المجتمع العربي وأزمة الهيمنة

19-11-2006

المجتمع العربي وأزمة الهيمنة

كان يمكن للتغير السياسي في البلاد العربية أن يكون أسهل بكثير لو كان الإسلاميون السياسيون أكثر انفتاحا على الحداثة الفكرية والسياسية والجمالية، وأقل أصولية عقيديا وسلوكيا. وكان يمكن أن تتشكل تحالفات اجتماعية وسياسية أوسع وأقوى لو أن النموذج الذي يقترحه الإسلاميون للمجتمع والدولة والثقافة لا يثير حفيظة، أو خوف، قطاعات مهمة في المجتمعات المشرقية المتعددة الأديان والمذاهب أو في المجتمعات المغربية التي تتميز بوزن كبير لنخب محدثة التفكير والأذواق وأنماط الحياة. خوف هذه القطاعات من الإسلاميين يشبه ويذكر بالخوف الكثيف و «التحريمي» لقطاعات أميركية كبيرة من الشيوعيين في حقبة الحرب الباردة: خوف عميق وجوهري وغير قابل للتسوية لأنه يمس نمط الحياة وخياراتها الجوهرية والأبسط. ولعل الاستعصاء العربي الحالي متولد بصورة أساسية عن تثبيت متبادل لسلطات استبدادية سياسيا وفاسدة لكنها منفتحة على تعدد أنماط الحياة المرتبط بالحداثة ولحركات اعتراض إسلامية تدعو إلى التغيير وتعلن قبولها للتعدد السياسي، لكن يخشى أن تكون واحدة على مستوى أساليب الحياة وفنونها.

لسنا في معرض لوم الإسلاميين أو تحميلهم مسؤولية الاستعصاء، كلها أو حتى بعضها. نكتفي بوصف الحال: ينتشر الاعتقاد بأن النظم السياسية الحاكمة، على استبدادها وفسادها وفئويتها، تحمي أنماطا حياتية وذوقية وسلوكية تبدو مهددة من الإسلاميين ونزعاتهم الطهرية. هذا ما يخرج التغيير من أن يكون مسألة محض سياسية، خلافا لما كانه في عقدي التغيير، بين خمسينات القرن العشرين وسبعيناته. لقد أضحى مرتبطا برهانات أكثر جذرية، تتصل بحريات أكثر أساسية من الحريات السياسية، حريات تتصل بتصريف الحياة اليومية والزي وأذواق الطعام والشراب... وإنما لذلك بالذات ينفتح التغير المحتمل للنظم السياسية في بلاد عربية متعددة على مخاطر الحرب الأهلية، كما تمثل بصورة خاصة في الجزائر. وبفعله حازت النظم الحاكمة وظيفة أساسية: حماية التعددية الحياتية والحق في نمط حياة شخصي، وإن على حساب الحريات السياسية والحقوق الاجتماعية. قلما ينتبه الإسلاميون لهذه القضية، وقلما يدركون أنهم، بنزوعهم المعلن نحو فرض نمط حياة تطهري متشدد، موافق لما يعتبرونه الشريعة، قد قدموا لسلطات استبدادية خدمة لا تقدر بثمن، لا أقل من مبرر وجود واستمرار.

ثمة طرف ثالث بالغ الأهمية، التجمعات العلمانية والليبرالية المعارضة، تتجسد فيه إمكانية كسر التقاطب بين إسلاميين تغييريين سياسيا لكنهم محافظون اجتماعيا وثقافيا، وسلطات مستبدة سياسيا لكنها متعايشة مع وحامية لتعددية اجتماعية وثقافية معقولة. والتجمعات هذه معارضة مثل الإسلاميين (في سورية ومصر والأردن وتونس والجزائر والمغرب ودول الخليج...)، ومنحازة إلى أساليب تذوق وسلوك وعيش حديثة تعلن السلطات الحاكمة حمايتها، لكنها أقرب إلى تمثيل لما يجب أن يكون منها إلى قوة فعلية حاملة لنموذج اجتماعي سياسي أصيل.

نقترح هنا أن ما تشترك فيه المجتمعات العربية بجميع قواها المذكورة هو معاناتها من أزمة هيمنة، أي افتقارها إلى قوة اجتماعية ديناميكية، تجسد وتمارس وتدعو لنمط حياة وحكم جديد، يمكن أن تتكون حوله أكثرية اجتماعية حقيقية، مؤهلة لابتكار حلول إبداعية للمشكلات الوطنية. اليوم، حيث يحتمل وجود أكثرية في المجتمعات العربية فإنها غير مهيمنة وعاجزة عن الهيمنة، ما يعني بالفعل أن مجتمعاتنا، ومهما يكن تكوينها السكاني الديني أو المذهبي، هي مجتمعات مكونة من أقليات فحسب. فالهيمنة هي ما تجعل من قطاع ريادي من السكان أكثرية، وهي التي تصنع الأكثرية وليس العكس. وفي غياب قوة مهيمنة، تفتقر المجتمعات العربية إلى أكثرية طليعية صانعة للأمة أو للشعب. وهذا ما يجعل الانتقال إلى الديموقراطية صعباً. فلا فرصة للديموقراطية من دون أمة بالمعنى التعاقدي للكلمة. وليست الديموقراطية هي التي تصنع الأكثرية، بل إن الأكثرية تُصنع قبل الديموقراطية ويشرط وجودها التحول نحو الديموقراطية، حتى لو كانت إجراءات الديموقراطية هي التي تختبر تحقق الأكثرية وتقيس تبدلاتها.

من هذا المنظور نميل إلى اعتبار الدكتاتورية نتاجاً لأزمة الهيمنة وغياب الأكثرية الديموقراطية. وتنزع هذه إلى توليد الطائفية من اجل أن تضمن دوامها وتعويضا عن الهيمنة المفقودة، ما يفاقم بدوره من أزمة الهيمنة.

ومن هذا المنظور كذلك لا يصح اعتبار الإسلاميين مهيمنين، لأنهم لا يقدمون نموذجا للسياسة أو الحياة يمكن أن تقتدي به وتتمثله أكثرية نشطة ومستدامة من مواطنيهم الآخرين، يتعرفون فيه على ما يحقق مصالحهم ويفتح آفاق تطور مادي وسياسي ومعنوي واسعة لهم. المهيمن هو من نبدع إذا قلدناه من دون أن يجبرنا على تقليده، ونتحرر إذا تبعناه من دون أن نكون مكرهين على اتباعه، وتتحقق مصالحنا المشروعة ضمن النظام الذي يقترحه علينا.

والحال، لا يبدو أن أحداً يثير رغبة بتقليده والاقتداء به في بلادنا. السلطات لا تطلب تقليدها بل تفرض الالتحاق بها، وهي تعوض قصورها الهيمني بالتوسع في الإجراءات القمعية. ولا يقنع الإسلاميون إلا من هو مقتنع سلفا بتفوق نظرتهم إلى الدولة والمجتمع. وهم يعالجون عجز الهيمنة لديهم بوضع اليد على الإيمان الإسلامي والتأكيد على تمثيل أكثرية «الأمة» (هذا غير صحيح بالمعنى التعاقدي لمفهومي الأكثرية والتمثيل، وحيث يمكن أن يكون صحيحا، أي بالمعنى الماهوي، فإنه لا تمثيل ولا أكثرية، ولا مجال للكلام على هيمنة إلا ضمن المعنى التعاقدي). وخلافاً لما قد يفترض الإسلاميون فإن الأكثرية الديموقراطية تمثل لأنها تقود، وتقود لأنها تهيمن، وهي لا تقود لأنها «تمثل»، وتمثل لمجرد أنها تنتمي. بعبارة أخرى، من يمثل هو الناجح والمبدع، من يمثل لمواطنيه ريادة يسعون إلى محاكاتها ومعيارا يقيسون به إنجازهم، وليس من «يعبّر» أو ينتمي. ولقد أشرنا إلى أن الدكتاتورية وليدة أزمة الهيمنة، أي انعدام شروط التمثيل القيادي أو الإبداعي.

باختصار، ليست ثمة قوة اجتماعية أو تيار فكري أو تنظيم سياسي متفوق ويثير إعجاب مواطنيه واندفاعهم الطوعي الحر للانخراط فيه وتكريس طاقاتهم لرفع قضيته. وما تفتقر إليه المجتمعات العربية أكثر من أي شيء آخر هو طليعة حقيقية تقود باقتدار وينقاد لها الناس بحرية.

على هذه الخلفية نفهم عسر التغيير العربي أو الشرق أوسطي. وفي شروط أزمة الهيمنة، حتى لو حصل أن تغيرت النظم القائمة، فإن من غير المحتمل لما سيتلوها أن يكون مختلفاً كثيراً عنها.

توسلنا مفهوم الهيمنة لإضاءة جانب من تعقيدات التغير السياسي والانتقال الديموقراطي في بلادنا. وليس في كل ما قلناه ما يقر لنظم الحكم القائمة ما يتخطى شرعية «حق الشُّفْعة»، أعني الاستمرار في غياب البديل المأمون. فهي وإن كانت نتاج أزمة الهيمنة إلا أنها المستفيد الأول منها والطرف الأحرص على دوامها، بل إن منها من لا يستمر حاكماً إلا بقدر ما يُغْرق المجتمع المحكوم في أزمة ثقة وطنية عميقة، لا تترك بديلا عن شناعة الدكتاتورية غير فظاعة الحرب الأهلية.

ياسين الحاج صالح

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...