الشعر في حياتنا وحياتنا في الشعر

17-02-2007

الشعر في حياتنا وحياتنا في الشعر

نحن في حاجة الى الشعر، لأننا في حاجة الى لغة حميمة دافئة صادقة قادرة تخرجنا من اغترابنا، وتنقذنا من فقرنا الروحي، وتردنا مرة اخرى الى صميم الوجود الذي لا نستطيع بعيداً منه ان نجد أنفسنا، أو ان نعي وجودنا ونحس به ونتمثله. ونحن في حاجة الى الشعر، لأننا في حاجة الى لغة تصلنا بما نعلم، وتصلنا بما لا نعلم. لغة نشعر بها ونفكر ونتخيل ونتأمل، ونتذكر، ونتنبأ، ونحلم، ونغني. لغة يعرف بها كل منا نفسه، ويعرف العالم، ويعرف الآخرين. لغة نعيد بها تشكيل اللغة، ونعيد بها تشكيل أنفسنا. نجدد بها العالم، ونجدد وعينا به.

والشعر في حاجة الينا، لأنه اغترب في اللحظة التي صرنا فيها مغتربين. الشعر يقف على أبواب المدينة مهجوراً منسياً مع الآمال المهجورة، والقيم المستباحة، والأحلام المنسية. لقد نسينا العدل، والتسامح، والأخوة البشرية فنسينا الشعر. وانتهكنا حق الانسان في ان يعتقد بحرية، ويفكر بحرية، ويعبر بحرية فانتهكنا حق الشعر.

الشعر ضحية من ضحايا الحرب، والتعصب، والارهاب، والطغيان، والعنصرية، وتدمير البيئة، وتصحير الأرض، وتسميم الهواء، وتوثين المال، ونشر الجوع، وبيع الجسد. والشعر اذاً لا ملجأ له في هذا العالم. الشعر اذاً في خطر! الشعر في خطر، لأن اللغات القومية في خطر.

في القرن الأخير، القرن العشرين، الذي تحررت فيه الأمم، واستقلت الدول، وأنشئت المنظمات الدولية المختصة بالدفاع عن الانسان وحقوقه السياسية والاقتصادية والثقافية اندثرت ثلاثمئة لغة ولهجة. كل أربعة اشهر طوال القرن العشرين كانت تموت احدى اللغات. تماماً كما انقرضت مئات الانواع من الحيوانات، والطيور، والنباتات، والفراشات في انحاء العالم. ومن المتوقع في ظل العولمة المتوحشة ان يتضاعف عدد اللغات التي ستندثر، وعدد الكائنات التي ستنقرض. والشعر في خطر، لأن الحب في خطر، ولأن السعادة في خطر.

لقد هجر الانسان مدنه الفاضلة التي ظل يحلم بها من دون جدوى، ويئس من مقاومة التعاسة، واستسلم لأباطرة ما بعد الحداثة، ومشى في ركابهم، يرقص رقصتهم العدمية، ويغني غناءهم الوبيل.

والشعر في خطر، لأن المطالب الصغيرة الضرورية لمواصلة الحياة اصبحت ملحّة. ولأن القوى المسيطرة على ارض البشر تتضخم وتتوحش ولا تفكر إلا في إحكام قبضتها ومضاعفة أرباحها.

ومن الطبيعي في ظل هذه الشروط وهذه الاوضاع ان تحتجب منابر الشعر، وأن تغلق الدور التي تخصصت في نشره أبوابها، وأن يجد الشعراء الشباب بخاصة أنفسهم غرباء في مدن هذا العصر محرومين من الغناء فيها. الصمت يحاصر العالم. والزمن القادم، ربما كان زمناً بلا شعر، ربما كان زمناً بلا لغة!

لكننا نستطيع ان ننقذ الشعر كما أنقذناه في عصور سابقة.

في القرن الثامن عشر كان الفرنسيون يقولون ان لافونتين هو آخر شعرائهم، وكانوا يعتقدون ان عقلانية عصر الأنوار قتلت الشعر الذي هو لغة الكمائن كله بحواسه وطاقاته وملكاته كافة. لكن الشعر الفرنسي ازدهر في القرن التاسع عشر، ربما بفضل الثورة. وازدهر في النصف الاول من القرن العشرين مع اليوتوبيات التي غنى لها المستقبليون، والماركسيون، والوجوديون، ورجال المقاومة الفرنسية.

والذي حدث في فرنسا حدث في انكلترا التي ظهر فيها من يعتبر الشعر لساناً للخرافة، ويبشر بعصر لا يتسع لغير العلم والمنطق، لكن الشعر الانكليزي لم يزدهر في عصر كما ازدهر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

ومنذ فتح العرب مصر في أواسط القرن السابع الميلادي الى أواسط القرن التاسع عشر لم يظهر فيها شعر حقيقي الا بالعربية المصرية الدارجة. لأن المصريين هجروا بعد الفتح لغة اسلافهم، ولأن العربية الفصحى ظلت غريبة في مصر حتى قدر لها ان تتوطن وتنهض في هذا العصر، وأن يلعب المصريون في نهضتها الحديثة أعظم الادوار. عندئذ نهضت الحركة الادبية في مصر، وأصبح شوقي أميراً للشعر كما أصبح نجيب محفوظ بعده أميراً للنثر.

نستطيع اذاً ان ننقذ الشعر. ويستطيع الشعر ان ينقذنا. ولهذا التقينا في القاهرة. التقينا نحن الشعراء ومحبي الشعر أبناء وطن واحد، وأبناء لغة واحدة. التقينا نبحث عن دور الشعر في حياتنا، وعن دورنا في حياة الشعر الذي يفهمنا بقدر ما نفهمه، ويخلص لنا بقدر ما نخلص له، ويعطينا بقدر ما نعطيه.

أحمد عبد المعطي حجازي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...