حوار مع محامي الشيطان

10-06-2007

حوار مع محامي الشيطان

ـ 1 ـ حينما يغزوك الاكتئاب، من حيث لا تدري، ويستبد بك القرف من حيث لا تتوقع، لا يوجد بلسم يريحك إلا بالاستنقاع في كتاب، اقتنيته ذات يوم، ثم ارجأت قراءته بدافع السأم، أو بلقاء شخصية استثنائية، اجتمعت بها، ذات يوم، فتركت فيك مزيجاً من الإعجاب والهلع.

حينما أعلن أن باربيه شرودر، المولود في طهران، قد أخرج فيلماً سماه «محامي الرعب»، يروي فيه سيرة المحامي جاك فرجيس، وأن الفيلم أثار تساؤلات وحوارات صاخبة في أجهزة الإعلام الفرنسية، توهج في ذاكرتي حدثان: أولهما الحوار المارق الذي أجريته مع جاك فرجيس محامي الرعب في منزله الأسطوري منذ عشر سنوات تقريباً، وثانيهما الكتاب الذي قرأته عنه بعنوان «حوارات مع عدو» لمؤلفه جان لوي روميو، وكان أن عقدت العزم على زيارة جاك فرجيس مجدداً، وأن أعيد قراءة الكتاب عنه. ‏

لطالما سحرني هذا المحامي «الخلاسي»، والده دبلوماسي فرنسي، ووالدته امرأة فيتنامية مناضلة، وقد فصل الوالد عن عمله بسبب اقترانه بامرأة فيتنامية «عدوة» إبان الحرب التحريرية ضد فرنسا، ألعلي كنت مأخوذاً بالنعوت التي كان يمطره بها الإعلام: محامي الشيطان، عاشق الأضواء، السابح ضد التيار، الفخور بكراهية الناس له، المهووس بالشذوذ والاستثناء، دافع عن المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد وعن كارلوس، النجم الإرهابي الدولي، وعن باربي النازي، وعن روجيه غارودي بعد أن اتهم بعداء السامية بسبب كتابه: «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل!»، وقد تبرع بالدفاع عن صدام حسين ولكن وكالته رفضت. ‏

ـ 2 ـ ‏ المنزل القديم ذاته، في شارع يتفرع عن ساحة «بلاس دو كليشي»، المزدحم بالدكاكين الصغيرة، على اليمين مكتبة «مارقة» لا تعرض في واجهتها إلا الكتب المحرمة، وعلى اليسار مكتب لدفن الموتى شعاره: «اختر ساعة موتك، ولا تتركهم يدفنونك حياً»، المصعد الضيق لا يتسع إلا لشخصين متراصين، تفوح منه رائحة شجر الصنوبر، وصالة الانتظار واسعة تتوسطها طاولة مستطيلة ترتشق عليها رقع الشطرنج المهداة من كل أنحاء الأرض، ومكتب «أسطوري» مكتظ بالكتب والتماثيل، والتحف واللوحات، والحيوانات المحنطة، والأرائك الجلدية القديمة. ‏

يستقبلني بقامته المديدة، وابتسامته الطازجة، ووجهه الخلاسي فتشعر كأن تاريخ قرن بكامله محفور على جبينه العريض. ‏

ـ هذا الفيلم، وهذه الضجة؟. ‏

ـ المخرج مولع بالروايات البوليسية، والشخوص الاستثنائيين، إنه يتعامل مع الأحداث وكأنه مخبر سري، ومع الأشخاص وكأنهم جيمس بوند أو شرلوك هولمز، النضال السياسي، بالنسبة له، مطاردات ومؤامرات، وأقبية، وشوارع خلفية، ومسدسات كاتمة للصوت. ‏

ـ 3 ـ ‏ «محامي الرعب» مسحور حتى الفجيعة بثلاث ثورات «نموذجية» صبغت بالتاريخ المعاصر بدماء شهدائها، ونزيف ضحاياها: الثورة الفيتنامية التي هزمت امبراطورية الشر بسهامها المسمومة المصنعة محلياً، والثورة الجزائرية التي مرغت هيبة فرنسا الاستعمارية بالوحل، والثورة الفلسطينية التي لا تزال تستأثر بالجنون الإعلامي، وتتصدر منابر العهر السياسي، لكم أبكتني أمي الفيتنامية وهي تضرب مثلاً متسامياً في النبل والاستقامة، ولكم أوجعتني مأساة جميلة بو حيرد التي اختزلت بمسيرتها البطولية ملحمة الكرامة في القرن العشرين، ولكم هز مشاعري بسطاء الفلسطينيين، وهم يتساقطون برصاص النازيين الجدد، لقد امتزجت كراهية الظلم الذي يمارسه الغرب ـ وأنا ما أزال أحمل هويته ـ بكل نسجه وأليافه، حتى بات يتعاطف مع كل المتمردين حتى لو كانوا إرهابيين بالمفهوم الغربي للكلمة. ‏

يتمحور خيار جاك فرجيس حول ثلاثة عناصر: أولها رفض الغطرسة الغربية بكل مظاهرها السياسية والعسكرية، والاقتصادية والثقافية، وثانيها تعاطفها التراجيدي مع كل رموز المقاومة، مهما كانت انتماءاتهم الجغرافية أو الاثنية أو الإيديولوجية، وثالثها عدم الاكتراث بكل الحملات المعادية التي تشن عليه، بل العمل على تحريض غلاة العنصريين على استهدافه والنيل منه. ‏

ـ 4 ـ ‏ ـ وماذا عن تسويق الديمقراطية الغربية؟ ‏

ـ كانت الديمقراطية الغربية ولا تزال قناعاً لإخفاء الغطرسة والعنف والغزو، لقد تم التوسع الاستعماري تحت غطاء الديمقراطية وحقوق الإنسان في إفريقيا وآسيا، وخاصة في الشرق الأوسط، وما زالت كل أعمال القرصنة تحمل شعار الديمقراطية، أكبر دليل حرب الخليج الأولى والثانية، ثم العدوان على العراق، إن الغرب يتعامل مع العالم بمكيالين: ينتقد الأنظمة المسماة الأنظمة الشمولية، ولكنه يغض الطرف عن إرسال القوات الغازية التي تمارس القتل والسرقة والنهب والاغتصاب، إلى أفغانستان والعراق، والصومال، والسودان، كما يتستر على الجرائم اليومية التي يرتكبها النازيون الجدد في إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل. ‏

ـ والنظام العالمي الجديد؟ ‏

ـ إنه نظام قرصنة، ونهب، واسترقاق، وارتهان، والولايات المتحدة، بقوتها الاقتصادية العملاقة تقضم الاقتصاد المحلي وتسخره لخدمة جشعها واحتكارها، ومع هذا القضم تتحول دول العالم، بما فيها الدول الأوروبية، إلى مسوخ تتبنى طريقة الحياة الأميركية المستبدة، وما يدعو إلى الدهشة والاستغراب أن كل الإدارات والمؤسسات والتنظيمات التي تحمل أسماء براقة مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أو مؤسسة الإعمار والبناء، أو منظمة التعاون الدولية، تخضع لآلية موحدة تؤمن غلبة الرأسمال الاحتكاري، تحت ذريعة المساعدات الإنسانية، لقد حاولت أن أقف في وجه هذه المافيا الدولية، وأن أخوض معارك حقوقية معقدة من أجل التحرر منها، وإقناع دول العالم الثالث بالتحرر منها، ولكنني لم أنجح كما كان منتظراً، وتعرضت أكثر من مرة للتصفية الجسدية. ‏

ـ وعن العراق؟ ‏

ـ لم يعد سراً أن حرب العراق هي أكبر خدعة في التاريخ، وما يرتكب في هذا البلد الأنوف الكريم يفوق التصور، لم يتح لي أن أزور العراق بعد الاحتلال الأميركي، ولكنني زرته بعد حرب الخليج الأولى، إذ دعيت إلى تفحص ما جرى في ملجأ بناه الفنلنديون ليكون نموذجاً للملاجئ الحديثة المزودة بكل وسائل الراحة، وقد قصفه الأميركان بصاروخ، ولكن يبدو أن التصويب لم يكن دقيقاً، ما أرغمهم على قصفه بصاروخ آخر، فكان أن تداعى وتحطم، على الرغم من أن سماكة السطح تتجاوز الأمتار العشرة، لن أنسى ما دمت حياً هول ما شاهدته: بقايا الأجساد، رؤوس الأطفال المقطوعة، أثداء النساء المحروقة، الأطراف المبتورة، هذه هي البربرية المتوحشة في أعلى تجلياتها، ولكن ما شاهدته لا يقاس بما يجري الآن في المدن والقرى والجامعات والمستشفيات العراقية، ومع ذلك، فإن آلة الإعلام الأميركي لا تزال تتحدث عن الإرهاب، وعن الحرب على الإرهاب. ‏

ـ 5 ـ ‏ إن استخدامات كلمة إرهاب في الطرح السياسي، والردح الإعلامي، مثيرة للريبة، إن لم يكن للسخرية: من يستخدم الطائرة والدبابة والمدفع في القتل والتدمير والإحراق يعد «متحضراً يدافع عن نفسه» حتى ولو ارتكب أكثر المجازر هولاً، كما جرى في أفغانستان والعراق والصومال والبوسنة، حيث تُزال قرى بكاملها من الوجود بسكانها، ولكن حين يستخدم المقاومون الأحجار، وبنادق الصيد، أو الأحزمة الناسفة، فإنهم يعدون «إرهابيين يجب تصفيتهم»، حتى ولو لم يتسببوا بخسائر بشرية أو مادية، وهكذا فإن رامسفيلد «مجرم الحرب العنيد»، يحاط بالتكريم والتمجيد، على أنه من المدافعين عن الحضارة، في حين يوصف الشيخ ياسين المشلول الذي قتل في وضح النهار، وهو يخرج من مسجده بأنه «شيخ الإرهابيين». ‏

ـ 6 ـ ‏ أريد لـ«محامي الشيطان» أن يتحول إلى بطل رواية بوليسية، وأعيد تركيب أجزائه، في مجتمع هوليودي متخيل، «ليكون سوبر ستار كـ«كوجاك»، وزوّرت مرافعاته في المحاكم، لتظهر وكأنها حيل شيطانية، تسلي، ولا تغني من جوع، ولكن جاك فيرجيس يبقى إنساناً نقياً، يدافع عن قضايا عادلة، على الرغم من التواءاته السلوكية، إنه منجم من المعلومات، وينبوع عطاء، وقد نسمع عنه الكثير في المستقبل، على الرغم من أنه تجاوز الثمانين، وبدت عليه أمارات الشيخوخة والهرم. ‏

د. غسان رفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...