سقوط الكلمات وتداعي المعنى

19-06-2007

سقوط الكلمات وتداعي المعنى

إذا كان بعض نقّاد الأدب يتحدّث عن «موت النظرية»، مدافعاً عن الخصوصية الأدبية التي تنكر الاختزال، فإنّ في الواقع العربي المعيش اليوم ما يشير إلى هزيمة النظريات جميعاً. فالظواهر الأساسية في هذا الواقع تشبه، ظاهرياً، ظواهر المجتمعات الأخرى، من دون أن تقاسمها الوضع والدلالة والمعنى. فلا السياسة، في الواقع العربي، هي السياسة، كما يتعارف عليها الموروث الإنساني، ولا القومية هي القومية، التي يعالجها الفلاسفة والمؤرخون، ولا التراث قائم في موقعه المفترض، ولا التحرّر الوطني الفلسطيني حريص على معنى التحرّر، أو ما يشبهه. كل الكلمات واضحة وكل مواضيع الكلمات غائمة، مشوّهة، ممسوخة ومريضة، كما لو كان الواقع المتداعي بحاجة إلى قاموس لغوي جديد، يعطي الظواهر العربية، التي لا تشبه غيرها، مسميات جديدة.

فالسياسة في كل البلاد، أو معظمها، هي الحوار بين مجموعة من البدائل السياسية، أو المشاريع التي مرجعها تأمين حقوق المواطنة. أو أنّها «قوّة الكلام»، التي تنهى الشعوب المتحضّرة عن العنف، وتمنعها من مواجهة الرأي المختلف بسيل من الطلقات والتخوين والاتهام. والسياسة في أجزاء من العالم العربي موجودة، مع تعديل جوهري يحذف منها ثلاث كلمات أساسية: فلا موقع للحوار، لأنّ أصحاب «الحقيقة الوحيدة الكليّة» يرون في غيرهم ضالين مارقين، يجب تدمير «كلامهم» وإعدامه. ولا مواقع لـ «البدائل»، ذلك أنّ التنوّع يخون «الخير العام»، الذي يقضي بجماعة وحيدة تفصل، وحيدة، بين الخير والشر. ولا وجود لكلمة «المواطن»، التي تعني الاعتراف بالأفراد، والاعتراف أكثر بأنّ الأفراد المستقلين قادرون على التفكير والاختيار والاقتراح. هكذا تظل كلمة السياسة قائمة ويتلاشى موضوعها، محيلاً على شيء يشبه الحزب السياسي ولا يشبهه، ويشبه اللغة السياسية ويختلف معها، ويشبه الصحافة المتحزّبة ويغايرها. والواضح في كل هذا، تقريباً، أمران: إنّ السياسة هي السلطة، وأنّ السلطة هي التي تضع سياسة تمنع السياسة، وأنّ السياسة السلطوية من اختصاص فئة قليلة، تتحدّث سياسياً باسم المجموع وتضع المجموع كله خارج السياسة. والأمر الثاني: أنّ كل طرف يعمل على احتكار القول السياسي هو طرف سلطوي مستبدّ بالضرورة، وملحق من ملاحق سلطة هنا وسلطة هناك. وهذا الإلحاق، الذي يمارس السياسة بأدوات غير سياسية، هو الذي يحوّل السياسة إلى تجارة والتجارة إلى سياسة، ويحوّل الأشياء التي تشبه الأحزاب إلى «مشاريع اقتصادية»، قائمة على مقايضة المنافع والمصالح. والمحاصر في هذا الفضاء الخانق، القائم على النفي والإقصاء وبلاغة الكذب، هو الطرف المتطلّع إلى إعادة الاعتبار إلى الأخلاق السياسية، سواء كان الطرف فرداً أو مجموعة أو حزباً جديداً تمرّد على الإلغاء السلطوي للسياسة.

ومع أنّ كلمة القومية، أو نعتها الجميل: القومي، من أكثر الكلمات استهلاكاً في الخطابة اليومية، فإنّ «المعنى القومي» غامض وشديد الغموض، له وجه كالقناع أو قناع كالوجه. فالقومية، كما عرفتها معظم الشعوب غير العربية، لا تنفصل عن الديموقراطية والحداثة والحياة السياسية المجتمعية، بل انّ ما يميّزها هو التحرّر من المراجع الفئوية الضيّقة، مثل العشيرة والجهة والطائفة، وهو الانفتاح على المجتمع، من دون التوقّف أمام عقائد الناس ومعتقداتهم. أمّا في العالم العربي، الذي يتحدّث اللغة العربية ولا يكفّ عن تبيان عبقريتها، فلا مكان للكل أو المجتمع أو الوطن، فكل جهة تندّد بغيرها، وكل جزء يقصف الجزء الآخر، وكل طائفة تغتال غيرها... وواقع الأمر أنّ إخفاق «الدولة الوطنية» بلغة قديمة أو حديثة، هو الذي أنتج الجزء والجهة والطائفة، وجعل من الدولة المخفقة، لزوماً، جزءاً أو جهة أو طائفة، دورها إعادة تجزيء المجزوء ودعم ما يوطّد التشظي والتجزئة. ولهذا يكون «الانتماء القومي»، في هذا الخراب الواسع، فولكلوراً قومياً بائساً... وواقع الأمر أيضاً أنّ «القومية العربية الثقافية»، ومرجعها الحقيقي هو الفئات الشعبية الواسعة، كانت ولا تزال محاصرة ومعوّقة ومهدّدة من «القومية السياسية»، أو «القومية السلطوية»، في شكل أدق، التي حوّلت القومية إلى علاقة تجارية - بلاغية، تطرد الشعب وتتحدّث عن قومية وَهْمية لا تحتاج إلى الشعب. ولا غرابة أن ينسحب السديم الشعبي المقهور من عروبته، وأن يرتاح إلى عائلته وجهته وطائفته وبلدته، بعيداً من بازار البلاغة القومية، وبعيداً أكثر من «سلطات قومية» تدمّر القومية بوسائط سلطوية.

توجد السياسة العربية في ظلالها المضطربة، وتظهر القومية العربية في البلاغة والمؤتمرات والتجارة السياسية، ويوجد التراث، أيضاً، حيث يريد له حرّاس التراث أن يكون. وهؤلاء الحرّاس، الذين يحسنون بدورهم البلاغة والتجارة، يخترعون تراثاً يلائم «روح الزمان»، بعيداً من التراث القديم وإمكاناته المتعددة. صدر الحارس التراثيُّ الجديد عن ركام الهزيمة المتوالدة وأنقاض السلطات المخفقة وعن سطوة الركود، التي ترى في دوام الحال إيماناً خالصاً. وواقع الأمر أنّ تراثه المخترع يشبه التراث وما هو بالتراث، مثلما تشبه السياسة السلطوية السياسية الحقيقة ولا تكونها، وبمقدار ما تشبه القومية بلاغة مصنّعة لا تعترف بالقومية الحقيقية. ولهذا يرمي «التراثيُّ الجديد» وراء ظهره حقوق الوطن والإنسان والمواطنة، ويرمي وراء ظهره ما جاء به التراث القديم عن التسامح والتنوّع والاختلاف، ويذهب مباشرة إلى «المسموح والممنوع»، آخذاً بتعاليم السلطات المخفقة ومزايداً عليها أيضاً. عندها لا تصبح قضايا المجتمع هي الفقر والظلم والتخلّف والهزيمة التي تنكّل بالتراث المجيد، بل تختصر في قضايا محددة هي: الغرب والثورات العلمية والانفتاح على العالم. لن يكون الغرب، بداهة، هو الاقتصاد والسياسة، بل هو شيء غامض عنوانه الكفر والانحطاط والانزياح عن الحق. أمّا العلم فله دلالات عجيبة: الكهرباء مكروهة لأنّها تثير الحواس، والطبّ لا يخلو من الكفر لأنّه يتدخّل في لقاء الإنسان مع خالقه، والعواصف والزلازل عقاب على الرذائل، و «الإنترنت» حرام، وله فتوى تطالب بمنعه، كما جاء في اجتهاد «تراثي سوري» ذائع الصيت، ردّت عليه باحثة فرنسية في دراسة طويلة. من البداهة أن يكون لـ «التراثي الجليل» مواقع على «الإنترنت»، وأن يتداوى «كاره الطب» في أحدث المستشفيات... والسؤال هو: إذا كانت للسياسة في العالم العربي مواصفات خاصة بها، وكانت للقومية «خصوصيتها» ولـ «التراث»» ما يجعله تجارة وفولكلوراً وتجهيلاً، فكيف يستطيع الباحث أن يعالج هذه الظواهر بمقولات كونية، يتعارف عليها الباحثون في كل مكان ولو بمقدار؟

ويأتيك أيضاً التحرّر الفلسطيني، وما أدراك ما التحرّر الفلسطيني؟ كان طه حسين في كتابه «الأيام» قد تحدّث عن «شيوخ الطريق»، الذين يجهلون تعاليم الدين ويتقاسمون صفتين: إجابة الناس بما لا يفهمونه حيناً وبما يرغبون بسماعه حيناً آخر، وإرهاق الناس بالطعام والشراب والمتطلّبات. لا علم ولا معرفة، وإن كانت هناك تلك المقايضة المؤسية بين الأوهام المرغوبة والخدمات الحقيقية التي ترهق فقراء الفلاحين. ما يجري في فلسطين المحتلة قريب من حكايات «شيوخ الطريق». فقد تحوّل شعار بعض الفلسطينيين عن «فساد السلطة» إلى شعار يريد إلغاء «السلطة الفلسطينية» إلغاء كاملاً، ناسياً أن هذا الإلغاء مطلب إسرائيلي في نهاية المطاف. كما تحوّل شعار «تحرير فلسطين التاريخية» إلى فعل طريف غايته «تحرير الشعب الفلسطيني» من تراثه وثقافته وتاريخه المقاوِم، على اعتبار أن «التحرير الحق يبدأ من الصفر»، وأنّ الكفاح السابق كان ضلالاً مبيناً. يعتقد البعض، ربما، أنّ الصراع اليوم ضد الاحتلال الصهيوني الإجرامي لا يستوي إلاّ بالقضاء، أولاً، على الفلسطينيين الذين قاتلوا، ولا يزالون، ضد الاستعمار الصهيوني، ذلك أنّ هؤلاء «المارقين» لا يريدون تحرير فلسطين تحريراً كاملاً؟! ولهذا يكون على مدينة غزة كما جاء في صحيفة «لوموند» أخيراً، أن تتبدّل إلى فضاء واسع مريح للعصابات المسلّحة المختلفة.

سياسة تشبه السياسة، وتحرير لفلسطين يشبه التحرير من بعيد، يُمتع «قلة متزعّمة»، ويرمي على مئات الألوف من الفلسطينيين بالحزن والخزي والدمار والخراب، ويعفي «جيش الدفاع الإسرائيلي» من مهمات كثيرة. شعب عربي يشبه الشعوب الأخرى، من دون أن تشبهه الشعوب المتحضّرة في شيء.

 

فيصل درّاج

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...