الطائفية و الوجه الاجتماعي للكنيسة

20-05-2007

الطائفية و الوجه الاجتماعي للكنيسة

الحديث عن العدالة الاجتماعية في المسيحية لا بد من أن يؤسس على مفاهيم محددة، وأول هذه المفاهيم هو مفهوم وحدة الخليقة.
ان مفهوم وحدة الخليقة هو مبدأ أساسي لفهم المسيحية، ذلك لأنه يؤكد على وحدانية الله الخالق كما في دستور الايمان النيقاوي القسطنطيني الذي يلخص ايماننا المسيحي: "أؤمن بإله واحد آب ضابط الكل خالق السماء والارض كل ما يرى وما لا يرى...".
والمفهوم الثاني هو الانجيل أي Evangelion اي البشرى السارة، اذا ربطنا مفهوم الانجيل بمفهوم وحدانية الخلق نستطيع ان نفهم دعوة الرب يسوع الى تلاميذه أن: "اذهبوا وتلمِذوا كل الامم". (متى 19:28 – 20) اذا الانجيل حمل البشرى الى كل الخليقة. ان ترجمة هذه البشرى بحسب الدكتور كوستي بندلي تختصر بكلمات ثلاث: التحرر، والخلاص، والمصالحة(1).
ان هذه البشرى بأبعادها الثلاثة لا تخص الفرد فقط، ولكنها تتعداه الى البنى التي تحكم العلاقات بين الافراد. لقد لخص القديس بولس مفاعيل هذه البشرى في رسالته الى أهل قولوسي (قول 11:20) بالقول: "لم يبق هناك يوناني او يهودي ولا ختان او قلف ولا أعجمي او اسكيتي ولا عبد ولا حرّ بل المسيح هو كل شيء وفي كل شيء". نتبين هنا ان المسيحية أسقطت التصنيفات التي يمكن ان يتأسس عليها اي تمييز او فوقية. وذلك لان المسيح هو في الكل.
أما المفهوم الثالث فهو مفهوم المحبة، تلك المحبة التي تقدم أغلى ما عندها أي تقدم ذاتها. ان هذه المحبة لا تطلب أي شيء بالمقابل ولا تفرح بالظلم. وهذه المحبة أساس الحرية الحقة لأنها وحدها القادرة على ان تحرر الانسان من الداخل. المحبة لا تسقط أبدا (1 كور 1:13 – 13).
لقد أولى المسيح ومن بعده المسيحيون، اهتماما خاصا بما بات يعرف اليوم بقضايا العدالة الاجتماعية. ان أول مسألة تصدى لها الرب يسوع المسيح هي قضية الفقر. فأعطى المثال الواضح للتعهد الحقيقي لقضايا المحرومين بأن وحّد نفسه بهم، فصار المثال إذ "ليس له مكان يضع عليه رأسه" (متى 20:8). يقول القديس بولس: "فأنتم تعملون جود ربنا يسوع المسيح. فقد افتقر لأجلكم وهو الغني لتغتنوا بفقره" (2 كور 9:8).
لقد انحاز الانجيل وبشكل سافر الى جانب الفقراء، وقد ورد ذلك بشكل واضح لدى الانجيلي لوقا. يقول: "طوبى لكم أيها الفقراء فان لكم ملكوت الله، طوبى لكم أيها الجياع الآن فسوف تشبعون" (لوقا 20:6 – 21). يعتقد الباحثون أن هذه الصيغة من التطويبات وردت قبل الصيغة المعروفة في انجيل متى الاصحاح الخامس. المشكلة في المسيحية لم تكن مع المال، بل مع من يستغني بماله عن الله، فلا يفتقر الى الله. "الاغنياء بحاجة الى من يساعدهم على التحرر من وطأة غناهم. كما ان الفقراء بحاجة الى التحرر من وطأة بؤسهم(2).
لقد تماهى المسيح مع كل المقهورين والمظلومين والمستضعفين. وجعل من الالتزام بهم وبقضاياهم معيار دخول الملكوت، انك بمقدار ما تكون قريبا من هؤلاء المحرومين، أي بمقدار فقرك الى الله، بمقدار ما ستتقرب منه، وعندها فقط سوف ترى نور وجهه يوم القيامة. فالانجيل تحرر من كل ما يقف حائلا بينك وبين أخيك في الانسانية، وخلاص من كل رواسب الاستغناء والاستعلاء وصولا الى مصالحة مع الذات والآخر ومع الله.
عندما نقول خدمة انسانية، يتبادر الى الذهن مفهوم عمل الخير، وهو عمل مبارك وقد مارسه المسيحيون الاوائل، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر جمع التبرعات من المسيحيين في انطاكية الى اخوتهم في أورشليم أيام المجاعة، على يد برنابا وشاول (أعمال 27:11-30) ان هذا العمل مستمر الى اليوم، وبأشكال مختلفة.
ما أود أن ألفت اليه ان مفهوم الخدمة الانسانية تطور الى مفهوم العدالة الاجتماعية الذي تناول البنى الاجتماعية المجحفة التي كانت هي المسؤولة عن الفقر والتهميش والمظالم الاخرى فنجد ان آباء الكنيسة المسيحية من القرنين الرابع والخامس مثلا كانت لهم مواقف "ثورية" من قضايا الفقر. فرفضوا تبرير التفاوت الاقتصادي والاجتماعي. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم من القرن الخامس في معرض حديثه عن الملكية الخاصة: "ولكن اتستطيع ان تبين ان هذه الثروة اكتُسِبت بالحق اذا اعدت الى اجيال عديدة في الماضي؟ لا لا تستطيع، فأصلها ومنبعها لا بد ان يكون الظلم".
يقول القديس باسيليوس الذي كان رائدا في ما نسميه اليوم مشاريع التنمية، حين اسس المدينة الباسيلية: "الغني الذي لا يشرك الآخرين في ممتلكاته يرتكب عملا ظالما".
ان السعي الى اسقاط كل انواع البنى التي تستبعد الانسان باسم الانتاج والعولمة واقتصاديات السوق والاستهلاك، وما الى ذلك من مسميات، هو في صلب دعوة الانسان المسيحي، وذلك ليس فقط احقاقا لمنطق العدالة، بل تعداه الى مفهوم الكرامة، لان الانسان هو اصلا يتمتع بكرامة اكتسبها يوم جبله الله ونفخ فيه فصار على صورته ومثاله بحسب سفر التكوين. "فلا مناص من التأكيد على ضرورة تغيير هذه البنى حفاظا لكرامة الله وكرامة الانسان ايقونته في الارض"(3).
يؤكد المطران جورج خضر في مقالته "متى يصير الزعيم الجوع؟ لقد افصح رجل الله عن حق الله وهو قبل كل شيء احقاق الحق لعباده. لم يطلب الكاهن صدقة. انه تخطاها الى الكرامة. وكل ما هو دونها يقول، قتل الانسان. لا تقوم الثورات من اجل الخبز بل للكرامة"(4).
في معرض الحديث عن البنى الظالمة لا بد من التوقف عند آفة كبرى تسمى الطائفية. "فالطائفية هي الوجه الاجتماعي للكنيسة"(5). اي انها التوقف عند المظهر الاجتماعي للكنيسة، وإهمال رسالتها الاصلية المميزة؛ انها اعتبار الكنيسة تكتلا اجتماعيا في الاساس، يقوم تجاه تكتلات اخرى لا يميزه عن الهيئات الاجتماعية كافة سوى شعائر فصلت عن مضمونها ولغة افرغت من معناها...(6) "فالطائفية اذاً مأزق روحي على قدر ما هي خلل سياسي وقانوني"(7).
ان اهم الانحرافات الدينية التي تنتج عن الموقف الروحي الطائفي هي إفراغ المؤسسات من غايتها الروحية فتؤدي "الى اعتبار المؤسسات الطائفية قبل كل شيء وسائل لتعظيم الطائفة ودعم نفوذها ووسائل للتباهي والانتفاخ الجماعي(8). فتصبح المستوصفات والمدارس والمياتم غايات بحد ذاتها نتقارع بها مع الطوائف الاخرى "ولكن اعتبار المحتاج في تلك المؤسسات كأنه المسيح نفسه ومعاملته بالاحترام عينه امر قلّما يسترعي انتباهنا"(9). وفي اغلب الاحيان، تتم ادارة هذه المؤسسات بصورة سيئة. ويكون معظم العاملين فيها من ابناء الطائفة الذين يتم استغلالهم على الصعيد المالي والوظيفي، بحجة انهم يقدمون خدمة الى الكنيسة.
من هنا نلفت الى ان الالتزام بقضايا العدالة الاجتماعية بالنسبة الى الانسان المؤمن بالمسيح هو موقف ايماني يتخطى مفهوم الحق الى مفهوم الكرامة، ويتجاوز دافع الصدفة الى اكتشاف صورة الله في الانسان الآخر اي انسان. انها الصورة التي لا تقدر بثمن. يقول المطران جورج خضر: "كل انسان في الدعوة وطاقات الله الكامنة فيه وفي امتداداته الى اللامتناهي. كل انسان مسيح وعليكم ان تنظروا اليه فقط من هذه الزاوية انكم عند ذلك تُحيون فيه الانسان الالهي الذي يمكن ان يصيره"(10).
مقومات وآليات
بناء مجتمع العدالة الاجتماعية

1 – عيش الايمان: وهذا "الايمان ليس مجرد تصديق لحقائق ماورائية، بل انه قبل كل شيء اسلام حقيقي لله. تعرية للنفس امامه وتحول مستمر من الذات اليه باعتباره اصل الوجود وغايته"(11).
2 – الانتقال من الطائفية بمفهومها الانغلاقي والالغائي للآخر، الى سعي الجماعة للعيش في حضرة الله و"طاعتها له ومحبتها له المترجمة بحب اعضائها الفاعل بعضهم لبعض ولكل انسان دون استثناء(12).
3 – الانتقال من التنوع الى التعددية Pluralism.
اننا نعيش في الوطن العربي في مجتمعات تتسم بالتعددية الدينية. اننا غالبا ما نخلط بين مفهوم التنوع والتعددية. ان التعددية تقوم على مبدأ المشاركة. يمكن ان تكون في مجتمع متنوع ولكن تبقى منغلقا في قوقعة طائفتك. ويمكنك ان تقر بأن الآخر موجود، الا انه يبقى دائما غير موجود في دائرة اهتماماتك ومطروحا خارج الأسوار التي ارتضيت ان تحبس نفسك داخلها. انها دعوة الى الشراكة الحقيقية في النضال من اجل احلال مشيئة الله خالق الكل كما في السماء كذلك على الارض. المشاركة منطلق ضروري لاطلاق اي عمل او نضال لاحقاق العدالة. فالظلم لا دين له والقهر والجوع لا طائفة لهما. ان الالم هو أكبر تحد ايماني والامتحان الاصعب هو الموت. ان افظع من كل هذا هو الاحساس بأن الانسان متروك مهمل. أن يحسّ الانسان بأن الله حجب وجهه عنه هو إحساس مروِّع. ان الله لم يحجب وجهه بل نحن حجبنا وجوهنا التي هي المرآة التي ينعكس من خلال وجود الله ورحمته على العالمين.
4 – توتر الهوية والخيار الروحي: إما على صعيد التنوع الديني، فان مفهوم التعددية يخلق جدلية مع مفهوم الهوية الدينية. ان هذه الهوية قد تتطور كي تصبح انفصالية ومأزومة الى حد العنف وبنفس القوة يمكن ان تكون مجالا رحبا لتأكيد الذات الفردية والجماعية وتنميتها وتطويرها. ان مفتاح ذلك هو في اعتماد الروحانية كجامع مشترك يُبنى عليه خصصوا في مجال العمل المشترك بين معتنقي الاديان المختلفة: "تحتاج حركة التلاقي بين الاديان ان تُشاد على قاعدة الروحانية وليس على قاعدة الدين... ان الروحانية تدمج بين خلاص الفرد وتحول المجتمع. ان الروحانية المشتركة تنقل الاهتمام من فعالية خلاص الفرد الى المصير المشترك للجنس البشري. في هذا السياق تُستبدل روح التنافس بحس الرسالة المشتركة"(13).
يعتقد البعض ان الحفاظ على التنوع الديني او الطائفي هو هدف في ذاته. ان التنوع الديني يمكن ان يكون معطى واقعياـ ولكن التعددية تدل على وجه استعمال هذا التنوع. فالتعددية هي اذاً وسيلة وليست غاية(14).
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما هي الأطر التي يُبنى من خلالها مجتمع العدالة الاجتماعية؟ انه من الضروري ان تقوم برصد كل الطاقات والخبرات التي تراكمت على مدى السنوات في هذا المجال. ولكن وبنفس الوقت يجب القيام بخطوات مكملة، واذكر منها:
- توسيع اطر التفاعل بين معتنقي الاديان المتعددة: لقد درجت العادة على حصر التفاعل الديني في اطار حلقات الحوار المتخصصة بين اكاديميين او ممثلي الهيئات الدينية المختلفة. "هناك ضرورة لتوسيع هذه الدائرة كي تضم كل اطر التلاقي الحياتي اليومي من الشارع والمدرسة والعمل وحتى في وسائل النقل العامة" (15).
- اشراك المرأة والشباب: لا بد من اخراج العلاقات الاسلامية المسيحية من اطار التلاقي المحصور بين رجال الدين والاكاديميين المختصين او بعض المهتمين الى اطار الالتزام الاجتماعي الذي يشمل كل مقومات المجتمع. انه دعوة الى التفاعل والتلاقي في عمق الذات الانسانية والى اشراك عنصر الشباب والمرأة فيه من حيث انهما عنصران فاعلان كماً ونوعاُ.
- الصدق من اجل بناء الصدقية: ان اكثر ما يدمر كل مسعى صادق للتواصل الاسلامي المسيحي على الصعد كافة هو اعتماد اللغة المزدوجة. ان هذه اللغة المزدوجة تسمم المناخات وتمنع بناء الثقة الضرورية من اجل اعطاء هذه اللقاءات الاسلامية المسيحية قوة تراكمية تؤدي الى التأسيس لمبادرات مشتركة ذات صدقية وقابلية للحياة.
- عدم فرض "الاجندات" المسبقة: ان احد اهم شروط نجاح العمل الاسلامي المسيحي المشترك هو عدم وضع توقعات مسبقة او فرض نتائج مسبقة لاي لقاء او مبادرة. بل ترك الامور تنمو وتكبر بروح من الوعي والالتزام وعلى قاعدة الصدقية. ان التلاقي على الصعيد الانساني المؤسس على روحانية متجذرة وعلى قاعدة ايمانية صلبة وحقيقية، هو الكفيل بفتح آفاق جديدة وخلاّقة الالتزام الانساني المشترك.
إن اية مبادرة اسلامية مشتركة يجب ان تأخذ في الاعتبار النقاط الآتية:
1 – المشاركة: ان كل الاطراف يجب ان تكون ذات قدرة على التفاعل على قاعدة الشراكة الكاملة التي تبدأ من تقييم الحاجات او المخاطر الى تشخيص العلاج وصولاً الى تبني الحل وتطبيقه وتعميمه.
2 – المثابرة: ان هذا النوع من الاعمال يتطلّب التزاماً عالياً ومثابرة، وهو عرضة للاستهداف وللعرقلة.
3 – الاستمرارية: ان عنصر الاستمرارية ضروري، وذلك يفرض علينا ان ننشئ قيادات من الصف الثاني بحيث لا يحصل انقطاع او فراغ. انه التزام كامل وابدي بحوار الحياة قاعدة للتواصل بين المسيحيين والمسلمين، وخصوصاً في مجال الخدمة الانسانية.
4 – اشراك عناصر اخرى فاعلة في الفضاء العام، واهم هذه العناصر هو الاعلام الذي اعتاد ان يسلط الضوء فقط على الاخفاقات والتأزمات التي قد تنتج عن التفاعل بين ابناء الاديان المختلفة، ودفعهم الى ان يكونوا مساهمين في هذه المبادرات الخلاّقة وتسليط الضوء على نجاحاتها من اجل تعميم الفائدة. اما العنصر الثاني فهو العمل مع نقابات المحامين، مع كل فعاليات المجتمع المدني لتغيير القوانين التي تمس المحرومين وجعلها اكثر عدالة.
5 – الابداع: ليس هناك من وصفات جاهزة للتفاعل الاسلامي المسيحي على صعيد العدالة الاجتماعية بل هو مجال "رحب" للخلق والابداع الذي يأخذ في الاعتبار خصائص كل مجتمع وكل مجموعة مؤلفة لهذا المجتمع.

 

الياس الحلبي

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...