رواية «شيكاغو» لعلاء الأسطواني

12-03-2007

رواية «شيكاغو» لعلاء الأسطواني

كنت انتهيت من قراءة رواية "شيكاغو" الأسبوع الماضي، عندما حضرت أمسية لتوقيع نسخ من الرواية في حضور مؤلفها علاء الأسواني ومناقشة العمل مع الجمهور، على هامش نشاطات معرض مكتبة الإسكندرية للكتاب. أدهشني، وأنا أتأمل ظاهرة نجومية الأسواني، أنه لا يتردد في "حشر" أرقام توزيع كتبه في كل ندوة أو أمسية أدبية أو حوار صحافي، متجاوزا دور الناشر الذي لا يكترث، في ما يبدو، طالما أن هذه الإستراتيجيا تؤدي دوراً كبيراً في زيادة نجاح رواية مثل "عمارة يعقوبيان"، ولا يتورع عن توجيه الشكر الى جمهوره على المبيعات التي يحققها. هذه ممارسات جديدة لم نألفها لدى المؤلفين، وإن كانت تبدو طبيعية مع ظاهرة "الكاتب النجم" وفق المقاييس التي يضعها الأسواني، وتختلف بالتأكيد عن نجومية الكتّاب الذين ينتزعون شهرتهم بنصوصهم من دون أن يذكروا شيئا عن توزيع أعمالهم، احتراماً لدور الكاتب وقيمته من جهة، ولإيمانهم بارتباط النجاح بمضمون ما ينجزونه.
إذ ألفت الى تصرف الأسواني هذا، فإني في المقابل أعتقد أن كتابه الثاني "شيكاغو"، فيه من صنعة الأدب الكثير مما قد لا يحتاج الى مثل هذه الدعاية التي ينبغي للكاتب أن يتركها للتسويق والناشرين. يبدو الأسواني أكثر تدقيقا لنصه، وأشدّ عناية باللغة، وبالحبكة، وبرسم الشخصيات، وتطورها النفسي، ويقلص كثيرا من دور الراوي العليم في الرواية بحيث يتجنب أن يقحم نفسه في الخطابة المباشرة تاركا هذا الدور للشخصيات وللحوارات في ما بينها، والتي كثيرا ما كانت تبدو في الكتاب الأول مفتعلة. يراعي الأسواني هذه المرة أن تكون الفصحى وسيلة هذه الحوارات كلها، ويستعين بحيلة فنية هي مذكرات أحد المغتربين المصريين في الولايات المتحدة، ناجي عبد الصمد، إلا أنه لا يوظفها توظيفاً ابتكارياً على مستوى تقنيات السرد.
من اللافت أيضا براعة الكاتب في عملية التشويق، وإنهاء الفصول في مواقع تشكل ذروة لتوتر الشخصيات بما يعرّضها لمفاجآت غير متوقعة. وقد ذكّرني هذا بأسلوب دان براون، وخصوصاً في كتابه "الحصن الرقمي".
تحفل الرواية بالعديد من النماذج البشرية التي ينجح الأسواني في تحريكها من وجهة نظر إنسانية بحتة، وبدون تحيز أخلاقي، ربما باستثناء نموذج أحمد دنانة، الكريه، المسؤول عن بعثات الدارسين المصريين في شيكاغو، عميل الأمن، المتديّن ظاهريا، البخيل، والنذل مع زوجته والآخرين بما لا يتيح التعاطف معه على أي مستوى.
"شيكاغو"، مثل "عمارة يعقوبيان"، مسرح يضم نماذج عدة، قد لا يجمع في ما بينها أيّ رابط درامي. لكن المكانين يصلحان لإقامة مقارنة موازية بين عالمين، أو مرحلتين. العمارة مكان مركزي، لكنه ليس مهما في ذاته بمقدار أهميته في كشف التغيرات التي أصابت الطبقة الوسطى المصرية والتشوه الذي لحق بالمجتمع المصري بشكل عام. أما مدينة شيكاغو فهي متكأ الأسواني لكي يبرز عوامل التشابه العنصرية بين المجتمعين المصري والأميركي، وخصوصاً في ما يتناول العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر، وبين البيض وأصحاب البشرة السمراء في الولايات المتحدة، كاشفا وجها كريها للتمييز العنصري في مجتمع يتشدق بالديموقراطية، خطابا وفنا ونثرا وإعلاما، في حين أن زواج شخص أبيض بامرأة سمراء يبدو خطيئة اجتماعية لا يستطيع المجتمع الأميركي أن يبتلعها بسهولة.
أما المحيط المشترك الذي يبدو كحلقة وصل تربط شخصيات الرواية، وإن ضمن حدود، فهو جامعة إلينوي، ومنها تتفرع خمس شخصيات. حيث شروح بلا تعقيدات كثيرة ترسم لكل شخصية رتوشا من الماضي يضفي عليها نوعا من الصدق الفني، وإن كان ينقصها الكثير من التفاصيل السيكولوجية التي يفترض ألا يمر بها الأدب مروراً عابرا.
إلا أن المدخل التاريخي المكتوب بشكل قصصي عن مدينة شيكاغو يبدو مختلفا، إذ يعطي الرواية جوا مميزا وخصوصاً لانه يضطلع بدور تمهيدي يشوق لإدخال القارىء في أجواء المجتمع الأميركي الذي تدور فيه وقائع الرواية.
شيماء محمدي؛ فتاة مصرية محافظة، محجبة ومتدينة، تجيء إلى شيكاغو من طنطا لاستكمال دراستها العليا، حيث تتعرف إلى مصري مغترب، هو طارق حسيب، معتدّ بنفسه، ولا يطيق الكذب، ما أفسد عليه عددا من محاولات الزواج. يبدو طارق متماسكا في البداية، مهتما بدراسته، شغوفا بها، مما يجعله من المتفوقين. يرى في شيماء فتاة محجبة لا يمكن أن يقيم معها علاقة، بسبب الاختلافات الطبقية بينهما، لكن الأحوال تتطور أكثر مما توقع بكثير، إذ يغرم بها، وهي أيضا تبادله المشاعر إياها، وتختلق لنفسها العذر تلو الآخر حتى تمنحه جسدها، من دون أن تفقد عذريتها، ثم تتطور العلاقة وصولا الى أن تحمل منه وتقرر التخلص من الجنين.
أحمد دنانة، هو الوصولي الذي يفعل كل شيء من أجل السلطة، وتتعرض كفاءته للاختبار في الجامعة، ولا تشفع له علاقاته بالأمن لتعطيه ما لا يمتلكه في الأساس. يرتبط بنموذج رجل الأمن الذي تتكئ الرواية عليه لإبراز المشكلات بين الأمن والجمهور ومثالب تعرّض المعتقلين للتعذيب وغيرها من سلبيات وبشاعات ترى الرواية أنها ممارسات تعود في أصولها الى عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
ثم هناك أيضا شخصية الدكتور رأفت ثابت الذي تزوج من أميركية وأنجبا سارة التي تشعر أن الأب والأم لا يحب أيّ منهما الآخر، وهذا ما يرفض رأفت أن يعترف به. لكن خروج الابنة من البيت مع صديقها وتعاطيها المخدرات، وصولا الى ذروة المأساة، وقائع تلقي الضوء على التناقضات في أحد وجوه المجتمع الأميركي باعتباره مجتمع هجرة.
أما الدكتور محمد صلاح المتزوج أيضا من أميركية فيشعر بانفصاله عن المجتمع الأميركي بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما. فقد أكد له طبيبه النفسي أنه تزوج بغية الحصول على الجنسية وليس لأنه يحب زوجته، وهو كان بالفعل بدأ يستسلم لذكريات الفتاة المصرية التي أحبها في الجامعة ولم يستطع أن يتجاوز حبه لها بعد كل تلك السنوات.
ناجي عبد الصمد الذي يسافر لدراسة الهيستولوجي، يكتب يومياته، فلا تعدو المذكرات أن تكون خيطا دراميا ثانيا للراوي العليم، إذ ليس فيها البعد النفسي العميق. الغريب أن كرم دوس، الطبيب الذي هاجر الى أميركا بسبب تعرضه للاضطهاد على يد أستاذه المصري لأنه قبطي، احتك بناجي عبد الصمد في حوار طائفي شديد اللهجة قبل أن يعودا صديقين، وهو ما نفهمه من يوميات ناجي، لكن الراوي العليم سرعان ما يعود ليتولى رواية التفاصيل الخاصة بكرم دوس بما يُفقد اليوميات وظيفة الاندراج في سياق فني مفهوم.
ناجي هو الثوري المصري المتسامح الذي يقع في غرام يهودية أميركية، ويتعرض لعنصرية اليهود الأميركيين، بوشاية من صديق حبيبته الأسبق. يكشف أن الصراع العربي - الإسرائيلي ليس صراعا على الدين إنما كره في الصهيونية. في مقابل هذا النموذج المتسامح، هناك الدكتور الأميركي غراهام الثوري من جيل فيتنام، وزوجته السمراء كارول التي تواجه مصاعب عديدة في حياتها بسبب لون بشرتها.
يبدو جهد الأسواني جليا في تجميع الكثير من تفاصيل حياة المجتمع الأميركي وسردها بشكل مقنع، وفي تطور تعقيدات حياة شخصياته، وفي الكثير من المشاهد الحسية التي تتسم بالجرأة وبحسن التوظيف الدرامي وبواقعيتها. كما يتجلى جهده أيضا في اللغة، حيث يتجاوز ركاكتها في "عمارة يعقوبيان" إلى نوع من البساطة والسلاسة بلا استسهال، وإن كانت تشوبها بعض الهنات.
من سمات هذا العمل أيضا، الأفكار المباشرة والتركيز على شخصيات معاصرة وسياسية، يبدو الأسواني مغرما بها، بالرغم من أنها تضعف الأدب الذي يفترض أن يتجاوز المباشر لحساب عمق الفكرة وقدرتها على الحياة طويلا. من الممكن اعتبار هذا المنحى جريئاً من وجهة نظر سياسية لكنه فنيا ليس كذلك، وهذا ينطبق أيضا على مصائر بعض الشخصيات التي تحيلنا بشكل ما على تراث الأفلام الأميركية، وخصوصاً غراهام الذي يشعر بخيانة زوجته وبتغيره المفاجئ في ذروة فعل الحب بما لا يتفق مع تكوينه، وأيضا السقوط الميلودرامي لعائلة الدكتور رأفت.
"شيكاغو" رواية مسلية وممتعة، تتخذ من السرد التقليدي شكلا ومن التشويق نكهة خاصة، وتحاول أن تبتعد عن تصنيفات الروايات المشوقة بانتهاك أكثر المناطق جدلية في المجتمعين المصري والأميركي معا. ورغم أنها لا تبقي في النفس أثرا عميقا، فإنها تنجح في إبقاء الشخصيات عالقة في ذهن المتلقي.

إبراهيم فرغلي

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...