علاء الأسواني: في مساوئ اللهوجة

01-10-2013

علاء الأسواني: في مساوئ اللهوجة

منذ عشرين عاما استعنت بنقّاش اسمه سعيد لدهان شقتي، قال لي إنه تعلم الصنعة على يد نقاش إيطالي في الاسكندرية. لم أر مثل سعيد في إتقانه لعمله. كان يدهن الجدران وكأنه يرسم لوحة فنية. يسنفر الحائط ثم يغطيه بالمعجون ثم يسنفره من جديد ويدهنه وينتظر حتى يجف الدهان قبل أن يدهن طبقة جديدة. وكان في آخر النهار يكنس مكان عمله ويمسحه بالماء والصابون حتى يجده نظيفاً في الصباح. الغريب أن إتقان سعيد لصنعته لم يؤد الى تفوقه فيها بل جلب عليه مشكلات جمة. فقد اشتهر سعيد وسط النقاشين بأنه عامل بطيء قد يستغرق أياماً في مهمة ينجزها نقاش آخر في يوم واحد، وقد أدت هذه السمعة الى إحجام المقاولين عن الاستعانة بسعيد في مشروعاتهم ما أدى الى وقف حاله تماماً. سعى سعيد مراراً لإقناع المقاولين بأن إتقانه للعمل، حتى لو أخذ وقتاً انما يوفر عليهم العيوب التي ستظهر في الطلاء وتستلزم تكلفة إضافية لإصلاحها، ولكن عبثاً، فقد اقتنع المقاولون جميعاً ان سعيداً لا يأتي من خلفه الا التعطيل ووجع الدماغ.
ناقشت سعيد مرة فقال لي بمرارة:
ـ المقاول لا يمكن يفهمني.. أنا عاوز اشتغل صح وهو عاوزني أشتغل لهوجة.
ترك سعيد صنعة النقاشة وعمل بائعاً متجولا حتى مات فقيراً في العام الماضي، وترك وراءه زوجة وأطفالا. حزنت لموته وفكرت أن الناس في بلاد الدنيا يفقدون عملهم اذا لم يتقنوه إلا عندنا في مصر، فالانسان قد يفقد عمله اذا سعى لإتقانه. بحثت عن كلمة «لهوجة» التي سمعتها من المرحوم سعيد فوجدتها لفظة عربية صحيحة مشتقة من فعل «لهوج» بمعنى «أهمل»، فيقال «لهوج الرجل عمله» بمعنى «فعله على عجل وبلا إحكام»، أو يقال «لهوج الرجل اللحم المشوي» بمعنى «لم ينضجه على النار». اذا كان هناك عنوان للمجتمع المصري فهو اللهوجة. نحن نادراً ما نتقن عملنا أو ننفذه طبقاً للقواعد. بالاضافة الى اللهوجة المهنية نعاني نحن المصريين من اللهوجة السياسية المستمرة. اللهوجة المهنية تحدث بسبب الطمع أو قلة الضمير، أما اللهوجة السياسية فتتعمدها السلطة لتخدع الشعب وتمنعه من حقوقه. في «يناير» 2011 قام المصريون بثورة عظيمة أطاحوا فيها مبارك ثم وضعوا الثورة على مكتب المجلس العسكري وانصرفوا الى بيوتهم. تظاهر المجلس العسكري بانحيازه للثورة ثم قام بلهوجة سياسية حافظ بها على نظام مبارك سليماً كما كان ومنع التغيير الذي قامت الثورة من أجله. سمح المجلس العسكري بإنشاء أحزاب على أساس ديني (بالمخالفة للدساتير المصرية كلها) وتحالف معها، فتغاضى عن جرائمها الانتخابية، لأنه أراد لها ان تسيطر على البرلمان. لم يطبق المجلس العسكري القانون على الأحزاب الدينية ولم يهتم بكشف مصادر تمويلها ولم يسألها عن الملايين التي تنفقها في شراء المقرات والدعاية، ثم أنشأ لجنة عليا للانتخابات قدمت اليها «فيديوهات» تصور «الاخوان» والسلفيين وهم يشترون أصوات الفقراء في وضح النهار، فلم تفعل لهم اللجنة شيئاً. أما الانتخابات الرئاسية فكانت لهوجة سياسية كبرى. فقد أعلنت اللجنة العليا للانتخابات ان الفائز هو محمد مرسي، فتولى رئاسة مصر لمدة عام كامل، ثم تبين أن منافسه أحمد شفيق قد تقدم بطعون يتهم مرسي فيها بتزوير الأصوات لصالحه، فلم تحقق فيها لجنة الانتخابات، الا بعد مرور عام كامل من رئاسة مرسي، وفي النهاية تنحى القاضي ورفض اعلان نتيجة التحقيق لأنه استشعر الحرج.
القضية هنا بالطبع ليست في أحمد شفيق (الذي لا زلت أرى أنه تابع مخلص لمبارك لا يجوز أن يتولى الرئاسة بعد ثورة أطاحت أستاذه) القضية أن يكتشف المصريون بعد عام كامل أنهم خدعوا وأن نتيجة انتخابات الرئاسة مشكوك فيها.
في يوم «30 يونيو» الماضي نزل ملايين المصريين في موجة ثورية كبرى كانت أهدافها واضحة تماماً: إنهاء حكم «الاخوان» وحظر الأحزاب الدينية وإنشاء دولة ديموقراطية حقيقية وتحقيق العدالة الاجتماعية وسيادة القانون.. انحاز الجيش لارادة الشعب فأجبر مرسي على التنحي وأعلن عن خارطة طريق للتحول الديموقراطي فتفاءل المصريون خيراً وتنفسوا الصعداء، لما تخلصوا من عصابة «الاخوان» ثم تم تشكيل لجنة العشرة التي تلقت اقتراحات تعديل دستور «الاخوان» ونقلتها الى لجنة الخمسين لكننا بدأنا نرى ظواهر مريبة ومقلقة.. بدلا من حظر الأحزاب الدينية لتحقيق مطالب الثورة، رأينا رئاسة الجمهورية ترجو «حزب النور» السلفي وتلح عليه حتى يشترك في لجنة الخمسين.
نصف المصريين يعيشون تحت خط الفقر وبالتالي من أبسط حقوقهم أن يكون هناك حد أقصى وحد أدنى للأجور، كما يحدث في الدول المحترمة، لكن الحكومة تخدع المصريين وتحدد الحد الأدنى وتترك الحد الأقصى للأجور مفتوحاً، وذلك لمصلحة كبار المسؤولين الذين يتقاضون ملايين الجنيهات شهرياً من أموال دافعي الضرائب.. هذه الأيام بدأت التكهنات عن انتخابات الرئاسة فأعلن بعض السياسيين عن ترشيح أنفسهم وأعلن آخرون أنهم سينسحبون لو رشح الفريق السيسي نفسه، لأنه الأكثر شعبية (اذ يعتبره المصريون عن حق بطلاً قومياً بعد مساندته للشعب ضد عصابة «الاخوان»). يريدون لنا أن نخوض في هذا الجدل وكأننا فقدنا الذاكرة، أو كأنه قدر لنا أن نكرر أخطاءنا الى الأبد. يريدوننا أن نقتنع بأن لدينا انتخابات عادلة فعلا. لا توجد في مصر قاعدة واحدة سليمة للانتخابات من تلك المعمول بها في الدول الديموقراطية. هل يعلم الشعب حجم ثروات مرشحي الرئاسة وكيف حصلوا عليها؟ هل نعلم من أين تأتي ملايين الجنيهات التي ينفقونها في الدعاية، كما حدث في الانتخابات الماضية؟ ماذا يضمن لنا أن اللجنة العليا للانتخابات لن تدفن الطعون المقدمة ضد أي مرشح وتعلن فوز مرشح آخر قبل التحقيق في الطعون المقدمة ضده كما فعلت من قبل؟ ان الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مصر ليست إلا لهوجة سياسية كاملة بلا تكافؤ فرص ولا شفافية ولا قواعد ولا وسائل لتنفيذ القانون. ان اعضاء اللجنة الخمسين، وكلهم شخصيات وطنية محترمة، يتحملون الآن المسؤولية التاريخية لتحقيق المطالب التي خرج من أجلها ملايين الناس وأهمها:
1 ـ منع إقامة أية أحزاب على أساس ديني أو مرجعية دينية، وحل الأحزاب الدينية الحالية وإذا كان أعضاء هذه الأحزاب يريدون العمل بالسياسة فعليهم أن يشكلوا أحزاباً مدنية من دون الاستعمال السياسي للمقدسات الدينية.
2 ـ النص في الدستور على الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور في القطاع الحكومي.
3 ـ إخضاع الأنشطة الاقتصادية للقوات المسلحة (شركات الخدمة العامة) لرقابة الدولة وتحصيل الضرائب المستحقة عليها.
4 ـ إخضاع الانتخابات البرلمانية والرئاسية لإشراف دولي في كل مراحلها والعمل على تحقيق شروط نزاهة الانتخابات المعروفة من شفافية التمويل وفحص ثروات المرشحين وشطب المرشح الذي يتجاوز الحد الأقصى للإنفاق وتجريم شراء الأصوات الانتخابية.
5 ـ تطبيق التمييز الايجابي في كل المجالس المنتخبة، وذلك بتخصيص نسبة «كوته» للأقباط وللمرأة.
6 ـ تعيين النائب العام عن طريق المجلس الاعلى للقضاء.
7 ـ تعيين رؤساء الاجهزة الرقابية بمعزل عن ارادة رئيس الجمهورية تحصيناً لمبدأ الرقابة، فلا يحدث في أية دولة ديموقراطية أن يختار الرئيس الأجهزة التي ستقوم بالرقابة على أدائه.
8 ـ العلاج الشامل المجاني والتعليم المجاني في كل المراحل من حقوق المواطن على الدولة، ويتم الانفاق عليها من حصيلة الضرائب التصاعدية التي تفرضها الدولة على الاثرياء.
9 ـ إلغاء الصناديق الخاصة التي خلقت اقتصادا سريا بين المحظوظين من موظفي الدولة.
10 ـ منع محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري مهما كانت الأسباب، وإلغاء محاكم ونيابات أمن الدولة، وقصر مهمة جهاز الأمن الوطني على جمع التحريات وتقديمها للنيابة العامة للتحقيق مع المتهمين، هذه المبادئ التي ستحقق أهداف الثورة واذا تم تجاهلها فإن الدستور المعدل سيعيد إنتاج نظام مبارك لنجد أنفسنا قد عدنا الى نقطة الصفر.

علاء الأسواني

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...