العدوان الثلاثي على الصومال

17-02-2007

العدوان الثلاثي على الصومال

مضى أكثر من شهر على العدوان الإثيوبي الأميركي الغاشم على الصومال المسنود لوجستيا وعسكريا وأمنيا واستخباراتيا وإعلاميا ودبلوماسيا من كينيا.

وحوصرت البلاد من جميع الجهات جوا وبحرا وبرا، ولا تزال القوات الجوية الأميركية حتى كتابة هذه الأسطر تقصف الأبرياء من المعدمين والفقراء الذين أضناهم الكد وراء كسرة خبز صعبة المنال، مستعملة أكثر الأسلحة تطورا وأكثرها تدميرا وبطشا.

وفرضت القوات الإثيوبية الغازية حكم الحديد والنار والنهب والسلب وتدمير الممتلكات العامة وهتك الأعراض وترويع الآمنين في ربوع البلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها.

فلماذا كل هذا؟ منذ عام 1990م وإثيوبيا وكينيا تعملان بشكل منهجي ومنسق لتدمير الصومال داخليا، بإثارة الفتن وتسليح كل الفئات المتصارعة وبث الجواسيس وإعاقة كل فرص الوفاق والمصالحة.

وفجأة اكتشفت الولايات المتحدة أن الصومال مهم في إستراتيجيتها الكونية، وكان ذلك في أعقاب الحرب الباردة، وبدأ المحافظون الجدد يبشرون بعجرفة القوة وببريق القطب الأعظم الوحيد الذي لا حدود لسلطانه وجبروته ونفوذه.

وبدؤوا يعيدون قراءة التاريخ، ويتحسرون على منح الاستقلال للشعوب المستعمرة، الذي لم يتم -بنظرهم– إلا بفضل الضغوط السوفياتية، أما ولم يعد هناك الاتحاد السوفياتي، فإنهم يستطيعون العودة إلى قواعدهم سالمين.

كان لعابهم يسيل على العراق المحاصر بعد حرب تحرير الكويت لأن المهمة لم تنجز، ولأن ليبيا صيد ثمين وكذلك السودان طبقا للرؤية الجيوسياسية للولايات المتحدة في تلك الفترة.

وكان الصومال مكانا صالحا لإجراء التجارب، فإذا نجحت فإنها ستطبق في السودان ثم في العراق ثم في ليبيا، وهكذا دواليك في مناطق أخرى.

حدث هذا قبل 13 عاما من غزو أفغانستان ثم احتلال العراق وقبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان لحساب الولايات المتحدة.

لقد حشدت الولايات المتحدة أكبر مجهود حربي لاحتلال الصومال مستخدمة حلف الأطلنطي ومنظمة الأمم المتحدة ووصل عدد القوات المسلحة التي نزلت الصومال 33 ألفا منها 28 ألفا قوات أميركية، وتكلفت الحملة ثلاثة مليارات دولارا.

لقد كان الهدف المعلن للوجود الأميركي يختلف عن الهدف الحقيقي ألا وهو وقف الاقتتال وتحقيق الأمن والوفاق الوطني.

وبدلا من السعي لتحقيق هذا الغرض أصبحت طرفا في القتال بإطلاق الوعيد والتهديد وشن الغارات العشوائية برا وجوا وقصف المباني العامة والمستشفيات وأزقة العاصمة للقصاص من المطلوب القبض عليهم أو لممارسة أعمال انتقامية ضد أعمال فردية معادية للقوات الأميركية.

واستمرت المعارك دون توقف في مدينة مقديشو إلى أن وقعت الواقعة الشهيرة بإسقاط طائرة بلاك هوك حيث قتل 18 جنديا أميركيا مقابل إزهاق أرواح ألف صومالي.

لقد علق السفير الأميركي روبرت أوكلي -الذي كان مسؤولا عن برنامج "إعادة الأمل" في عهد الرئيس بوش "الأب" لكنه كان قد ترك الخدمة عند وقوع هذه الحادثة- قائلا "لم تنطل الوعود البراقة على الشعب الصومالي، لقد أحس بالنوايا الحقيقية للولايات المتحدة، عرف أنها تريد استعماره فقاومها بشراسة" ( صحيفة هيرالد تريبيون).

وبضغط من الرأي العام الأميركي انسحبت الولايات المتحدة بعد فشل مهمتها، وبناء عليه تبنت سياسة جديدة تقوم على استخدام الدول التابعة لها لممارسة المهمة بالوكالة عنها، فأطلقت العنان لإثيوبيا لتستبيح الصومال وتخترق الحدود وترسل الحملات التأديبية ضد من تشاء وتطارد خصومها وتشجع الجماعات المسلحة من كل التيارات بالاقتتال.

وحُرمت البلاد من أي مظهر للأمن والنظام العام والاستقرار، وأخذت ترعى وتحرك من بعد العصابات المسلحة لتمزق البلاد مرة إقليميا وأخرى عشائريا وثالثة تقسيم المدن إلى أحياء يتنازع عليها من اشتهروا باسم أمراء الحرب المأجورين.

ومن رحم هذه المعاناة، ومن منطلق الضرورة وبسبب عدم وجود جهاز إداري يوفر الأمن والخدمات وينظم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، نشأت حركة "اتحاد المحاكم الإسلامية" لتسد الفراغ الناتج عن فقدان الدولة بتقديم الخدمات الأساسية وتنظيم العلاقات الاجتماعية والقانونية طبقا للموروث الديني والثقافي والاجتماعي، ألا وهو العرف الصومالي والشريعة الإسلامية.

واستطاعت الحركة في ظل إرهاب العصابات المسلحة أن تتطور رويدا رويدا، أولا بإنشاء جهاز قضائي، ومن هنا جاء اسمها "المحاكم" للفصل في المنازعات، وتتمتع أحكامها بالسلطة التنفيذية طواعية انطلاقا من إحساس الجماهير بقوتها الأخلاقية والأدبية.

ثم تطورت -ومعها الجمعيات الإسلامية الأخرى ويسندها المجتمع المدني- لتقديم الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية إلى أن تمكنت من إنشاء ثلاث جامعات.

إذاً الحركة نتاج محلي لحل واقع معقد مفروض من قبل دولتين إقليميتين هما إثيوبيا وكينيا مسنودتين من الولايات المتحدة والغرب.

إن الحركة وما تمثله من مشروع وطني يتمتع بتأييد واسع من الجماهير الصومالية بمختلف فئاتها يتناقض والمصالح الإقليمية للدول المجاورة مدعومة من الولايات المتحدة.

إن تصريح السيدة جينداي فريزر مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون الأفريقية في محاضرة لها في 17 /1/2007 بأن "الولايات المتحدة لن تسمح لهذه الحركة بأن تنظم نفسها في كيان سياسي" لا يعكس إلا قوة الحركة كما يمثل الخوف والهلع من صعودها من جديد، وتحديا لأي مشروع وطني تحرري.

إن فداحة وهول الدور الأميركي في رعاية ودعم حماية العدوان الإثيوبي يعيد إلى الأذهان كابوس التقسيم الاستعماري للصومال في نهاية القرن التاسع عشر عندما منحت الحبشة حصة الأسد من الوطن الصومالي.

وها هي الإمبراطورية الجديدة تعيد تقسيم الجمهورية الصومالية بفعل ميثاق "إلدوريت" الذي بموجبه أنشئت الحكومة الانتقالية التي لا تمثل سوى الأوصياء الذين انتدبوها لتمثيلهم من وراء ظهر الشعب الصومالي وبرغم أنفه.
وقد أكدت السيدة جينداي فريزر في نفس المحاضرة هذا المعنى عندما قالت ردا على سؤال حول الثمن الذي تقبضه إثيوبيا مقابل شنها حربا بالوكالة لمصلحة الولايات المتحدة "إن إثيوبيا تتحرك من منظور مصالحها الخاصة، وتصرفت بناء على هذه المصالح في ظل الظروف التي واجهتها، وحققت مصالحها بموجب قرارات صادرة من رئيسها وبرلمانها طبقا لوسيلتها الخاصة في اتخاذ القرار".

وما لم تقله السيدة فريزر هو أن الثمن مدفوع مقدما، وهو إهداء الصومال كله إلى إثيوبيا، ومباركة الأطماع التوسعية الإثيوبية، في احتقار فاضح لحق الشعوب في تقرير المصير والسيادة الوطنية والقانون الدولي الذي يجرم العدوان والحروب غير المشروعة.

وقد أشار رئيس جمهورية جيبوتي إسماعيل عمر جيلي -الذي كان بحكم موقعه كرئيس دولة مجاورة محيطا ببواطن الأمور- إلى هذه الحقيقة قبل الغزو بأكثر من شهرين، عندما وجه نداء عاطفيا إلى شعب الجمهورية الصومالية قائلا "إن هناك مؤامرة دولية تحاك لا لتدمير الدولة الصومالية فحسب وإنما لمحو الوجود الصومالي كشعب وإلغاء كيانه السياسي".

ولذلك حث الصوماليين -كل الصوماليين- بلا استثناء على التكاتف والتعاضد لمقاومة هذا الخطر المحدق.

ما يحرك الولايات المتحدة إزاء الصومال ليس مصالحها الإستراتيجية الكونية والإقليمية فحسب بل وتتحرك أيضا من عقدة الفشل الذي عصف بأول مشروع للسيطرة الكونية بالحادثة المشهورة في مقديشو بإسقاط بلاك هوك.

وهذا ما عبر عنه السيد جون همباري رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن في 17 /1/2007 حين قال "يشغل الصومال موقعا فوبيا (كابوسيا) في سياستنا الخارجية بما له من دلالات سلبية" ومن هنا ضرورة الاستنجاد والتواطؤ مع إثيوبيا لإذلال الصومال ورد مشاعر الإهانة بمثلها.

وقد حلل السيناتور راسل فينيجولد رئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في محاضرة له في 7 /1/2007 أزمة السياسة الأميركية تجاه الصومال فقال "إنني قلق من طريقة تجاوب حكومة الولايات المتحدة من التطورات في الصومال، فبينما كان الوضع على الأرض معقدا جدا ومتوترا، كان رد فعلنا من هذه الأحداث في منطقة حيوية يبين بأن حكومتنا لا تزال تتخبط ولا تعرف كيف تتعامل مع الدول الفاشلة (حسب وصفه). والمنكوبة بعدم الاستقرار والنزاعات الإقليمية".

وجاء في تلك المحاضرة أيضا "نحن نعلم أن الحكومة الانتقالية ضعيفة، وأمامها طريق صعب لكي تثبت أنها حكومة ممثلة للشعب الصومالي، وحسب كل التقارير الصوماليون لم يلتفوا وراء هذه الحكومة".

وأضاف "إن الوجود العسكري الإثيوبي في الصومال يمثل تحديا كبيرا، فبينما يؤدي استمراره إلى عدم الاستقرار، فالصحيح أيضا في هذا المأزق الذي نحن فيه، أن انسحابه يخلق وضعا خطيرا من ذلك النوع الذي أفضى إلى ظهور المحاكم الإسلامية".

هذا اعتراف صريح بفداحة الكارثة ومأزق العدوان الثلاثي على الصومال، فبعد الاحتلال لم تستطع القوات الغازية الخروج من ثكناتها أو ممارسة عمليات الأمن أو إثبات سلطتها أو وجودها في أي منحى من مناحي الحياة.

إنها معزولة تماما، وتتلقى ضربات المقاومة الموجعة في يأس وانكسار، والحكومة الانتقالية مدموغة بالعمالة ومحاصرة في مواقعها تحت حماية وحراسة إثيوبية مشددة.

إن العدوان يريد فرض الحكومة الانتقالية المرفوضة شعبيا، وتكريس الاحتلال الإثيوبي، ولأن ذلك غير ممكن في ظل الأوضاع الراهنة، فلا بد من البحث عن تحالف دولي لفرض الأمر الواقع كما هو الشأن في العراق وأفغانستان.

ولذلك تسعى الولايات المتحدة لدى الدول الأفريقية -مستغلة حاجة هذه الدول إلى مساعدتها- إلى إغرائها للمشاركة في العمليات العسكرية لتثبيت الأمر الراهن، بمنح الحكومة المؤقتة الشرعية التي تفتقدها شعبيا وحماية القوات الإثيوبية أو مساندتها في مواجهة حركة المقاومة الصومالية.

وكما قال أحد الكتاب الأميركيين حديثا فإن الولايات المتحدة لم تتعظ ولم تقرأ جيدا تاريخها المعاصر مع الصومال.

في عام 1993م استخدمت كل طاقات الأمم المتحدة والولايات المتحدة وحلف الأطلنطي، واستجلبت قوات تعدادها 33 ألفا وأحدث ما في التكنولوجيا العسكرية الأميركية لتحقيق أهداف ظاهرها براق ومقنعة للرأي العام الدولي والمحلي كتقديم المساعدات الإنسانية (إعادة الأمل) وتحقيق المصالحة الوطنية الداخلية.

أو بمعنى آخر تحقيق طموحات أقل شأنا من المقاصد المراد تحقيقها اليوم، ألا وهي إعطاء شرعية لحكومة لا شرعية لها وتغطية الاحتلال الإثيوبي وحمايته من المقاومة الوطنية.

فإذا فشلت تلك التجربة في ظل ظروف تشرذم المجتمع الصومالي وتناثر أطرافه ومكوناته وتشتت عشائره وتأييد نسبة عالية من الشعب للجهود العسكرية الأميركية، بسبب اللجوء إلى السلاح وحده دون أية وسيلة أخرى لحل المشاكل السياسية واستخدام العنف المفرط والبطش الجامح للترهيب والترويع ومن ثم تحقيق الخنوع والاستسلام، فإن الوضع اليوم أكثر تعقيدا والشعب الصومالي أكثر وعيا وأكثر اتحادا من أي وقت مضى وأكثر استعدادا للمقاومة.

والتناقض بين الطرفين أكثر وضوحا، فمن جهة تقف إرادة البقاء والتحرر وتحقيق الاستقلال الوطني وإعادة تكوين الدولة الصومالية، ومن جهة أخرى تقف المطامع الإقليمية والدولية لتكريس الاحتلال وإعادة تقسيم الدولة الصومالية والاستئثار بخيراتها ومواردها.

وللخروج من هذا المأزق تجري الجهود الأميركية والأوروبية لاستئجار القوات الأفريقية لأداء وتكملة الدور الذي تعجز عن تحقيقه القوات الإثيوبية المسنودة أميركيا وكينيا.

وقد فطنت حكومة جنوب أفريقيا لهذا الدور فرفضت استعمال قواتها لقمع شعب يناضل من أجل التحرير وإثبات الوجود وتحقيق تطلعاته في الكرامة والحرية والاستقلال.

ولا شك أن هذه الخطة تحمل بذور هزيمتها لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار القوى الحقيقية في المعركة الراهنة ألا وهي إرادة الجبهة العريضة من الشعب الصومالي التي تناضل ضد الغزو الأجنبي، لتحقيق طموحات الشعب في الاستقلال ووحدة ترابه الوطني.

لن يستطيع بضعة آلاف من القوات الأجنبية التصدي لشعب تعداد سكانه عشرة ملايين يملك إرادة المقاومة والصمود والفداء.

محمد شريف محمود

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...