اللجوء إلى العنف باسم الدين

02-09-2006

اللجوء إلى العنف باسم الدين

الجمل: إن أحد أردأ أشكال العنف يكمن في القيام بكفاح مسلح، في شنّ حرب، لإخضاع أو حتى لاستئصال أناس آخرين أو شعوب أخرى، وتدمير دول أخرى، وسلب جماعات أخرى حريتها. وأسوأ هذه الأشكال الرديئة هو الشكل الذي يسعى الإنسان إلى تبريره بالاستناد إلى دواعٍ دينية أو حتى إلى وصية إلهية. عن هذا نعرف بعض الشيء من تاريخ المسيحية ومن ممارسة بعض الشعوب أو الجماعات المسيحية، وكذلك من تاريخ الإسلام وممارسات بعض التجمعات الإسلامية. في عصرنا أيضاً يمكن أن نلاحظ ظهور ذهنية تؤيد اللجوء إلى العنف وتكرز به، وتقود مباشرةً إلى هذا الشكل من العنف كما تحبذ تصرفات فرق تسيء استخدام الدين للبلوغ إلى مآربها السياسية.
لست مؤرخاً بل أنا متخصص في علوم الدين، وبالتدقيق في العلوم الإسلامية. ولذلك فليسمح لي أن أترك لزملاء لي أكثر كفاءة النظر النقدي الضروري في تاريخ المسيحية والإسلام وحاضرهما، لألتفت إلى إشكالية هذا النوع من العنف في عالم الإسلام.
لا أقصد التهجم على الإسلام ـ إذ إني أكن للإسلام احتراماً كبيراً ـ ولا الإساءة إلى المسلمين ـ إذ إني أسعى منذ زمن غير قصير إلى الوصول إلى تميز دقيق في المعرفة والحكم. ما أقصده هو رسم الملامح الأساسية للنظرية التي تستخدم كتبرير لمثل هذا التصرف، وتلمس الطرق التي يمكن أن تؤدي من نظرية للحرب إلى نظرية للسلام .
ولكن لا بد لي أولاً من أن أوضح لماذا تتبين لنا مثل هذه الحالات السيئة وعلام يعتمد مؤيدو ما يدعى بالجهاد ( المسلح ) لنصرة قضية الإسلام .
وعليه سأعرض تصوري في ثلاث مراحل :
1- نظرية الجهاد .
2- براهين لمصلحة نظرية السلام .
3- العيش المشترك مع غير المسلمين .
 
1- نظرية الجهاد
1 – 1 – تحديد  الهويـة :
1 – 1 – 1 –  الهوية حيال الآخرين :
في مرحلة أولى اعتبر محمد رسالته تصديقاً للتوراة والإنجيل ( راجع القرآن 2: 97، 101؛ 3:2 وغيرها ). فتحدث عن وحدة الوحي ووحدة الكتب المقدسة ( راجع 3: 84؛ وأيضاً 136:2؛ 150:4، 163 ). فاعترف بإله اليهود والمسلمين : « إلهنا وإلهكم واحدٌ ونحن له مسلمون » ( 46:29 ). ولكن بعد هجرة الجماعة الإسلامية من مكة إلى المدينة، حدثت ظروف وضعت هذا الانتماء المشترك موضع الشك . فمن سنة 622 حتى سنة 624 حاول محمد أن يكسب أهل الكتاب، ولا سيما اليهود ، ليقيموا تحالفاً معه ضد أعداء الإسلام المكيين المشركين . ولكن الإشارات إلى الانتماء الأساسي المشترك بين المسلمين واليهود والمسيحيين لم تثمر . وحينئذ خطا محمد خطوتين حاسمتين كان من شأنهما تأمين الاستقلال له وللإسلام . في خطوةٍ أولى رجع محمد إلى دين إبراهيم، أبي جميع المؤمنين ( القرآن 135:2 )، مناقضاً بذلك اليهود والمسيحيين الذين يدّعون كلٌ من جهته امتلاك الدين الخلاصي الوحيد . فدين إبراهيم كان قائماً قبل اليهودية وقبل المسيحية ( 65:3، 67 ). وبهذا شدد محمد انتماء رسالته إلى إبراهيم، من دون أن يربطها مباشرةً باليهودية أو بالمسيحية . والخطوة الثانية لتحديد هوية الإسلام كان لها طابع ديني وسياسي في آن واحد. فكان لا بد من إبراز الطابع العربي للوحي القرآني، وفي الوقت عينه توضيح ارتباطه المباشر بإبراهيم . فأثبت القرآن أن إبراهيم هو الذي مع ابنه إسماعيل بنى المكان المقدس الرئيسي للجزيرة العربية القديمة، الكعبة في مكة ( راجع 124:2- 134 ). وبذلك تغير أيضاً اتجاه الصلاة من القدس إلى مكة. إذّاك تشددت نهائياً هوية الإسلام حيال اليهودية والمسيحية ، وصارت الكعبة مكان تجمع كل القبائل العربية، وارتفعت بمثابة رمزٍ لوحدة كل المسلمين الدينية .
ومنذ ذلك الحين أضحى المسلمون إخوةً بناءً على إيمانهم المشترك ( 10:49 ). إنهم، رجالاً ونساء، أولياء بعضهم لبعض ( 71:9 ). « واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً [...] » ( 103:3 ). المسلمون فقط هم إخوة بعضهم لبعض، ويستطيع الآخرون الانتماء إلى تلك الأخوة، إذا قبلوا الدعوة إلى اعتناق الإسلام ( 11:9 ) .
 
1 – 1 – 2 –   الهوية ضد الآخرين :
مع التطور اللاحق صار تحديد الهوية الخاصة أكثر حدةً : فأصبحت الهوية توصف كأنها موجهة ضد الآخرين . ففي نظام الشرع الإسلامي وفي تفاسير القرآن اللاحقة، طُمست بسهولة الفروقات بين المشركين وأهل الكتاب ( اليهود والمسيحيين ). وتوسعت باستمرار مصطلحات مثل « المشركين » لتُطَلَق أيضاً على اليهود والمسيحيين. وإن كانت الدولة الإسلامية في تشريعها قد أقرت لليهود والمسيحيين حقاً ثابتاً في الإقامة في كنفها بصفة ذميين، فالفروقات بينهم وبين المسلمين كان يبالغ فيها، وذلك دلالةً على إذلالهم ( راجع القرآن 29:9 ).
1 – 2 – الجهاد ضد غير المسلمين في النظام التشريعي السلفي :
1 – 2 – 1 – أقوال القرآن :
إن أحكام القرآن المتعلقة بالجهاد ترجع إلى الحقبة المدنية من دعوة محمد إلى الإسلام، أي إلى الفترة الواقعة بين 622 و 632م. ففيها وقف محمد موقفاً صارماً من المناوئين، الذين كانوا يناصبون المسلمين العداء ويحولون دون وصولهم إلى الأماكن المقدسة في مكة، وينكثون العهود المبرمة معهم. وبعدما كان القرآن، في فترة معينة، قد حكم بشن حرب دفاعية مشروطة على أعدائه، عاد فأعلن الحرب الشاملة على العدو اللدود للجماعة الإسلامية. وعليه يأمر القرآن المسلمين بالخروج إلى الحرب ذوداً عن حياتهم (30:8) وعن إيمانهم ( 8:61 ) وعن وحدة الأمة ( 217:2 ). « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله » ( 39:8؛ 193:2 ). أما الذين يثبتون، بخوضهم القتال، ولاءهم لدينهم وطاعتهم لله وللرسول، فسوف يؤتيهم الله أجراً عظيماً ( 74:4 ). فغاية القتال النهائية لن تدرك، والسلام لن يحل ويسود إلا بعدما يعتنق الكفار الإسلام ( 16:48 )، وينتصر الإسلام على الأديان كلها ( 33:9 ). وما لم يتحقق ذلك الهدف، فإن الحرب الشاملة تبقى قائمة : « وقاتلوا المشركين كافةً كما يقاتلونكم كافةً » ( 36:9 ). على هذا النحو سيرد المسلمون على أعدائهم ما لقوه من عنف ويتولون بأنفسهم معاقبة الكفار، وبذلك يتمون الواجب الذي يدعوهم إلى الذود عن حقوق الله وضمان هيمنة الإسلام. ولهذا الجهاد أهمية قصوى، إذ إنه يؤول في آن واحد إلى صيانة وحدة الجماعة الإسلامية وتعزيزها وصيانة نظام الحياة الإسلامي ونشره، بحيث لن يكون في النهاية سوى جماعة واحدة في العالم، أو على الأقل يبسط الإسلام سيطرته على سائر الأديان والجماعات البشرية ( 33:9؛ 9:61؛ 28:48 ).
وكذلك حيال اليهود والمسيحيين يأمر القرآن قائلاً: « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون » ( 29:9 ). وفي الآيات اللاحقة ( 30:9-35 )، تعطى أسباب هذا التوجيه. وينص أحدها على ما يلي : « يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون » ( 32:9 ).
1 – 2 – 2 – معطيات النظام التشريعي الإسلامي :
على هذه الأحكام القرآنية وهذه الأهداف يقوم النظام التشريعي السلفي وما ينص عليه في شأن الجهاد.
فهذا النظام التشريعي يقسم العالم قسمين : دار الإسلام ودار الحرب. فدار الإسلام هي دولة الله ومملكة السلام، التي تسودها الشريعة الإسلامية والنظام الاجتماعي الذي أتى به الإسلام والبنية السياسية الإسلامية. أما دار غير المسلمين فهي تحديداً ما يسمى دار الحرب، فيها تسود شريعة الكفار وغير المسلمين، التي تناقض شريعة الله في بعض النواحي إن لم يكن في نواحٍ كثيرة. ومن واجب المسلمين أن يدافعوا عن دارهم ضد هجمات الأعداء. وعلاوةً على ذلك، عليهم أن يناضلوا نضالاً فعلاً ليظهروا شريعة الله على سواها حتى في دار غير المسلمين، فتنتصر حقوق لله في كل مكان.
وإذا اضطر المسلمون إلى أن يدافعوا عن دارهم ضد عدوان شامل، حمايةً لبقائهم، فإن جميع المسلمين مدعوون إلى القتال في سبيل الذود عن دارهم وعن حقوق الله. أما في غير ذلك من الظروف الأقل خطورةً، فيرى العلماء والفقهاء أن الجهاد هو من واجب الدولة والجماعة الإسلامية ككل، ويعتبرون أن هذا الواجب قد تم، إذا كانت تبذل مساعٍ في أية بقعة من بقاع العالم لتوسيع نطاق الحكم الإسلامي.
واجب الجماعة هذا هو واجب دائم. ولا يمكن أن يتوقف الجهاد في سبيل الإسلام تحديداً، إلا إذا آمن جميع الناس بالله أو اعتنقوا الإسلام. فالغاية من القتال « في سبيل الله » على حد التعبير القرآني ( مثلاً 190:2 ) لن تدرك، إلا بعد أن تضم دار العدو إلى دار الإسلام، وبعد أن يتم استئصال الكفر من العالم وأن يخضع غير المسلمين لهيمنة الإسلام. فطالما لم يبسط الإسلام هيمنته على العالم بأسره، يبقى الجهاد قائماً. وعلى الأقل بالمحاولات السياسية أو بأي طريقة أخرى.
أما في ما يختص بالسلام، فهو الوضع النهائي الذي سيفضي إليه النزاع القائم بين الدولة الإسلامية والجماعات غير المسلمة. وهذا يعني أن الجهاد سيواصل، لا محالة، إلى أن تتحول دار الحرب إلى مناطق تقع في ذمة الإسلام، باعتبار أن أهلها هم من الذميين الذين لهم أن يعيشوا بسلام وبتقوى الله تحت هيمنة الدولة الإسلامية.
فحالة السلام لن تدرك والسلام لا يمكن أن يستتب نهائياً ما لم تتسع حدود دار الإسلام، حتى تبلغ أقاصي الأرض، أي ما لم تقم في العالم دولة واحدة: دولة الإسلام. وطالما أن هذه الغاية لم تدرك بعد، بقيت دولة الله الإسلامية في حالة نزاعٍ دائمٍ مع الدول غير الإسلامية، وظلت علاقاتها بالدول الأجنبية في حالة نزاع شرعي.
بيد أن هذا الوضع لا يعني أن الإسلام يبقى في حالة قتالٍ فعلي نشط مع غير المسلمين، أو أن عليه أن يشن « حرباً مقدسة » دائمة على الشعوب الأجنبية. كما أنه لا يعني أن الدولة الإسلامية لا يحق لها أن تقيم أية علاقات من أي نوعٍ مع تلك الشعوب. بل لها أن تبرم عقوداً ومعاهدات وأن تعقد اتفاقات وتقيم علاقات ثقافية واقتصادية وتتقيد بها. غير أن إجراء مثل هذه الاتصالات وإنشاء هذه العلاقات لا يتضمنان، في نظر النظام التشريعي الإسلامي السلفي، الاعتراف بشرعية الدول الأجنبية. إنما تدل إقامة تلك العلاقات فقط على الاعتراف بأمرٍ واقع، وهو أنه لا بد، حتى للدول غير الإسلامية، ما دامت قائمة، من سلطةٍ ما، ونظامٍ اجتماعي وسياسي معين.
وعليه فإن الدولة الإسلامية تبقى مستعدة لأن تأخذ علماً بوجود السلطات الأجنبية القائمة وما يسود عندها من نظمٍ اجتماعية ومؤسسات رسمية، وأن تجري اتصالات بكل من هذه الحكومات وتنشئ معها علاقاتٍ سلمية مؤقتة، خدمةً لمصالح المسلمين.
غير أن هذه العلاقات السلمية لا تلغي تقسيم العالم أساساً إلى « دار الإسلام » و « دار الحرب». لكن طالما بقي السلام مستتباً فإن الفقهاء يسمون دار الحرب « دار الصلح » أو « دار العهد ».
إنما يؤكدون في الوقت عينه أن جواز عقد معاهدات واتفاقات هدنةٍ أو سلامٍ مع الأقطار غير الإسلامية لا يعني وضعها على قدم المساواة مع الأقطار الإسلامية. فما فترات السلام المؤقتة المحدودة إلا استراحة على طريق أسلمة العالم برمته. صحيح أن من العسير بلوغ هذا الهدف، وقد يبقى في الحياة العملية مجرد حلم ذهبي، لأن المنطلق العملي الساري في الحالات العادية يقضي بأن يبقى الجهاد بمعناه الحصري واجباً مستكيناً، لا دافعاً إيجابياً يحث على التنفيذ الفعلي.
إنما سيظل ذلك الهدف النظري قائماً وسيثير صراعاً مستديماً بين الممارسة العملية والوضع المثالي الذي يريده الله.
وللمرء أن يقارن تصور النظام التشريعي الإسلامي السلفي للجهاد في سبيل الإسلام بما تقوله في الجهاد اليوم الفئات المناضلة في العالم الإسلامي، وأن يوجز الوضع كما يلي : السلام هو الحالة الداخلية لنظام الدولة الإسلامية، إذا حكمت بموجب شريعة الله، فلا تترك أي نوع من حرية التصرف للكفار والمنشقين والعصاة، وما شابههم من الجماعات التي من شأنها أن تعرض كيان الدولة الإسلامية للخطر، بل تستأصلهم أو تردهم إلى دين الله. فالسلام، إذا نظرنا إليه من الخارج، إنما يعني الوضع النهائي الذي يتم الوصول إليه بتحقيق انتصارٍ ساحقٍ على الجماعات غير الإسلامية، بحيث لا يبقى قائماً إلا الدولة الإسلامية، التي لا يعيش فيها من غير المسلمين إلا أتباع دين سماوي تعترف به الدولة الإسلامية، من أهل الكتاب، فيكون وضعهم القانوني فيها وضع الذميين. وبذلك تكون الأمة الإسلامية قد حققت واجبها في الذود عن حقوق الله وحماية حقوق الناس، التي يتم تحديدها بموجب حقوق الله.
2- براهين لدعم السلام
2 – 2 – الجهاد والسلام :
حيال هذا الموقف السلفي، يؤكد بعض المفكرين المعاصرين في العالم الإسلامي أن الأسبقية يجب أن تعطى للسلام، ليس فقط باعتباره الوضع الذي يجب أن يسود في النهاية، بل باعتباره الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يميز علاقات الناس والجماعات بعضهم ببعض.
ويستند ممثلو هذا الموقف، في تبرير آرائهم، إلى تفسير معنوي لواجب الجهاد، وهو تفسير كان معروفاً منذ القرون الوسطى. فقد رأى علماء الكلام والمفكرون الروحيون، حتى بعض فقهاء ذلك العهد، في الحرب « الجهاد الأصغر ». أما « الجهاد الأكبر »، في نظرهم، فطبيعته روحية ويقوم على ثلاثة مساعٍ:
• جهاد القلب، أي ما يجب أن يبذل المرء من جهد يومي لإحراز إيمان صافٍ وطاعة صادقة.
• جهاد اللسان، أي الحث على المعروف ورفض المنكر.
• وأخيراً جهاد اليد أي العمل في الخدمات الاجتماعية والمبرات.
ويختمون تفسيرهم هذا بقولهم إن التبشير السلمي والنشاطات الترويجية هي الوسيلة المثلى لنشر الإسلام في العالم.
حتى نظرية الحرب عينها تنطوي على بعض المناحي التي تعطي الأسبقية للسلام. فمن واجب المسلمين أن يبقوا مستعدين، حتى في أثناء النزاع المسلح، إلى قبول الصلح، حالما يكف أعداؤهم عن مساعيهم المعادية لله ( القرآن 193:2؛ 39:8 ). كما يوضح القرآن بجلاء أن السلام هو الهدف الصحيح للجهاد في سبيل الله ودين الله : « وإن جنحوا ( أي الأعداء ) للسلم فاجنح لها » ( 61:8 ). ويأمر القرآن بالتزام السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً » (90:4، راجع 94:4 ). ذلك أن السلام هو فرصة غير المسلمين وفرصة المسلمين في آن واحد، لأن القضية إنما هي تبليغ كلام الله والعمل به وإتاحة فرصة دائمة للعدو الراغب في أن يتعلم والقادر على الارتداد، كي يستمع إلى تلك الرسالة وكي يعتنق الإسلام في النهاية وينضم انضماماً كاملاً إلى الأمة الإسلامية : « وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه. [...]» ( 6:9 ). ـ «فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين [...] » ( 11:9، راجع 5:9 ).
ويؤكد أصحاب هذا الموقف أنه يمكن أن تنشأ ظروف من شأنها أن تجعل النزاع المسلح حرباً مشروعة يخوضها المسلمون. أما الأسباب التي تجيز للمسلمين خوض حرب مشروعة، فهي التالية: صد الغارات العدائية ( الحرب الدفاعية )، لا فرق في أن يكون الاعتداء زحفاً مسلحاً ( راجع القرآن 190:2 ) أم خرقاً لمعاهدة مبرمة ( راجع 12:9 ) أم تخطيط هجوم على المسلمين. ففي هذه الحالة الأخيرة يجوز للمسلمين أن يتخذوا المبادرة ويشنوا هجوماً وقائياً على عدوهم. وعلاوة على الحرب الدفاعية، فللمسلمين أيضاً أن يبادروا إلى الهجوم للحيلولة دون تعرض إخوتهم في الدين المقيمين في الخارج للاضطهاد أو الظلم أو الإغواء عن دينهم ( 193:2؛ 39:8؛ 75:4 ). كما يحق للمسلمين أن يناضلوا للحيلولة دون عرقلة التبشير بالإسلام.
2 – 2 – الحقبة المكية نموذج لليوم :
في الواقع يتعين على المسلمين، في رأي بعض المفكرين الذين يعطون الأسبقية للسلام، أن يسترشدوا اليوم بما ينطوي عليه القرآن من تعليم يعود إلى الفترة المكية السلمية :
• فقد كان محمد، في تلك الفترة من دعوته، يحرص، في علاقاته بالمشركين من بين المكيين، على عدم الإنجرار إلى خوض نزاع معهم، وعلى تجنب أي استفزاز. كما كان نداؤه لاعتناق الإيمان موجهاً إلى شعور الإنسان بمسؤوليته وإلى فهمه الصحيح لمصالحه الخاصة ( راجع 108:10 ). ولم تكن رسالته في تلك الفترة تنطوي على أي واجب يقضي بمحاسبة الناس على عدم إيمانهم ( راجع مجموعة من الآيات القرآنية : 6:109؛ 93:11، 121؛ 41:10؛ 216:26؛ 15:42؛ 25:34 ).
• وليس لمحمد أن يخوض في جدال دائم مع غير المسلمين. ولا يجوز أن يكون هذا الجدال نزاعاً عدائياً، بل ينبغي أن يكون في المقام الأول دعوةً إلى الإيمان: « ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن [...] » ( 125:16 ).
2 – 3 – التعدد الديني :
يعترف القرآن بالتعدد الديني، نظراً لشرعية وجود الأديان المنزلة، لا سيما اليهودية والمسيحية. صحيح أن الله، على ما جاء في القرآن، أرسل أنبياءه الكثيرين مع رسالة واحدة أساسية، تنص على الإيمان بالله الواحد ( راجع 25:21؛ 84:3 )، لكنه هو نفسه قدر أن يبلغ الرسل الكبار، موسى ويسوع ( عيسى ) وأخيراً محمد، شرائع تختلف الواحدة عن الأخرى في أكثر من ناحية. والقرآن يعترف بصلاح هذه الطرق الدينية كلها : « إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » ( 62:2؛ راجع 69:5 ). وليس لهذه الجماعات المختلفة أن تتنازع بشأن شرائعها ( 67:22 )، بل أن تتنافس في ما هو خير : « ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات [...] » ( 148:2؛ راجع 48:5 ).
إن الدور المخصص للمسلمين هو، في نظر القرآن، أن الله جعلهم « أمةً وسطاً ليكونوا شهداء على الناس » ( 143:2؛ راجع 78:22 ).
بيد أن هذا لا يعني أن الأديان كلها سواء بسواء، فالإسلام وحده يبقى الدين الصحيح ( 19:3 ) ولا زوال لصحة الآية القائلة :
« ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه [...] » ( 85:3 ).
ثم إن اعتراف القرآن بالتعددية الدينية التي لا يمكن عملياً إبطالها، ليس ظاهرة محصورة بالفترة الأولى من الدعوة القرآنية في مكة والمدينة. بل تثبتها آيات قرآنية متأخرة ( 43:5-44  بشأن اليهودية ؛ 46:5- 47 بشأن المسيحية؛ 48:5 بشأن المسيحية؛ 48:5 بشأن الإسلام ).
فالقرآن يوجه كلامه إليهم جميعاً حيث يقول : « لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً. ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة. ولكن ليبلوكم في ما آتاكم، فاستبقوا الخيرات [...] » ( 48:5 ).
3 – العيش المشترك مع غير المسلمين :
مما تقدم يسهل التعرف إلى موقف الإسلام، في العقيدة وفي الممارسة، من تصور العيش المشترك بين المسلمين وغير المسلمين في الدول الإسلامية. فإذا كان الإيمان قلب الإسلام ورابط الوحدة في المجتمع والعامل الفعال لانتماء المؤمنين بعضهم إلى بعض، وأخيراً أساس أهلية المسلمين السياسية الكاملة في الدولة، ينجم عن هذا أن ثمة نوعاً من التدرج في الشركة مع الناس : شركة كاملة مع إخوة الإيمان المسلمين، شركة جزئية مع المؤمنين من الأديان الأخرى كاليهود والمسيحيين، الذين يمكن وصفهم بأنهم مؤمنون في جزء من عقيدتهم وكافرون في جزء آخر، وأخيراً لا شركة مع الكفار.
3 – 1 – لا شركة مع الكفار :
يعد الكفار أعداء الله وأعداء رسوله، وكذلك أعداء المسلمين على وجه العموم ( راجع القرآن 1:60 ؛ 60:8  ). فيجب ألا يكون للمؤمنين أي شركة معهم. وهكذا يحرم القرآن على المسلمين أن يأكلوا ما هو علناً وثني، أعني لحم الحيوانات التي ذبحت مع استدعاء الأصنام : إنها خصوصاً الحيوانات التي تقدم كضحايا. ولا يجوز أكلها إلا لمن وجد في حالة اضطرارية (115:16؛ 145:6؛ 173:2؛ 3:5 ). كذلك لا يجوز قبول المشركين من خلال الزواج في عائلات المسلمين ليصيروا أقرباء المؤمنين ( 221:2؛ راجع 10:60 ).  إضافةً إلى ذلك، على المؤمنين أن يحموا مصالح جماعتهم بأن يمتنعوا عن عقد أي صداقة مع الكفار. فمثل تلك العلاقات تعرض المؤمنين للخطر، وتهدم وفاقهم وتقوض دعائم جهادهم في سبيل الأخلاق. إن ائتلاف المؤمنين وتضامن أعضاء الأمة يجب أن يظهرا في تفضيلهم صداقة المؤمنين على صداقة الكفار.
وهكذا نرى أن القرآن يرسم خطا فاصلاً واضحاً بين المسلمين والكفار. وهذا الخط الفاصل ينطبق أيضاً على الأقرباء الكفار ( 22:58؛ راجع 23:9 وما يتبع ). ويأتي الأمر صريحاً:    «يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا [...] الكفار أولياء » ( 57:5 ). تجب مكافحة أعداء الله وأعداء المسلمين. فالجهاد والكفاح موجهان في المقام الأول ضدهم.
3 – 2 – شركة جزئية مع اليهود والمسيحيين :
3 – 2 – 1 – الزواجات المختلطة بين الذميين والمسلمين :
لا يحل للذمي أن يتزوج مسلمة، لأن من شأن الزواج ـ في نظر العلماء والفقهاء ـ أن يعرض إيمان الزوجة المسلمة للخطر. فإذا عقد مثل هذا الزواج خطأ وجب حله فوراً. وإذا كان الذمي يعلم نص القانون والتحريم القائم، وأقدم على الزواج من مسلمة، وجب الاقتصاص منه. أما المسلم فله أن يتزوج امرأةً حرة من أهل الكتاب، على حد تعبير القرآن، أي من اليهود والمسيحيين. هذا ما ينص عليه القرآن عينه ( 5:5 ). حتى الحالات الجائزة فإن العلماء والفقهاء لا ينصحون بها لأسباب كثيرة، منها مثلاً: أن الزوجة غير المسلمة يحل لها أن تعمل ما هو محرم على المسلم، كالصلاة في الكنيسة وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، وبذلك تمسي بؤرة تنجيس دائم لزوجها الذي تساكنه وتجامعه، وللأولاد الذين تُرضعهم وتُطعمهم ناهين عن أنّها لا تصلح لتربية الأولاد الدينية. وإن كانت تنتمي أصلاً إلى معسكر العدو، فثمة خطر دائم على الأولاد أن ينضموا إلى صفوف العدو، أو على الأقل أن ترتخي الروابط التي تشدهم إلى الجماعة الإسلامية. وبالتالي فإن الفائدة الوحيدة المرتجاة من هذا الزواج هي أن المرأة قد تشعر في النهاية بدوافع تشجعها على اعتناق الإسلام. أما اليهودية أو المسيحية التي تتزوج مسلماً فتنعم بكل ما تنعم به الزوجة المسلمة من حقوق. كما أنها يحق لها عموماً أن تمارس الحريات التي يجيزها لها دينها.
3 – 2 – 2 – المشاركة في الطعام :
يجيز القرآن للمسلمين أن يأكلوا مما يعده اليهود والمسيحيون. ويبيح مشاركة هؤلاء في طعام المسلمين: « اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم. [...] » ( 5:5 ).
3 – 5 – 3 – علاقات الصداقة :
كما في حال الكفار، هنا أيضاً تراعى بنوع خاص مصالح المجتمع الإسلامي السياسية بعدم مصادقة اليهود والمسيحيين ( راجع 51:5 ) يحذر القرآن المسلمين خصوصاً من مصادقة اليهود ( 14:58؛ 13:60 ). فإن هؤلاء قد « اتخذوا دينكم هزواً ولعباً » ( 57:5؛ 13:60 ). فإن هؤلاء قد « اتخذوا دينكم هزواً ولعباً » ( 57:5؛ راجع 58:5 ). وفضلاً عن ذلك فإنهم لا يظهرون أي تضامن حيال المسلمين، بل « يتولون الذين كفروا » ( 80:5 )، ويتقربون منهم ( راجع أيضاً لائحةً من الاتهامات ضد اليهود : 118:3 ).
في ما يتعلق بالمسيحيين، فالقرآن يفضلهم على اليهود. فلا يرى في وجودهم أي تهديد مباشر لمصالح المسلمين السياسية. وبالرغم من انتقاد عقيدتهم، يؤكد أن المسيحيين هم أقرب الناس إلى المسلمين: « لتجدن أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا. ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى [...] » ( 82:5 ).
بناءً على هذه الأقوال وأقوال أخرى في القرآن يرى بعض المسلمين إمكانية تضامن لا يقتصر على المسلمين بل يشمل المسيحيين أيضاً. ويؤيدون كذلك تعاوناً عملياً بين المسلمين والمسيحيين.
خلاصة
في ختام هذا التصور تتبادر إلى الذهن بعض الأسئلة الملحة :
• من العلماء المسلمين من يتهم باستمرار المجاهدين الإسلاميين بأنهم لا يتصرفون بموجب الإسلام بل ضد الإسلام وضد مصالحه. فالسؤال هو التالي : هل يمكنهم ألا يكتفوا باتخاذ مواقف بل يعمدوا إلى تقديم براهين تستند إلى تفسير واضح لنصوص القرآن والسنة والشريعة، ويكون لها قوة إقناع كافية لتثبت أن المسلمين ـ ولا سيما المجاهدين منهم ـ يمكنهم أن يكونوا مستعدين، بدون الخوف من التنكر لهويتهم أو من فقدانها أو من خيانة قضية الإسلام، أن يتخلوا عن العنف وأن يبحثوا في كل وقت عن دروب السلام، ويسيروا عليها؟
• هل يستطيع العلماء المسلمون تفسير نصوص القرآن والسنة والشريعة بحيث يكون المسلمون مستعدين لممارسة تضامن شامل مع جميع الناس في العالم، وهم مقتنعون بأننا كلنا نحمل مسؤولية تجاه جميع إخوتنا البشر، وإن كان لا لسبب إلا لأننا كلنا خلائق إله واحد؟


د. عادل تيودور خوري

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...