التحكّم بالصحة الإنجابية في عين نصف قرن على «الحبّة»

07-04-2012

التحكّم بالصحة الإنجابية في عين نصف قرن على «الحبّة»

على خلاف جميع الكائنات الحيّة، لا تنحصر ممارسة الجنس لدى الإنسان بالإنجاب واستمرار النوع. واندرج تنظيم الحمل ضمن تاريخ البشر ثقافياً. وباستمرار، استُعمِلَت أساليب لضبط الحمل، ومورِسَتْ سرّاً وعلانية، وفق المعتقدات والأخلاق السائدة. وتعتبر «بردية كاهون» (عُثِر عليها في شمال مصر) التي يرجع تاريخها إلى ما يزيد على 4 آلاف سنة، من أقدم الأدلة على وجود وسائل لضبط الحمل. ويؤثر عن الفراعنة أنهم استنبطوا أداة تُشبه اللولب المستعمل في منع الحمل حاضراً، واستخرجوها من عظام الأسماك الكبيرة. فكانت توضع في الرحم فيضحي غير مؤهّل لاستقبال الحمل، على نحو ما يفعل الأطباء بالنسبة الى اللولب حاضراً.

في قبضة الهورمونات

تعدّدت الطُرُق التي استخدمتها الشعوب لمنع الحمل عبر العصور. وفي عشرينات القرن الماضي، بدأت تجارب العلوم الطبية الحديثة لإنتاج حبوب لمنع الحمل تعتمد على الهورمونات. جاء هذا بعد أن تمكن العالم النمسوي لودفينغ هابرلاند من أن يثبت أن زرع مبيض أرنبة حامل في حيوانات ليس لديها حمل، يؤدي إلى تثبيط الإباضة في الإناث التي زُرِعَت فيها، ما يمنع حدوث الحمل لديها. ويُفسّر هذا الأمر بأن مبيض الحامل يفرز كميات كبيرة من هورمون الـ «إستروجين» الذي يُعرف أيضاً بإسم «هورمون الأنوثة» لأنه مسؤول عن المواصفات الأنثوية التي تبرز منذ البلوغ والمراهقة، إضافة الى مسؤوليته الأساسية في تنظيم الدورة الشهرية والحمل. وجرى التعرّف إلى نوع مُركّب من هورمون «إستروجين» Estrogen في 1929. وفي مطلع الستينات من القرن الماضي، ظهرت أدوية تؤخذ من طريق الفم، وتعمل على تنظيم الحمل، استناداً إلى مركّبات اصطناعية من هورمون «إستروجين». وذاعت شهرتها بأسماء مثل «الحبّة» و «القرص». وانطلقت «الحبّة» من الولايات المتحدة، ثم وصلَت الى أوروبا. وترافقت في دول الغرب مع صعود الحركة النسوية ودخولها مرحلة المساواة، بعد ان تجاوزت مرحلة إزالة الفوارق، بين الرجل والمرأة.

في إطار استعادة نصف قرن من التجربة مع «الحبة»، عقدت شركة «باير» Bayer العالمية ندوة علمية تناولت الأجيال الجديدة من أقراص منع الحمل، وما تقدمه هذه الاقراص للإناث حاضراً. وأوضحت الندوة أن هذه الأجيال الجديدة تختلف كثيراً عما كانته «الحبّة» في الماضي. إذ باتت لها أدوار ومهمات مختلفة، ما أعطى المرأة خيارات أوسع في الاهتمام بقدرات التناسل لديها. يتمثّل أحد هذه الاهتمامات باستخدام الوسائل المناسبة لتنظيم الحمل، بمعنى ألا تثير هذه الوسائل قلقاً من حدوث حمل غير مخطّط له.

وفي هذه الندوة، تحدّث الدكتور أحمد راشد استشاري طب النساء والتوليد في طب عين شمس، مشدّداً على أن استشارة المرأة للطبيب الاختصاصي أمر أساسي في عملية اختيار الوسيلة المناسبة في تنظيم الحمل، ومراعاة أن تتناسب الوسيلة المختارة مع صحة المرأة جسدياً ونفسياً. وأوضح راشد أن التطوير الذي طرأ على أقراص ضبط الحمل يمثّل نجاحاً علمياً كبيراً لأنه يحقّق فوائد طبية إضافية تسمح بالسيطرة على الدورة الشهرية (وتالياً الحمل)، إضافة الى عدم التسبّب في زيادة الوزن واحتباس السوائل في الجسم، وهي من الآثار الجانبية المعروفة لهورمون «إستروجين». وأشار راشد إلى أن النساء اللاتي يستخدمن الأقراص الجديدة يشعرن باستقرار في وزن أجسامهن، إضافة إلى تأثيرات إيجابية على صحة بشرتهن وشعرهن. وأضاف: «إن حبوب تنظيم الأسرة تشكّل انفراجة طبية توفر للنساء وسيلة فعّالة للغاية للوقاية من الحمل».

في السياق عينه، عرض الدكتور محمد ممتاز مدير وحدة طب الجنين في كلية طب قصر العيني، دراسات اقتصادية تُثبت أن وسائل تنظيم الأسرة تساهم في زيادة رضا المرأة عن حياتها، كما أن وسائل تنظيم الأسرة ترتبط بزيادة الاستثمار في التعليم، ورفع احتمال العمل، وزيادة مستوى الدخل. وأضاف: «لا يزال الوضع بعيداً من أن يكون مرضياً للنساء كافة. إذ أظهرت أرقام علمية ظهرت في العام 2008 أن 63.2 مليون إمرأة ممن تتراوح أعمارهن بين 15 و49 سنة، استعملن حبوب تنظيم النسل من طريق الفم. ويشمل هذا العدد قرابة 16 مليون إمرأة أميركية ممن تناولن حبوب تنظيم الحمل، ما يجعلها إحدى أكثر تقنيات وسائل تنظيم الأُسرة شعبية. أما في بلدان أوروبا الغربية، فيتراوح قبول حبوب تنظيم الحمل من طريق الفم، بين 15و40 في المئة، وفق بلدان تلك القارة. وعلى رغم هذه التطوّرات، لا تزال هناك حاجة كبيرة لدى النساء، لم تُجر تلبيتها. ففي كل سنة، هناك 80 مليون إمرأة سيصبحن حاملات من غير قصد. ومن ضمن حالات الحمل غير المخطط لها، ثمة 20 مليون حالة مهددة بالإجهاض و68 ألف إمرأة يمتن نتيجة المضاعفات. ومن بين 28 مليون حالة حمل في البلدان الصناعية، يُقدّر أن نصفها تقريباً غير مخطط له. وعلى نطاق واسع، من المعتقد أن تكون هذه النسبة أعلى كثيراً في بلادنا العربية».

أشباح النزف والسرطان

في هذا الصدد، عرض ممتاز إحصاءات حديثة أوردت أن 536 ألف إمرأة تتوفى سنوياً نتيجة لأسباب تتعلق بالحمل، و63 ألف إمرأة تقضي سنوياً، نتيجة لعمليات الإجهاض غير الآمن، و 5.3 مليون إمرأة تعاني من إعاقة موقتة أو دائمة نتيجة للإجهاض غير الآمن. «لو أعطيت لهؤلاء الـ 137 مليون إمراة، وسائل مناسبة لتنظيم الحمل، لانخفض معدل وفيات الأمهات بنسبة تتراوح من 25 إلى 30 في المئة»، وفق ممتاز.

وتحدّث البروفسور علي كوبا، زميل «الكلية الملكية لأطباء النساء والولادة» في لندن، عن أقراص تنظيم النسل التي راكمت تجربة نصف قرن من النجاح عالمياً. «يومياً، تعطى هذه الأقراص الفرصة لما يزيد على 60 مليون سيدة يومياً، للحصول على فوائد طبية متنوّعة. وعلى رغم هذا، تعتمد كفاءة هذه الوسيلة على التزام السيدة في تناولها. هناك سيدات كثيرات لديهن مخاوف من الآثار الجانبية لـ «الحبّة»، بعضها غير فعلي. هناك حاجة ماسة لإعلام النساء بتأثير العلاج وشرح الآثار الجانبية المحتملة، وتعليمهن الطريقة الصحيحة لاستخدام وسائل تنظيم النسل ضمن سياق الصحة الإنجابية للمرأة، بغرض رفع درجة رضى النساء عن هذه الأدوية»، وفق كوبا. وأشار إلى إحصاءات عالمية تذكر أن 10 في المئة من النساء في سن الخصوبة يعانين نزفاً ناجماً عن غزارة غير طبيعية في الطمث، وأن 35 في المئة منهن يستشرن الطبيب لتلقي العلاج. وأضاف: «السيدات اللاتي يصبن بغزارة الطمث يعانين أيضاً سوء نوعية الحياة.

ففي معظم الحالات، تصاب هؤلاء السيّدات بفقر الدم الناجم عن تكرار النزيف الغزير، ما يستنزف مخزون الحديد في أجسادهن، ويؤثر في حياتهن، ويولّد شكواهن من التعب والإرهاق. يقدّر الخبراء أن تناول أقراص تنظيم الحمل أعطى وقاية من حدوث 200 ألف إصابة بسرطان المبيض، ومئة ألف وفاة مرتبطة بهذا المرض. واستناداً إلى إحصاءات حول مستوى استهلاك هذه الأقراص حاضراً، يتوقع الخبراء إمكان تجنب حصول 30 ألف إصابة بسرطان المبيض سنوياً. وتخفض أقراص منع الحمل الإصابة بسرطاني المبيض والرحم، وتقلّل أمراض التهاب الحوض والنزيف الطمثي وفقر الدم وعسر الطمث وآلام الحوض، كما تخفض الأعراض السابقة للحيض، وتنظّم الدورة الشهرية، وتحمي من داء بطانة الرحم الهاجرة، وأكياس المبيض، وأورام  الثدي الحميدة وغيرها».

وعلّق الكيميائي محمد زيوار، المدير إلاقليمي لشركة «باير هيلث كير فارما» في الشرق الأوسط، على هذه الآراء، باستعادة تجربة نصف قرن مع حبة تنظيم الأسرة، بدءاً من البحوث التي أجريت في المعامل والمختبرات في أوائل القرن العشرين، مروراً بالحملات التي أدارتها الحركات النسائية للدفاع عن وسائل تنظيم الأسرة كي تستطيع النساء التحكم بقدرتهن على الإنجاب.

وأضاف زيوار: «لا نحتفل بحبوب تنظيم النسل كابتكار استثنائي فحسب، بل لكونها تعطي آثاراً إيجابية في الصحة والاقتصاد والرخاء الاجتماعي لنصف البشرية، بل ربما الجنس الإنساني برمّته. تتميّز حبوب تنظيم الحمل بأنها تمكِّن المرأة وشريكها من اتخاذ قرارات واعية في خصوص إنجاب الأطفال وتوقيته، ما يعني أنها تؤثر بشدّة في بنية المجتمع الأساسية، وتساعد على تحقيق حياة أفضل للأسرة».

سحر الببلاوي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...