عن الطائفية والإرهاب والفتنة

24-12-2006

عن الطائفية والإرهاب والفتنة

تقول الأساطير الشرقيّة القديمة إنّ نوحا حمل على ظهر سفينته ثلاثة أبناء هم سام وحام ويافث فمنهم انحدرت شعوب المعمورة. وإذا كان هذا الثالوث قد صنع الذاكرة الأسطوريّة للبشرية فإنّ أسطورة الإسلامويّة الحديثة التي تقول إنّها ستعيد أمجاد الأمّة قد فرّخت أبناء ثلاثة هم الطائفيّة والإرهاب والفتنة. إنّه الثالوث الذي خرج من رحم الإسلامويّة وسيقبرها اليوم ويقوم بديلا عنها ويحمّل الأمّة المثقلة بالمشاكل والمآسي مزيدا من الضعف والوهن.

لم تكن المجتمعات العربيّة والإسلاميّة على أحسن ما يرام عندما اكتسحتها الإسلامويّة، لكنّ الطبيب الذي يقدّم نفسه للعلاج فيتسبّب في علّة أكبر يصبح أكثر جدارة بالتنديد من العلّة نفسها التي زعم علاجها. وقد وعدت الإسلامويّة بأنّها ستوحّد المسلمين فانتهت بتأجيج التنازع الطائفي بينهم، ووعدت بتربية أجيال جديدة على الأخلاق الحميدة فانتهت بتفريخ الإرهاب الذي لا يعدو أن يكون إجراما مغلّفا بالدعاوى السياسيّة، ووعدت برفع راية الجهاد ضدّ الغزاة فأحلّت الفتنة بين المسلمين في كلّ مكان. ولقد قال الحكماء والفقهاء قديما إنّ الاحتجاج على الباطل يصير مذموما إذا ترتّب عليه باطل أكبر، ولئن استهزأ ثورويّونا اليوم بهذه الحكمة القديمة فإنّها تختزل خبرات عصور طالما شهدت الأدعياء يخرّبون باسم الإصلاح.

والإسلامويّة التي هي أيديولوجيا سياسيّة وليست فكرا دينيّا لم تكن في الأصل أيديولوجيا طائفيّة لكنّ الطائفيّة هي إحدى نتائجها الطبيعيّة. طرحت الإسلامويّة شعار توحيد المسلمين لكنّها لم تقدّم أي تجديد في الفكر الديني يمكن أن يكون قاعدة الوحدة المرجوّة، بل لم تكن قادرة على تمثّل الثراء والتنوّع الذي كان يميّز الحضارة الإسلاميّة في الماضي. وترتّب على ذلك اختزال تلك الحضارة في قواعد ضيقة لا توحّد بقدر ما تضيّق على الناس أمر دينهم ودنياهم. وبدأ التحوّل من مقولة الوحدة الإسلاميّة إلى مقولة «الجماعة» الضيّقة الأفق التكفيريّة المنحى. وانتشرت الفئات الصغيرة التي تدّعي كلّ منها تمثيل الدين والتاريخ والهويّة مكفّرة من لم يكن من صفّها ولا دان بالولاء لأميرها. فلمّا تعدّدت الجماعات التي تدعي احتكار الحقيقة الدينيّة بدأ الصدام بينها يحتدّ ويتعاظم. ولقد عاشت المجتمعات الإسلاميّة في السابق قرونا من التعدديّة بين الأديان والمذاهب والملل والنحل. لكنّ الطائفيّة بدأت تطلّ برأسها يوم حاولت كلّ جماعة فرض نفسها بديلا للخلافة الإسلاميّة المنهارة أو وليّا عن الإمام الغائب. وكان إخوان الوطن من غير المسلمين أوّل ضحايا هذا التحوّل الخطير فبات وجودهم مهدّدا في أوطانهم وبين ذويهم فرحل منهم من رحل ولاذ بالصمت من لم يجد إلى غير ذلك سبيلا. ثمّ تحوّل النزاع الطائفي إلى داخل الدائرة الإسلاميّة نفسها فشهدت أفغانستان وباكستان خاصة عقداً من المنازعات العنيفة بين الفرق الإسلامويّة تسبّبت في دمار كبير وأعداد وفيرة من القتلى. وأخيرا بلغ الصراع الطائفي المجتمعات العربيّة وهو في سبيله إلى التوسّع والانتشار ليزيد الأوضاع العربيّة تعقيدا والمشهد العربي قتامة.

وكذلك الإرهاب ليس من صلب المشروع الإسلاموي لكنّه أحد نتائجه اليوم. كانت الإسلامويّة تعد بأن تربّي أتباعها على ما تراه المبادئ الحقيقيّة للإسلام، فإذا انتشرت هذه التربية في المجتمع وصلت الإسلامويّة إلى السلطة محمولة على أعناق الشعوب. لكنّ الشعوب أو جزءا كبيرا منها على الأقلّ قد استعصى على هذه التربية ولم يسلّم للإسلامويّة بالريادة فصارت هذه مضطرّة إلى أن تتخلّى عن برامجها التربويّة الطويلة والمملّة وتنخرط في العراك السياسي المباشر وأصبح طريقها إلى الاستيلاء على السلطة المناورات والانقلابات وادعاء الديمقراطيّة وتهييج المشاعر بالشعارات الغوغائيّة. أصبحت الغاية عندها تبرّر الوسيلة بعد أن كانت تعد بالأخلاق والتقوى وتلعن ماكيافيلي صباح مساء. وجاء الإرهاب نتيجة المزايدات المتواصلة في صفوف أتباعها، فلم يعد بعض هؤلاء مستعدّا لأن ينتظر المسار الطويل الذي أراده الشيوخ وسيلة لإقامة المجتمع الموعود، وصار يستعجل النتيجة بالمعنيين الأخروي والدنيوي. ولم يعد شيوخ الإسلامويّة قادرين على كبح جماح المتنطعين والحدّ من مزالق العنف والتشدّد، خاصة وقد طالت المدّة ولم يتحقّق الموعود. ولئن كان العنف خاصيّة الممارسة السياسيّة في المجتمعات التي لم تتربّ على الديمقراطيّة، ومنها المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، فإنّ الإرهاب هو شكل أعلى في ممارسة العنف. فالعنف السياسي الذي كان سائدا هو عنف ضدّ الخصوم السياسيّين، أمّا الإرهاب فهو عنف عشوائي يقع ضحيّته الأبرياء الذين لم يخطر في بالهم ممارسة السياسة أصلا. وقد مهّد لذلك اعتبار الإسلامويّة الممارسة السياسيّة جزءا من الفروض الدينيّة، فصار المجتمع كلّه مدانا بالجاهليّة إذا لم ينخرط في المشروع الإسلاموي، ثم تحوّل الاتهام بالجاهليّة إلى حكم بالتكفير، ثمّ تحوّل الحكم بالتكفير إلى حدّ مسلّط على الرقاب، فلم تبق إلا خطوة أخيرة وهي تنفيذه من قبل من نصّبوا أنفسهم أوصياء على عباد الله متصرّفين في أرواحهم ودمائهم.

هنا نصل إلى خاتمة الثالوث وهو الفتنة. لقد وعدت الإسلامويّة في أصل نشأتها بأن تجاهد أعداء الإسلام، فهيّأت لفكرة المواجهة مع كلّ قوى العالم وحملت مشروع حرب عالميّة ضدّ الجميع، ولم تكتف بالتلويح بتحرير ما تعدّه الشرعيّة الدوليّة أراضي محتلّة بل ذهبت إلى حدّ التأكيد على استعادة الأندلس وكلّ أرض كانت تعدّ في يوم بين ديار الإسلام (راجع رسائل حسن البنّا)، فورّطت المجتمعات الإسلاميّة الضعيفة في مواجهات لا طاقة لها بها، وضيّعت الممكن بسبب المطالبة بالمستحيل. فلمّا فشلت في تحقيق ما حمّلت به نفسها ولم يطلبه منها أحد اتجهت للتعويض عن فشلها بتحويل معاركها إلى الداخل، في الوقت الذي أصبحت فيه عواصم «العدوّ» المزعوم مقرّ إقامة دائمة لكبار زعمائها ومنظرّيها. وابتدعت شعار «أعداء الداخل» سبيلا لتحويل وجهة العنف إلى من كان مجرّدا من السلاح والعتاد، فأصبحت البطولة متمثلة في الاعتداء على الأقليّات والمثقفين وغيرهم، وما قويت الإسلامويّة في مجتمع إلاّ وخرّبته. فقد تحوّل الجهاد إلى فتنة داخل المجتمعات يزيدها ضعفا على ضعفها ويقحمها في صراعات داخليّة لا قرار لها، وصارت الحروب الأهليّة هي القاعدة والمواجهات مع الأعداء المزعومين استثناءات أو دعاوى.

إنّ من زعم أنّه أتى ليصلح الفساد فتسبّب في فساد أكبر منه يكون قد ارتكب أقصى الشطط، والإسلامويّة تقع اليوم بدورها ضحيّة المزايدات وتفقد القدرة على إيقاف هذا الثالوث الرهيب الناشئ في صلبها، ثالوث الطائفيّة والإرهاب والفتنة. وهي تتحمّل تاريخيّا وزر تعميق أزمات مجتمعات ادعت أنّها قامت بقصد إصلاحها واستدرّت تعاطفها بأسطورة إعادتها إلى أمجادها.

محمد الحداد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...