التفكيك كاستراتيتجية لانتزاع الحق في الفلسفة..

07-02-2021

التفكيك كاستراتيتجية لانتزاع الحق في الفلسفة..

▪️ في البدء.. 


تقبع التفكيكية كرهان مستجد نحته جاك دريدا الفيلسوف الفرنسي، هكذا منعزلة عن كل ما يمكن أن يفهم أنّه مرادف لها، فصاحبها الأوّل يرفض أن تسمى تحليلا أو تأويلا حفرا أو نقدا، فهو يراها استراتيجية شاملة تتجاوز كل ذاك إلى ما هو أبعد، وعلى ذكر المجاوزة، فهي من وجه آخر شكل من أشكال المجاوزة للميتافيزيقا، ليست تلك القابعة في الكينونة أو تلك القابعة في سلطة الخطاب أو سلطة السلطة، بل هي مجاوزة شاملة للميتافيزيقا وامتداداتها في كل الفنون والأنماط الأدبية والنصية.  وهي أيضا هكذا في علاقتها بالفلسفة، الفلسفة سواء كنشاط إنساني مفتوح لا يؤمن بالمركز ولا الهامش، ولا وجود لتراتبية أصلية تحدد جودة هذا الفعل إذا ما مورس داخل سياق حضاري معين؛ ثمّ أيضا الفلسفة كنشاط مجتمعي ومؤسساتي، مرتكزا على نموذجٍ ما، نموذجٍ ثابت وجامد لاختيار مؤسساتي معين.

● التفكيك كاستراتيجية..

تحيل الدلالة الاصطلاحية للتفكيك على فضاء دلالي واسع، يقترن بتفكيك الخطابات الفلسفية، والنظم الفكرية، والنشاط المؤسساتي، وحتى الحضاري، وإعادة النظر في كل هذا بحسب عناصره المكونة والاستغراق فيها وصولا إلى الإلمام بالبؤر الأساسية المطمورة فيها، وهو ما يفترض الحاجة إلى إجراء حفريات في تلك النظم كما تجلت خطابيا، وكما تشكلت تاريخيا ومعرفيا، ويترتب على هذا، أنّ الدلالة الاصطلاحية للتفكيك تختلف عن دلالته اللغوية التي تحيل على التقويض والهدم، وينهض التفكيك على منهجية التعارض بين مكونات الخطاب، وتركها تعمق اختلافاتها، وتكشف تناقضاتها الداخلية، ويحذِّر دريدا من تبسيط موضوع البحث، ويرى أنّ عدو المنهجيات الحديثة، بما فيها التفكيكية هو التبسيط والاختزال، وهذا ما يوحي بغموض الحفريات التي يجريها دريدا، ويعبر عن الأمر، مؤكدا أنه من أجل تلمُس فعل المخيلة الخلاقة، بأكثر ما يمكن، ينبغي العناية بما هو غير مرئي من الحرية الشعرية، ويفترض هذا الأمر الانفصال وصولا للاتصال الخفي بالأثر في عتمته الحالكة. إن تجربة مثل هذه تهدف إلى تنظيم الفعالية الإبداعية، على مستوى القراءة والكتابة، مشكّلة على نحو خاص، لا تستطيع فيها مفردات الانفصال والنفي أن توضحها بصورة كافية، ما تستطيعه هو الإشارة إليها وحسب، بواسطة الاستعارة التي ينتظم حولها التفكير، لأن الأمر برمته لا يعبر عن عالم آخر، بل هو صنع لعوالم مفترضة. يكشف هذا الأمر أن التفكيك لا يحاول الاقتراب من الخطاب، إلاّ بوصفه نظاما غير منجز إلاّ في مستوى كونه ملفوظا، هو بعبارة أخرى تمظهر خطي، تمظهر ينتج باستمرار، ولا يتوقف أبدا حتى لو اختفى كاتبه، وهذا ما يفسر عناية التفكيك بالكتابة دون الكلام، لانطوائها؛ أي الكتابة، على صيرورة البقاء بغياب المُنْتِج الأول، وهو ما يتعذر بالنسبة للكلام . 

من جهة أخرى يمارس التفكيك نوعا من الفضح الميتافيزيقي، حيث شكل التمركز العقلي بوصفه أساسا ميتافيزيقيا حكم النظرة الفلسفية إلى المعرفة والحقيقة والوجود منطلقا فلسفيا يترتب عنه تمركز صوتي، يعطي أفضلية للكلام المباشر على حساب الكتابة. فالصوت وحده يتمتع بعلاقة جوهرية مع الحضور والكلام، بعكس الكتابة، هو وحده الذي يستطيع على الفور أن يتدارك ذاته ويصحح نفسه، فهو لا يحتاج إلى مرجع آخر سواه، ولا إلى إعانة خارجية، مثلما يحتاج اللقيط إلى أب، لكن دريدا سيفضح زيف هذه القيمة الميتافيزيقية، فهو يرينا أن الفصل نفسه الذي تتوهم الميتافيزيقا إمكان إقامته بين الكلام (الفوري، المباشر، الحيوي، التعليمي، القادر على الاضطلاع بخطابه واستعادته وتصحيحه) وبين المكتوب (الجامد في حروفه أو قوالبه، والقاصر عن الإجابة من دون حماية أبيه وإسناده)، نقول يرينا أن هذا الفصل هو إشكالي. فالكلام، كما أسلفنا في عرضه مع دريدا، هو نفسه كتابة، وذلك بمجرد أن يقبل بالتقطيع والتفضية والفواصل وبنحو معين، أي ما يدعوه النحاة بالتمييزية diacricité. هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية يرينا دريدا أن الميتافيزيقا نفسها، وسقراط نفسه، غالبا ما يرجعان إلى استخدام مجازي لمفردة الكتابة، بها يسميان الكتابة الإلهية المنقوشة في القلوب، وهي الصورة التي ستتكرر لدى روسو، كما سيتم الرجوع بعد سقراط إلى الكتابة الفعلية نفسها بالذات، وليس إلى مجازها فحسب، لإدانة شرور الكتابة. حرج أو معضلة "تفسر" كامل سوء الفهم أو التناقض الذي تتأسس عليه الميتافيزيقا وبموجبه تنتشر.

● التفكيك كرهان على الحق في الفلسفة.

يؤكد جاك دريدا من ناحية أخرى أنّ الفلسفة هي نشاط سواء ذاتي أو حضاري  لا تختزل في حدود متعالية بعيدة على تفاعلية النشاط الإنساني وتعدديته، فهذا النشاط الإبداعي يضيق وينحصر في بيئة الانغلاق والقطرية، وينشط في البيئات القائمة على التعددية الحضارية والإثنية والعرقية، فكل تجربة من التجارب الحضارية التي أنتجت فلسفات قوية، هي بالأكيد نتاج تفاعلات قوية على المستوى الحضاري، بمعنى أنه في اللحظة

التي لا يصير ما يظنُ أنّه مركزا في تفاعل امتزاجي مع ما كان يراه هامشا، هي نفسها لحظة الامتزاج الخلاق التي تخلق الاختلاف، وتعبر عن منتوجها كتجاوز للمطابقة والأقنمة والتعالي.


لربما الرهان التفكيكي -التفكيك هنا باعتباره استخلاصا لا للحق في الفلسفة، بل للحقوق اللامحصورة في الفلسفة- يأتي انطلاقا من تفكيك الفلسفة في نموذجها المؤسساتي القائم، الفلسفة بحيث هي انتقاءات نموذجية لتصور معين عن الفلسفة، عن مركزها وعن حدودها وهوامشها، انتقاءات قد تدعي الجودة والصواب في القيام بهذه العملية، ولكنها في الحقيقة نموذج فاضح لإلغاء حق فلسفات لا حصر لها في الوجود، إلغاء يقوم على ضمنية مضمرة تجعل من المنتقى مركزيا ومن الملغى هامشيا، وهنا في الحقيقة كل حق في الفلسفة عليه أن يقوم على إلغاء هذه القطبية الميتة والصماء، موت وصمم يلغي تعدد الأصوات والآفاق الفلسفية المختلفة، وفي المقابل فالحق في الفلسفة هو بالضرورة نشاط نظري ومؤسساتي عليه أن يقوم دائما على التحيين الدائم، أو اللانهائي لهذا التجدد في أصوات الفلسفات المختلفة، أصوات تنبثق في كل لحظة، ولها دائما الحق في الإنصات لها، من هنا تصير الفلسفة هي الحق الدائم ليس فقط في حماية الاختلاف، بل في إيجاده وإغناء العالم به، فمنطق المطابقة والأقنمة والتعالي الجامد، هو عامل موت في الحضارة، وبالضرورة هو عامل موت في الفلسفة. 

▪️ للختام..

كان جاك دريدا فيلسوف تقويض بامتياز، ومخلخل الحدود الفارقة بين المراكز والهوامش، بهذا سيصير التفكيك هو فضح لكل الترمكزات التي تمنع كل أشكال الحق في الفلسفة، منعا لا بمعنى المهاجمة المباشرة، كما هو الأمر عليه ضمن المواقف الكلاسيكية في موقفها النافر من الفلسفة، أمّا هذا فهو منع بالمعاني المعيارية، إلغاء بمبدأ عدم الأولوية أو غياب الراهنية أو الجدة، معيارية تقوم على تمثل ضمني لنفسها أنها مركزية وغيرها مقذوف به في الهوامش، في المقابل فتأسيس الحق هو مجاوزة تفكيكية للوهم الضمني في كونها ذات أولوية أو راهنية أو جِدة، أو بمعنى أدق هو استراتيجية في تفكيك عناصرها الادعائية بكونها مركزا.

 

 

 


- وفاق القدميري

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...