السلطة والشريعة ... في التجربة السياسية الإسلامية

04-10-2008

السلطة والشريعة ... في التجربة السياسية الإسلامية

انطلق الفقهاء والمحدّثون من افتراض أساسي حول طبيعة السلطة/ الخلافة في العهود اللاحقة لخلافة الراشدين، إذ اعتبروا أنها انتقلت إلى طور جديد لم تعد تملك فيه الشرعية الكاملة التي حظيت بها الخلافة الراشدة, حين انتقلت السلطة فيها من شرعية الخلافة الراشدية القائمة على الشورى، وإرادة الجماعة, وعلى تمثيل رسالة الاستخلاف والدعوة، إلى سلطة «الملك العضوض». غير أن الفقهاء، لا سيما السنّة منهم، وبذريعة الحفاظ على وحدة الأمة ودرء الفتنة، أسبغوا نوعاً من الشرعية على السلطات المتعاقبة. أما الصورة «النموذجية» المثالية التي تكونت عن الخلافة الراشدية، فقد اعترف الجميع بخسرانها وضياعها، وباستحالة استعادتها, أي تحولت الخلافة عندهم إلى نوع من الطوبى، على حد تعبير العروي.
أما في الواقع التجريبي، فقد حدث تبدُّل في العلاقة بين الشريعة والسلطة, وبين السلطة/ المؤسسة والهيئات الدينية، وعملت التحولات على تعزيز الطابع المدني والدنيوي لعمل السلطة، وتناسب التحول مع انحسار دور المؤسسة الدينية عن بعض الوظائف التقليدية, وانحسار تأثير بعض الصيغ التشريعية التي تستمد أصولها من الشريعة الإسلامية، عن مجال أحكام القضاء وممارسات الحكم. وتعزّزت بالمقابل وتوسعت صلاحيات الأطر التنظيمية أو «القانونية» المستندة الى إرادة السلاطين والحكام لإدارة الخزينة والقضاء، وفقاً لمصالحهم، أو لتصور هؤلاء الحكام لمصلحة الجماعة ولاستقرار الحكم.
ويمكن تلمس التحول الذي أصاب السلطة باتجاه توكيده طابعها المدني الدهري, في التبدلات التي طرأت على مهمت السلطة القضائية، التي تُعتبر إحدى القلاع الكبرى للفقهاء، ولعلماء الشريعة، وأحد المؤشرات الأهم المعبرة عن مدى تأثير الشريعة في الأحكام، وفي التقاضي بين الناس. وكانت الدولة الإسلامية تشرف على حراسة الدين من طريق تطبيق أحكام الشريعة إذ كانت تعيّن لها القضاة.
غير أن الحكام احتالوا على الشريعة في الأحوال التي رأوها تتعارض مع مصالحهم، أو مع مفاهيمهم عن السلطة والأمن, فغيروا وبدلوا مع الأيام إلى أن ابتدأت الشريعة وأحكامها بالانحسار عن مجال القضاء تدريجاً. فإذا تفحّصنا الميول الأولى لاستبعاد الشريعة وإقصائها عن المساحات التي يحتلها القضاء, سنرى، كما يذهب إليه رضوان السيد، أن القاضي كان في عصر الراشدين وأوائل أيام الأمويين، وأوائل بني العباس، يستطيع الحكم في النزعات كلها، ثم ومع الأيام، لم يعد يستطيع ممارسة ذلك الإشراف على إصدار الأحكام بعد عهد المأمون, ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن السلطة الإسلامية لم تكن تعجبها قرارات القضاء دائماً، كما لم تعجبها العقوبات المفروضة في الشريعة، ولا تلك الدقة في طرق الإثبات والشهود والعدول التي تفترضها الأحكام الشرعية. وقبل هذا وذاك، كانت هناك حوادث أو أفعال تعتبرها السلطة جرائم يترتب عليها قصاص, وهي التي تسمّى اليوم «الجرائم السياسية». بينما القاضي, تبعاً لمدونة الشريعة, لا يستطيع أن يُقاصص معارضاً سياسياً، إلاّ إذا سفك الدماء, أو اغتصب مالاً، فإذا بقيت معارضته في حدود الخلاف في الرأي، واختصرت وسائله في التعبير على القلم أو اللسان، تُعتبر بنظر الفقهاء معارضة شرعية، هي من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لهذا، اتجهت السلطة إلى تقليص صلاحيات القاضي المسلم, في هذا الشأن، منذ الصدر العباسي الأول، فلم يعد القاضي يتناول الجرائم السياسية، كما لم يعد يقاضي أعوان السلطان. وكبار رجال الدولة. وفي نص للعمري نتبين أن الجيش كله لم يعد يخضع أيام المماليك وربما قبل ذلك للقضاء الإسلامي بل لحاجب السلطان، ففي مقابل ما اشترعه الفقهاء في هذا المجال, شرّعت السلطة في الواقع أحكاماً مختلفة.
كما أن الدولة وسّعت تدخلها في مجالات جديدة, فلقد حوّلت «الحسبة» من اختصاص القضاء إلى اختصاص السلطة السياسية، فكان المحتسب في البداية مسؤولاً عن مراقبة المكاييل والموازين، ثم صارت له رقابة شاملة في الأسواق, ثم غدا مسؤولاً عن الآداب العامة في المدينة. ويبدو أن المنصور أو المهدي (159 - 169هـ) كان أول خليفة يعيّن محتسباً بهذا الاسم، ويعطيه مهمات اجتماعية واقتصادية وسياسية في مجال الضبط الاجتماعي العام. أما في ذلك الجانب مما يسميه الفقهاء المسلمون «السياسية الشرعية», والذي يتعلق بعقوبات غير محددة بالنص (التعزيز) والعقوبات المحددة (الحدود) فتعود إلى قضاة كل مصر ليقاضوا بها. وقد كانت هناك فترات تاريخية تعدّت فيها صلاحيات المحتسب صلاحيات القاضي. ويقوم المحتسب بمراقبة أرباب الصنائع في المدينة الإسلامية، ويتدخل في كل شيء, حتى في فرض مقدار معين من الإنتاج في أصناف الصناعة اليدوية المختلفة القائمة آنئذ، وذلك كي يتناسب هذا المقدار مع حجم الطلب على سلعة ذلك الصنف. ويفرض المحتسب على أبناء المهن ضرائب مختلفة لحساب الدولة، وقد توحدت هذه الضرائب في أواسط العصر العباسي وسميت «خراج السوق». وكان يطلق على الضرائب التي تُفرض على الدور والطواحين التي بنيت على أرض أميرية اسم «المستغلات», حتى آخر العصر المملوكي. وكانت السلع تسعّر بالتشاور بين المحتسب أو القاضي وأهل الصنعة, لكن السلطنة العثمانية أعادت اعتماد القاضي مجدداً في كل الأمور، بما فيها الأسواق، من خلال استعانته بأعوان من شرطة المدينة.
وعلى رغم أن الزكاة أيضاً فريضة دينية فردية، فإن أبا بكر أصرّ على أن يدفع العرب الزكاة إلى بيت المال, وأعلن الحرب على المرتدين لأنهم امتنعوا عن دفعها, بينما ترك عثمان بن عفان للناس الحرية في أداة الزكاة لبيت المال, أو توزيعها بأنفسهم. وقيل بعدها ان الأمويين سمحوا بعدم تسليم زكوات الأموال الباطنة (النقد والثياب مثلاً) إلى السلطة، واستمروا في جمع زكاة الأموال الظاهرة (الزراعة والماشية), ثم تركت الدولة الزكاة، باعتبارها عبادة للفقهاء أو للأفراد يزكون بها أموالهم, وكفّت السلطة عن التدخل فيهاً. واتجهت السلطة في علاقتها بالريف (الأرض) والمدينة (التجارة والحسبة)، إلى التخفّف من تعاليم الفقهاء، فاتبعت السلوك المناسب لمصالح السلطان، أو كما رأته مناسباً لمصالحه, حتى لو خالف ذلك مّا اعتبره الفقهاء سنة السلف الصالح وسيرتهم.

شمس الدين الكيلاني

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...