العلمانية: مفارقات السعادة والألم

19-03-2007

العلمانية: مفارقات السعادة والألم

نود أن نركّز في مداخلتنا هذه على مسألة تبدو مركزية في فكر الدكتور عبدالوهاب المسيري وهي تتمثل بمفهوم العلمانية حيث تفتح قراءة المسيري لهذا المفهوم أفقاً جديداً في سياق الفكر العربي الاسلامي الراهن وذلك بتجاوزه اعتبار العلمانية صورة مبسطة هي بمثابة الفصل بين الدين والدولة ليبيّنها بما هي نسق من الأقوال والأفعال والنقلات يقوم على ضبط آليات التأصيل والتوصيل وإعادة انتاج الحياة.

ذلك هو الفهم الجديد الذي يقدمه صديقنا وأستاذنا مؤمّناً بذلك أداة نقدية فعّالة في مواجهة تدفقات التحديث والعقلنة التي تختلط اليوم بسياق العولمة بشتى أنواع القهر والاحتلالات. وإننا في هذه الكلمة السريعة والمقتضبة سنحاول مستخدمين الطاقة التي يؤمنها هذا المفهوم لتعميق أصوله وتوسيع دلالاته وذلك بالاشارة الى نقطتين:

تتعلق النقطة الأولى بضرورة أن يتجاوز تحليل هذا المفهوم حقل الآليات اللغوية البيانية ليلتقط الآليات السلطوية الحديثة التي ترسّخه وتعطيه فعالية امتدادية تتخطى تنوّع المعارف والنماذج واللغات وتعطّل قدراتها التقعيدية بما هي أولاً وقبل كل شيء وليدة السيادة التي امتزجت بفكرة التطور التنويرية لا لتفصل بين الدين والدولة بل لتعطّل جوهر المجتمع الديني القروسطي القديم وذلك بفرض السعادة باسم فعالية المقاصد التقدمية وتعيين هذا التقدم بالسيطرة على الألم. والمفارقة هو أننا على رغم كل ما نشهده من استنفار انساني معولم لبث هذه السعادة من خلال التنمية والأخلاق التداولية ودحر مشاهد الألم بفصلها عن ديناميات العنف السلطوي الحديث اللامتناهي، فإن هذه السعادة لا تكتسب شرعيتها في الأصل إلا من هذا العنف نفسه.

إن هذا بالضبط ما يمكننا من اكتشاف المنزلق الوجودي الذي يأخذ اليوم الفكر الاسلامي الى متاهة التقريب، إذ كيف نتطيّر من العلمنة ونرفض عناوينها ونقبل في الوقت نفسه متطوعين لا مرغمين بدعوتها لنا للدخول في مسار سعادتها. هذه السعادة حيث لا يرتسم التاريخ بفصل الدين عن الدولة بل بالفصل بين تجربة الألم التي استدعت في تاريخنا مجمل المعالجات اللاسلطوية التي يرمز اليها بامتياز مفهوم البر والاحسان عن الألم الحديث، ألم الدولة الحديثة الذي يصور لنا وكأنه ضرورة لا بد منها للدخول في اطار التقدم وحيث الدولة في ظل الاحتلال بل الدولة الاسلامية في ظل الاحتلال تقع فعلياً بين هذين الألمين، أي في الرهان على مستقبل تنويري ديموقراطي يقود الى تعطيل مجمل الضوابط الذاتية لتحمّل الألم الذي ينمذج الجماعة القرآنية والقبول بسعادة موعودة تمر عبر تقنين احتلالي لألم مفروض في ظل عقلانية مبرمجة.

من أين تدخل هذه العقلانية الى بلادنا وما هي المواضيع التي تخترق منها نظاماً راسخاً؟ كيف تـلتـقـي اليـوم طلائع اسلاميـة جهازية مع تـلك الوعـود فتتسارع الى انشاء دول مستنسخة لتتصارع عليها قبل نشوئها؟ وبالفعل لقـد استـخدمت هذه الطلائع مجمل ما كان يشير في نظام التراث الى حاجات السلطة الى تطويع الاعجاز القرآني واخضاع نظامه التشريعي الى حكم الوقت تحت عناوين المقاصد والمصالح المرسلة حتى بتنا في زمن انهيار الأمة نرى أن من طبائع الأمور أن ندمح بـين أحكام الشريعـة الحافـظة لمبدأ الجماعة وبين أحكام القانون المدني الحديـث النابـذة لها بحيـث لم يعد يحول دون هذا الدمج العجيب المتقدم متخفياً بالبـداهة إلا أحكام العائلة بما هي بتعبير بيير بوريو شكل الممانعة المتبقي والوحيد.

لم يكن من السهل بعد تعطيل فقه المعاملات اختراق حقل العلاقات العائلية بتبديل أصولها الشرعية وإلحاقها بالنماذج الغربية الحديثة ولذا جاءت صيغة الأحوال الشخصية كنقطة توازن مؤقت بين منطق الشرع الاسلامي القائم على الجماعة القادرة على تأمين دورتها الذاتية ومنطق القانون الحديث حيث تبدو العائلة حقل نيات فردية لا يلتئم إلا بتدخل الدولة في ما تقوم العولمة اليوم بكسر هذا التوازن واستكمال شحنته السلبية السلطوية لتفريغ الاطار العائلي من فعاليته التي تتعارض مع الفعالية المعولمة التي تقوم بتجاوز الأطر الجمعية لتتكون خارجها وترتد عليها.

وحين لا يحسم الفكر الاسلامي موقفه من اجتياح القانون الحديث لمبدأ الجماعة مكتفياً بتصدّ شكلي لمفهوم العلمنة، فإنه يتغافل عما تنطوي عليه مجمل الدعوات التحديثية التنموية الآتية من المنظمات الدولية العولمية مدعية اعادة تشكيل العلاقات والرموز العائلية ضاربة الذاكرة ومعايير الاحتراف والحميمية فارضة معايير رياضية مالية للسعادة الانسانية. فمجمل تلك المفاهيم المتعلقة بحقوق المرأة ومحاربة التمايز بين الجنسين وحماية الاطفال العاملين لا تُفهم إلا من خلال هذا السعي المحموم لتقويض الأصول الاسلامية التي تحكم الجمع والتفريد مفرقة بين التسلط وضرورة الضبط الذاتي المؤمّن للحمة عبر مفاهيم مثل الولاية والقوامة التي تشكّل اليوم بما هي مواضع معطلة للآليات السلطوية الحديثة حيث تتحكم الدولة بالعائلة الهدف الرئيسي حيث يصب الفكر النيوليبرالي المعولم نيرانه من دون هوادة.

بهذا المعنى فإنه لئن كان من المفيد تعيين الحداثة بالعلمانية، فإن هذه العلمانية لا تختصر بالفصل بين الدين والدولة ولا تُفهم بمقارنتها من خلال صيغها اللغوية. إنها في الأساس صيغة فريدة بالتسلط والقهر، صيغة تبدأ من القبض على ألم الناس لتقدم نفسها كعنوان لسعادتهم، صيغة تقطع بآلية السيادة تواصل زمن الذاكرة لتعطي نفسها بيانياً زمن التطور والمستقبل، صيغة تعطل مبادئ الجمع وتفككها وتموّه طاقتها التفكيكية بكلامها عن التآلف وترويجها لحكايتها الديموقراطية.

وفي النهاية فإننا لم نقدم على تفصيل هذه الافكار وتمتينها إلا لتوسيع مفهوم العلمانية الذي كان لأستاذنا المسيري فضل إرساء أصوله وتبيين دلالاته.

مصطفى لافي الحرازين

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...