حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (7)

21-05-2007

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (7)

نامت السيدة مارغريت راضية, فرحة بصفاء نفسها, بعودة نزعة الخير إلى قلبها, بالرأفة التي استشعرتها تجاه البشر, بالصلاة راكعة أمام العذراء, وهي تذرف الدموع ندماً على خطاياها, واعدة بالتوبة, بالاستقامة, بالتسامح حيال زوجها الذي هجرها هرباً من سكرها ونكدها, باستعادة ابنتها إليها, بعد أن كادت تهجرها هي الأخرى, بتفهمها لشرف, وصلاح, الساكن الجديد لديها, بوعد غبريلا أن تجعل عشيقها أندرياش, يكف عن سوء سلوكه معها, عن التخفيف من غلوائه في ابتزازها.

وفي هذا تقدير طيب لما تبقى لها من صبا, ومن الحاجة إلى رجل, لا يحرمها متعة الوصال, ولا يجور عليها فيه, مع غمزة صغيرة من عينها تقرباً إلى شفيعها القديس بولص, الذي لن يؤاخذها إذا هي تناولت قليلاً من البالنكا, التي لا تستطيع العيش دونها!‏

المرأة في السيدة مارغريت, تصالحت مع المرأة, هذا يعني التصالح مع العالم من حولها, كل شيء ينبع من الذات, يعود إلى الذات, والذات الطاهرة جوهرة ماسية, فكيف غاب عنها هذا المثل الأعلى, للسلوك البشري اللائق, الذي كان عليها أن تتحلى به؟ وكم عذبها ضميرها, قبل أن تهتدي إلى ما يريح هذا الضمير؟.‏

إنها متعلمة, مطالعة, شغوفة بالمطالعة, نهمة إلى المعرفة, وللمعرفة وجهان: أحدهما للفضيلة, وثانيهما للرذيلة, ورذيلة السيدة مارغريت الكبرى, سيرها ضد مجرى التاريخ, الذي أجاز, وشجع الرجل على اضطهاد المرأة منذ زوال عهد الأمومة, الذي قال عنه زوجها السابق انداش:‏

(لن يعود يا مارغو أبداً, لأنه ضد التطور, ضد الزمن الراهن على كل ما فيه من مفاسد, وضد الزمن الآتي, بكل مفاسده أيضاً, ومن العبث محاولة صد التيار الجارف, لكل ما هو مندفع إلى أمام..‏

افهمي هذه الحقيقة, كوني على اتساق والسير إلى أمام, وبذلك تنقذين روحك من وجع مخالفة سنن التطور, ومعاكسة شرائع السماء, والتمرد على الأقدار..‏

كوني طموحة, لكن الطموح شيء, والطمع شيء آخر, وحكاية طير الرخ, الذي ينقذ من الغرق, إحدى الحكايات الجميلة في كتاب (ألف ليلة وليلة), إنما طير الرخ خرافة, فلا تتعلقي بالخرافات لئلا تغرقي في بحر الأوهام ولا منقذ, لا تسعي إلى حب كل الناس, وكونفوشيوس قال لتلاميذه, الذي يحبه كل الناس منافق, كان على حق في مقولته هذه, فهناك من نحبهم ومن يحبوننا, وهناك من نكرههم ومن يكرهوننا.‏

وهذه الليلة, يا مارغريت, تبدت ابنتك غبريلا أوفر ذكاء منك, قالت لك, بصراحة, إن عيوبك كثيرة, عددتها عيباً عيباً..‏

كان قولها صحيحاً, لا مجاملة فيه, كان سوطاً على ظهرك, كما السوط في يد السيد المسيح, يهوي به على ظهور الصيارفة قائلاً: (هذا المعبد بيت أبي, وأنتم جعلتموه مغارة للصوص!!).‏

الأم, مارغريت, نامت على هناءة, بعد استعادة كل هذه التأملات, الحلو منها والمر, إلا أن غبريلا, البنت, لم تنم, أراحت أمها بما صارحتها به عن الساكن الجديد, أيهم قمطور, ولم تسترح هي لأنها لا تعرف ما إذا كان أيهم قد غادر البيت أم بقي فيه.. والدها انداش اخبرها أنه باق غير أن النور في الشقة اشتعل قليلاً, لتعقبه ظلمة دامسة..‏

كان خشناً أيهم هذا, كان نافذ النظرات, ونادراً ما نظر إليها في عينيها, لماذا؟ حسبته وغداً إلا أنه في اليوم التالي, تكشف عن شهامة مثلى, عندما حال, بالقوة, بين المجرم غابور مولينار, وبين أن يؤذيها, وكان شجاعاً حين لم يهب قشاط غابور, متحملاً ضربته المؤلمة في المرة الأولى, ممسكاً به, منتزعاً إياه منه, في المرة الثانية, معرضاً نفسه للتحقيق في مركز الأمن, راجعاً منه بكبرياء وتواضع, صاعداً إلى شقته دون أن يعرج عليها, وبذلك حرمها حتى من قوله: شكراً لك!‏

ما معنى هذا, معناه أنه لا يأبه حتى بشكرها, حتى برؤيتها, حتى بدخول بيتها, حتى بشرب قهوتها, حتى بقول ما يطمئنها إلى أنه سيبقى إلى جانبها, حتى بإلقاء نظرة عليها, وهي خارجة من محنة المجرم عشيقها..‏

إنه غير مبال بها, كشأنه يوم زارته والسكين في جيب معطفها.. هذه اللامبالاة قاتلة, المرأة المدلة بنفسها, المعتزة بجمالها, يضيرها, حتى من جبرائىل رئيس الملائكة, ألا يأبه بها, أن يتشوف عليها, أن يذبحها بكلمات مثل: (انتهت الزيارة, انصرفي واغلقي الباب وراءك!).. من غير أن ينهض ولو تمويهاً لوداعها عند الباب والتلقط بكلمة شكراً لزيارتك, آه من الرجال, ومن عنطزة الرجال, ومن غرورهم, وفشرهم..‏

إنما المرأة, وحدها, تعرف كيف تعري هذا الغرور, هذا الفشر, هذا الخداع, هذا التعالي على جمالها, بينما يتمنى الرجل في سره, لو يلعق حذاءها!‏

(لا فائدة يا غبريلا, الرجل هو الرجل, هو يهوذا الاسخر بوطي, الذي خان السيد المسيح, باعه لاعدائه بثمانين من الفضة, ثم شنق نفسه في حقل التين, والرجل هو الرجل, هو التلميذ بطرس, الذي قال لمعلمه ليلة العشاء السري:‏

- سأكون معك حيث تذهب يا معلم!‏

فنظر إليه معلمه وقال:‏

- أنت, يا بطرس,ستنكرني قبل صياح الديك!‏

وفعلاً انكره قبل صياح الديك!‏

(كل الرجال بطرس, كلهم ينكرون معلميهم, محبيهم قبل صياح الديك, كلهم ينهشون أجساد فرائسهم, كما الذئاب الجائعة أيام الشتاء والثلج, كلهم يجعلون المرأة في حالة اعياء, في حالة بؤس, فإذا تعبت, انهارت, انحرفت, شمتوا بها دفعوها, على سلم السقوط, درجة بعد درجة, حتى إذا صارت في الدرك, نصبوا انفسهم قضاة لها.‏

صدق من قال: (قضاة عور, قضاة العور) الرجال هم هؤلاء القضاة العور, الذين تحدث عنهم والدي, نقلاً عن شاعر نسي اسمه, هذا الشاعر اشفق على المرأة, فانتصر لها من قضاتها, من جلاديها, ما فعل السيد المسيح مع مريم المجدلية, التي كان يطاردها الفريسيون, فقال لهم:‏

»من كان منكم بلا خطيئة, فليرجمها بحجر) وللحال تجمدت الأحجار بأيديهم, إلا أن الذين جاؤوا بعدهم كانوا فريسين بصورة أشد, أفظع, حملوا الحجارة ورموها بها, ولا يزالون يرمونها بها! لا فائدة! على المرأة أن تكون دليلة, تجز شعر القوة في رأس شمشون الجبار, تسلمه ذليلاً, إلى اعدائه حيث يقوض أعمدة الهيكل صائحاً: »عليّ وعلى اعدائي يا رب) المستضعفة, أن تقوض كل الأعمدة, عليها وعلى اعدائها من الرجال الأنذال).‏

(أيهم قمطور, قال لي: »لا تشعلي النور) إنني ارتاح للقمة) هذا الخفاش يرتاح للعتمة, هذا الوطواط لا يعيش إلا في الظلمة, هددني بأنه جاء اليوم, واليوم يسافر.‏

- سألته: »ألا تشعر بالغرابة؟).‏

- رد بوقاحة: »أبداً).‏

-وأجرة البيت التي دفعتها؟‏

-استرحت مقابلها على حقيبتي!‏

كنت أسأله بجدية, فيرد علي بسخرية, وعندما جلست, دون أن يقول لي: »اجلسي!)‏

اشاح بوجهه عني!, لكنه, عندما مثل دور الشهم, أملت أن يكون سنداً لي, كتبت, في دفتر يومياتي, أحلى الكلمات عنه, وها أنا انظر إلى فوق, إلى نوافذ شقته, فأراها مظلمة, فقد غادر خلسة, كاللص بعد أن دخل خلسة, كاللص أيضاً.. لا بأس! عليّ أن أنساه وأنام..‏

في الساعة الثانية عشرة ظهراً, من اليوم التالي, سمعت السيدة مارغريت نقراً خفيفاً على الباب.. تساءلت من يكون هذا الزائر غير المنتظر؟‏

مشت ببطء, وعلى كره منها, إلى الباب, فتحته فإذا رجل غريب الملامح, يستأذن في الدخول, تذكرت بصعوبة أنها رأته, وأنه يسكن فوق, في الطابق الأعلى, سألته خائفة:‏

- ماذا تريد؟‏

- رد الزيارة.‏

- لمن.‏

- للسيدة غبريلا.‏

- إنها نائمة.‏

- انتظرها حتى تستيقظ.‏

- تفضل بالدخول.‏

دخل أيهم, جلس على الخوان, في صدر الصالون, أشعل سيكارة, راح يمجها بهدوء, وبهدوء ينفث دخانها, متأملاً حلقاته وهي تحوم, ترتفع, تتلاشى, مجيلاً ناظريه, بغير دهش, في كل الانحاء, مركزاً عل اللوحات, الفازات, المدفأة, من السيراميك الأصهب, السقف المائل, المتشح باللون الأدكن, من كثرة التدخين, المهمل, لأمر ما, مع أنه يحتاج إلى الدهان!‏

غابت السيدة مارغريت, لا يدري أين, رآها تدخل باباً وتغلقه وراءها, ود لد أنها بقيت معه, تبادله أي حديث, فيشرب القهوة وينصرف, لكن صاحبة البيت, التي فاجأتها الزيارة, راحت تهز ابنتها النائمة, كي توقظها من سباتها العميق, قائلة:‏

- غبريلا, صغيرتي, افيقي.‏

تأففت غبريلا, استدارت في فراشها, سحبت الغطاء عليها, قائلة لأمها:‏

- دعيني!‏

لم تدعها, هزتها بقوة أكبر, قالت لها:‏

- افيقي, حبيبتي, إنه ينتظرك!‏

- ومن هذا الذي ينتظرني؟‏

- الرجل الذي يسكن فوق.‏

- من!؟‏

- الرجل الذي في الطابق الأعلى, جاء لرد الزيارة كما يقول.‏

وثبت غبريلا من السرير, تفرست في أمها وقالت:‏

- الرجل الذي يسكن في الطابق الأعلى؟‏

- هو بعينه.. وأنا أخاف منه, لا تتركيني وحيدة معه.‏

-قولي له أني استيقظت, وأني آتية إليه, قدمي له القهوة, افعلي أي شيء ريثما استحم, واتشيك بسرعة.. عجلي, ارجوك يا أماه!‏

ترددت الأم, عجبت من لهفة ابنتها, ودت لو ينصرف, خافت أن تعود إليه, خشيت على غبريلا أن يغويها هذا الشيطان, تشاغلت قليلاً, نظرت إليه من الباب الموارب, رأته في مكانه, يدخن, يجلس هادئاً, لامبالياً, كأنما هو في بيته, وأخيراً عادت إليه قائلة:‏

- غبريلا آتية, قلت لها أنك جئت لرد الزيارة, وأنك تنتظر, ولكن عن أي زيارة تقصد؟‏

- الزيارة إياها.. عندما صعدت إلي وهي تخفي السكين في جيب معطفها, بناء على نصيحتك..‏

- نصيحتي!؟ تقول نصيحتي!؟ أنا لم انصحها بشيء, لكنك أنت, كنت وقحاً معها, واعذرني على صراحتي! لماذا كنت تجلس على حقيبة سفرك, دون أن تشعل الضوء؟ وهل صحيح أن في الحقيبة مخدرات, كالأفيون مثلاً؟‏

- صحيح!‏

- بوزش ماريو ( يا يسوع ابن مريم) أنا لا أصدق, أنت تقول هذ لتخيفني!‏

قالت غبريلا وهي تدخل الصالون:‏

- بل ليمزح معك يا أماه.. مرحباً بك في بيتنا, شكراً على رد الزيارة, شكراً على كل ما فعلته لأجلي.‏

تصافحا بحرارة, جلس, جلست إلى جانبه, نظرت إليه بود, كضيف عزيز, سألته:‏

-أخيراً تذكرتنا, وهذا جيد.. هل فتحت حقبة سفرك, أم لا تزال جالساً عليها؟‏

رد مازحاً:‏

- لا أزال جالساً عليها!‏

- والدي الذي زارك قال غير ذلك.. لقد اثنى عليك, قال لي: يا صغيرتي غبريلا, لا تخافي منه, إنه إنسان رائع!‏

- وأنت, ماذا كان جوابك؟‏

- قلت له: سأظل أخاف منه.. وعليه!‏

- تخافين مني مفهوم, ولكن تخافين عليّ غير مفهوم!‏

- لديك من الذكاء ما يكفي لتفهم كل شيء.. تفضل اشرب القهوة.. والدتي هي التي تخاف منك عليّ.‏

- وهل أنا ضبع؟‏

- أنت لا ضبع ولا غزال, لكنك غريب الأطوار.. هل تنام على الحقيبة أم في السرير!؟ وهل سريرك شاغر؟‏

- وفيه متسع!‏

- لمن؟ ومن هي صاحبة الحظ في مقاسمتك إياه؟‏

ضحك وقال:‏

- لست أنت على كل حال.‏

- وتريدني أن أصدق؟‏

- نبينا عليه السلام, أوصى بسابع جار.. وأنا الجار الأول لا أزال.‏

أضاف وهو ينهض:‏

-استأذن يا سيدتي.. لدي بعض الأعمال.‏

- مع السلامة, وارجو ألا تشغلك اعمالك عنا.‏

- هذا حسب الظروف!‏

- وحسب الرغبة.. على كل شكراً للزيارة!‏

خيم الصمت على المنزل بعد انصراف أيهم, البنت انتظرت تعليق أمها, والأم تريثت, حتى تبدي البنت رأيها, في جو غير الذي كان أمس, وقبله, ومنذ سكن أيهم هذا المنزل.. دقائق من الاسترخاء النفسي والجسدي, اتاحت للتفكير أن يأخذ بعض مداه, وللحكم على الزيارة والزائر بعض ترويه.‏

فالحياة زاخرة بالمفاجآت, وهذه الزيارة هي مفاجأة اليوم, حدست غبريلا معها أن ثمة تبدلاً سيطرأ على عيشها الرتيب مع والدتها, وأن نجمة, في الفلك الدوار, ستبزغ ضاحكة لها, إذا ما اتقنت التعامل مع إنسان قريب من القلب, بعيد عنه في آن, بسبب من اطواره الغريبة وما تمت به من نسب إلى العبقرية أو الجنون..لابد..إذن, من كتابة انطباعاتها وهي ساخنة, قبل أن يلم بها البرد, لهذا السبب أو ذاك, إنما عليها, قبلاً, أن تعيد قراءة ما كتبته عنه في دفتر يومياتها.‏

للمقارنة بين نزعتين: الأولى فيها صفاء ماء نبع في منحنى جبلي, مع تعقل, انتظار, تقليب للأمور, ريثما تخمد رويداً رويداً, فورة الحماسة, بهجة الفرح, اللتان ولدتا في سريرتها حلماً جديداً, حلماً لولاه لكان العدم, طالما أن أفضل صناعة نفسية, هي ابتداع الأحلام, التي وحدها تحفظ التوازن النفسي, ووحدتها تحمي من السقوط في حمأة العدم.‏

الانطباع الأول, للسيدة مارغريت الأم, كان اشكالياً, بين أن تسر لسرور ابنتها, وبين أن تتحفظ في هذا السرور, ريثما يتكون لديها الانطباع الصحيح, اللازم, أمام التطور الجديد, الذي لم تحسب حسابه, وإن اراحها بعض الراحة, فأن يكون هذا الساكن الجديد على علاقة طيبة بها وبابنتها, أفضل من الجفاء, الريبة, التوجس, بين الطرفين, فالظاهر, وهذا لا يعول عليه كثيراً في رأي الأم.‏

أن ايهم يميل الي ابنتها لكن ماذا بشأنها هي؟ الحق أنه كان لطيفا, اجتهد في نزع فتيلة الخوف من قلبها الواجف, نظر إليها, في عينيها مباشرة, مرة أو مرتين, راسماً على شفتيه ابتسامة تودد لا شك فيها, وهذا قد يكون من الطيبة, كما قد يكون من الخبث, قد يكون خالصاً أو مشوباً, صافياً أو عكراً, دماثة أو شطارة, والأيام وحدها ستبرهن على صحة النوايا أو زيفها!‏

قالت غبريلا لأمها:‏

- اشعر أن زوال بقايا النوم, يتطلب فنجاناً ثانياً من القهوة, ومن صنع يديك.‏

قالت مارغريت لابنتها:‏

- بل أكثر من فنجان.. لقد ذهب هو, لكن أثر زيارته باقٍ, ولابد لنا, كي نحسن التفكير, أن نقتلع هذا التأثير, أن نخلعه كما يخلع أنداش الأسنان المنخورة.‏

هناك يا غبريلا..‏

قاطعتها غبريلا:‏

- ماما, ارجوك, سنتحدث مطولاً ونحن نشرب القهوة.‏

- وإذا طارت الفكرة التي في رأسي؟‏

- تحط فيه ثانية.. إنني متلهفة إلى القهوة مع السيكارة, كي يكون سهلاً عليّ ترتيب افكاري.‏

اسرعت السيدة مارغريت إلى المطبخ, اشعلت الغاز, وضعت عليه الابريق, وفي نفس الوقت اشعلت هشيم تفكيرها, فشب اللهب في الاثنين, وعلى وقع غليان الماء والتفكير, راحت تدندن بأغنية: »آزا سيب, آزا سيب, سمي فيكيتي!).‏

(هذا جميل, هذا جميل, العينان سوداوان) وعندما احضرت القهوة ابدت هذه الملاحظة:‏

- الاكثار من القهوة والتدخين ضار بالصحة.‏

ابتسمت غبريلا وقالت:‏

- والاكثار من البالكنا ضار أيضاً!‏

- نعم! هذا مهم, والمهم أكثر, ألا نفرط في ذلك الشيء!‏

- أين ذلك الشيء!؟ الحرمان قاسياً يكون, على امرأة تتضور انوثتها مثلي.‏

- هذا تشاؤم غير مبرر, إذا صدقت فراستي سترتوي انوثتك مع الحظ الجميل الآتي! هذا الشيطان »ايخم).‏

- أيهم يا أماه.‏

- لا فرق, هذا الشيطان له نظرات ثاقبة كمخرز!‏

- نظر إليك, دون أن ينظر إلي؟‏

- نعم! فعلها هذا العفريت, نقل نظره بيننا.. أنه يريد اصطياد عصفورين بحجر واحد, البنت والأم في وقت واحد.‏

- هذا طبيعي مع خوختين ناضجتين, صفراوين, ماديتين.. أنا في عز الشباب, وأنت في نضوج العمر.. إنه, لو أراد, يكفينا معاً.‏

- هذا ليس من الأدب, أنت تمزحين, لكن المزاح يكون معيباً أحياناً.‏

- طبعاً أمزح يا أماه.. الفضيلة سائدة في هذا البيت!‏

- هذا كلام مضمر, لكن الاضمار على من؟ على امرأة مجربة مثلي.. إنني بصراحة, ارتاب في هذا الإنسان.. إنه شاب, وسيم, أنيق, لبق, من حيث المظهر, لكن ماذا من الداخل؟‏

هنا نقطة ارخميدس, المثل الانكليزي يقول: »النقود ليست كل شيء فهي تستطيع أن تشتري جنساً, لكنها لا تستطيع أن تشتري حباً)..‏

كل ما يريده, هذا »الخوليكان) (الرقيع) الجنس لا الحب, إنه, يا صغيرتي,خبير بأحوال النساء كما يبدو, والله وحده يعلم, على كم من النساء لعب, ضاجعهن, وعدهن بالزواج, ابتزهن, احتال عليهن, وبعد ايقاعهن في حبائله هرب.. إنه أفاق, كما قلت عنه سابقاً, محتال عالمي, وقد يكون مطلوباً من الأمن الجنائي.‏

قالت غبريلا المستمتعة بثرثرة أمها:‏

- أنت, يا أماه, على خطأ في العبارة الأخيرة, نحن قدمنا جواز سفره إلى الأمن كما هي الأصول مع كل مستأجر جديد, وقام هو بما يلزم لتسوية وضعه, وقد حصل على إقامة دائمة أو مؤقتة, لا أدري, ثم ذهب, في واقعة هذا المجرم غابور مولينار, إلى مركز الأمن, وبعد التحقيق معه اخلي سبيله مع الاعتذار, فما لديك من شك فيه بعد؟‏

- ديكارت..‏

قاطعتها:‏

- اعرف ديكارت وشكه, قرأته, حدثني والدي عنه طويلاً.‏

- والدك يقول ربع الحقيقة, ويخفي ثلاثة أرباعها.. إنه زوجي, أعرفه كما أعرف سلاميات أصابع يدي.. خالع الأسنان, هذا يغشك, احذري!‏

- غشني بماذا؟‏

- بهذا الديابلو (ابليس) الذي اسمه ايخم.. زين لك القبح فيه, ستر عيوبه بسرواله الداخلي.. وبالمناسبة الألبسة الداخلية للاطباء, وللمثقفين عامة, تكون قذرة أغلب الأحيان..‏

اسألي أمك التي جربت الحياة, وخرجت من تجربتها رابحة.. تراهنين على أن ايخم هذا, ابن زنى!؟‏

- أنا لا أراهن على شيء.. اتهام الناس, على الطالع والنازل, خطيئة مميتة.. كفي لسانك عن ايهم, إنه رجل شهم, شريف, تاجر معتبر, له سمعة طيبة في السوق.‏

- أنت مخبلة, إذ تقولين هذا, يا غبريلا.. لي نظرة لا تخيب بأمثال ايخم هذا, وهذه الأضاليل غرسها والدك خالع الأسنان في رأسك.. تعرفين مم أخاف؟‏

أنا أقول لك: من ميلك الزائد له, هذا الصعلوك, وما الميل؟ إنه بداية الهوى! المعرفة, التعارف, التودد, الميل, الحب, العشق.. وبعد ذلك يطير الدوري..‏

قالت غبريلا متسلية, مكتشفة, في ثرثرة أمها, كم في نفسها من الحقد:‏

- الدوري الذي تقصدينه سأدخله القفص بأسرع مما تتصورين.‏

-أنت!؟‏

- لا تستخفي بي.. انظري هذه الأنامل الرخصة, في هذه الكف الجميلة.. على رؤوس هذه الأنامل شباك غير مرئية, وفي هذه الشباك سيقع كثير من أمثال أيهم هذا.. أناملي فخاخ يا أمي, وفي كل فخ ذكر, يحسب نفسه أنه فاز بالانثى التي هي أنا, ومع الأيام يكتشف أنه ذبابة في شباك عنكوت.‏

قالت الأم:‏

- هذا ما أريده, يا صغيرتي!‏

- وهذا ما سوف يكون يا كبيرتي.. انتظري تري!‏

 

/يتبع/‏

حنا مينة

المصدر: الثورة

 

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (6)

 

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (5)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (4)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (3)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (2)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (1)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...