بين ما هو عقلي وما هو واقعي او موضوعي، فيصبح العقل عبارة عن تجليات تاريخية ويصبح النشاط الانساني بما فيه الدين تمظهرات عثقلية متحركة، اي يصبح العقل ميدان فعالية الانسان فيتأنسن العقل. العقل لم يعد مبادىء فطرية بحسب ديكارت او قوالب ومقولات بحسب كانت، وتصبح الفلسفة ابداعاً للمفاهيم كما يقول جيل دولوز ولم تعد مفاهيم الفلسفة مفردات للحقيقة، بل اصبحت ادوات او مفاتيح تتعامل مع اجواء الحقيقة.
واعاد برغسن انتاج تجربة الانسان مع نفسه ومع الاشياء. فهبط الى باطن الذات حيث تتكون الرؤيا في مشاركة وجدانية للوصول الى ما لا يمكن التعبير عنه عقليا اي الانتقال من فكرة الله الى الله.
واتى هيدغر فقال ان افضل ما تفعله الفلسفة هو ان تدع جانبا ادعاءاتها المجنونة لتفسر العالم معقولا وان تركّز اهتماماتها على الانسان فتصف الوجود الانساني كما هو. فقال عكس ما قال ديكارت "انا افكر اذن انا موجود" الى القول "انني اولا وقبل كل شيء موجود اذن انا افكر" هذا المسار للعقل في توتراته الداخلية دفع اخيرا دريدا الى فضح التناقضات الداخلية المتنافرة للمطاف الفكر.
لذلك يمكن القول اذا كان الدين يتمحور حول العلاقة مع الله وعن الكشف عن هذه العلاقة، فانه في بعده الغيبي يتمظهر ويندمج في الاطر الطبيعية والانسانية والثقافية والتاريخية واللغوية والرمزية والطقوسية والسلوكية والممارسات العبادية والشعائر والاحتفالات والاعياد.

الأب الدكتور يوسف مونّس 

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...