غسان رفاعي ينقل انطباعات غارودي عن الوهم الأمريكي

14-01-2007

غسان رفاعي ينقل انطباعات غارودي عن الوهم الأمريكي

ـ 1 ـ حينما كان الرئيس بوش يشرح خطته الجديدة للخروج من المستنقع العراقي، لم يكن يتلامح أمامي إلا كتاب روجيه غارودي «الولايات المتحدة، طليعة الانحطاط» الذي ترجمته منذ سنوات، نشر على حلقات في صحيفة البعث، ثم أعيد نشره على حلقات في صحيفة «القدس» التي تصدر في لندن، ثم ظهر ككتاب تحت عنوان «كيف نجابه القرن الحادي والعشرين».

قد يكون غارودي المسكون بحب مأساوي للحقيقة، ونزوع أسطوري للتحدي، قد دخل «متحف التاريخ» كما يرجف خصومه، ولكن ابن التسعين عاماً ما زال يرفض الاستسلام، على الرغم من الإقصاء والحصار والصقيع، فخوراً بسيرته الدامية، مصراً على امتلاكه للحقيقة، ولو اتهم «بالخيانة» المستمرة لانتماءاته، وحريصاً على السباحة في اللجج الهادرة، ولو أشرف على الغرق، هذا المارد الطافح بالحنان، المنقوع بالمحبة الخالصة، يوحي «بالإعجاب»، والخوف، ولربما الحيرة. وصفه صديق مقرب بـ «لاعب عربيد مولع بالخسارة» وشهد واحد من أعدائه بأنه «نسر مجروح يرفض أن يتوقف عن الطيران». ‏

جالسته ساعتين، في منزله الريفي، المحاط بالبساتين الوارفة، في ضاحية من ضواحي باريس، كان مستلقياً على فراشه، متعباً مرهقاً ترفرف عيناه، وترتجف شفتاه، فلم يتوقف عن الحديث، بحيوية محرجة، وشفافية طفولية. ‏

ـ 2 ـ ‏ وقبل أن يغوص في تحليل الأحداث، حملني ثلاث رسائل: ‏

أولها: إننا نولد شيوخاً، ولا ننقطع عن انتزاع شبابنا، شقفة وراء شقفة، من الطفولة إلى المراهقة إلى النضج والاكتهال. الحياة تجري عكس ما نعتقد: في البدء لسنا أكثر من امتداد للأحجار والأشجار والحيوانات، وتدريجياً نتحرر من أثقال العائلة والمجتمع والضواغط التربوية، وحينما نشعر أننا أحرار فعلاً أي أننا شباب، نكون قد أنهينا مسيرتنا، ويقول في تفاخر: «كل المعارك التي خضتها في حياتي هي استرداد لشبابي، انتقام من طفولتي ومراهقتي، وصولاً إلى هذا السرير الذي أستلقي عليه، وأنا شبه مقعد!». ‏

وثانيها: «ينبغي أن يعطى الجميع الحق في أن يموتوا حسب اختيارهم: هذا حق إنساني لا يجوز رفضه أو المساومة عليه، يقول في عناء: «إذا لم تكن ولادتي قراراً شخصياً حراً، فلماذا يجب عليّ أن أقبل أن يكون موتي مفروضاً علي. وحينما أقرر ساعة موتي، فأنا لا أفعل هذا، بدافع اليأس أو الفشل، وإنما بدافع من الشعور بالمسؤولية الكاملة» وكما يقول أراغون: «إنني أمارس الموت، كما أمارس الحب، بعيون مفتوحة» ولعل هذا تكرار لما قاله رلكة: «يا إلهي أعطني موتي كما أشاء...» ‏

وثالثها: كان سارتر يقول: «الجحيم هو الآخر» للدلالة على أن الفرد هو الأساس وأن اضطراره للانفتاح على الآخر هو نوع من التلوث، في حين يؤكد غارودي العكس تماماً: «الجحيم هو غياب الآخر، انغلاق الآخر» يولد الإنسان وهو مسكون بالآخر أو الآخرين، ولكن الثقافة الغربية المنحرفة هي التي تقلص الإنسان، فتجعل منه فرداً وحيداً، وتوهمه بأنه ينبوع كل شيء. شعار الإنسان النبيل هو: «أنا أحب فأنا إذن موجود» ومن هنا فإن الثورة الاشتراكية ليست انتصاراً للعلم وإنما انتصار للحب، ذلك أن حب الآخر هو مضاد للفردية والشمولية، وهما قطبا الاضطهاد المعاصر والقديم... ‏

ـ 3 ـ ‏ يكتشف الغارودي وهو يستعرض مأساة الإنسان المعاصر: «إننا نعيش في عالم مكسور، مثلوم، مشطور: شمال متخم في مقابل جنوب مملق، 80% من الثروات الطبيعية على سطح الكرة الأرضية مصادرة ومستهلكة من قبل 20% من الآدميين الأغنياء، وسكان الشمال يعبثون بـ 83% من الثروة العالمية، و80% الباقون لا يتمتعون إلا بـ 1.4% من هذه الثروة. ‏

ويحمل غارودي على النموذج الغربي المتأمرك للتنمية الاقتصادية، ويصفه بأنه «نموذج مجرم قاتل، لأنه يكلف العالم هيروشيما دموية كل يومين» على أيدي برابرة مدججين بالآليات الفتاكة، وكأنهم يعيشون في دغل مأهول بالحيوانات الكاسرة، والمأساة أن اقتصاد السوق لا ينتج السلع لتلبية الحاجات، و إنما يخلق الحاجات الاصطناعية، بل والفاسقة، تلبية لحاجات الربح والجشع. ‏

ـ 4 ـ ‏ في قناعة غارودي أنه هو البادئ في فضح قضايا ثلاث ثبت أنها هي القضايا الجوهرية في نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين: ‏

أولاً: بطلان الزعم بأن الاتحاد السوفييتي هو فردوس الاشتراكية، وقد كلفه هذا الزعم الطرد من الحزب الشيوعي الفرنسي، وشن حملات عنيفة عليه، إلى أن سقط جدار برلين وتقوض الاتحاد السوفييتي، وبدأ الجميع يتحدثون عن الطغيان الشمولي، وعن أخطاء الممارسة. ‏

ثانياً: فضح الدور التخريبي الذي تلعبه الولايات المتحدة على أساس أنها طليعة الانحطاط في هذا العصر، وقد قام عدد كبير من الكتاب والمثقفين الفرنسيين بمهاجمته بشراسة واتهامه بإفساد علاقات التحالف والتعاون بين أوروبا والولايات المتحدة، إلى أن أثبتت الأحداث صحة تشخيصه، خصوصاً بعد إصرار الولايات المتحدة على شن الحرب على العراق واتهامها «أوروبا القديمة» بأنها عاجزة عن مجاراة التطور، وأنها ما زالت أسيرة الممارسات البالية المتوازنة. ‏

ثالثاً: الكشف عن «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل» وقد سبب نشر كتاب غارودي عن هذا الموضوع سخط اللوبيات الصهيونية في العالم وداخل فرنسا، ما دفع بالمكتبات ودور النشر إلى مقاطعة مؤلفاته، وسحب اسمه من التداول الثقافي. ‏

هذه الكشوفات الثلاثة أوقعت غارودي في مآزق صعبة ولكنه يفاخر بأن يكون من أوائل المتحدثين عنها، تشخيصاً وتحليلاً ودراسة، وهو يعترف بأن أعداءه قد نجحوا في عزله، واستبعاده، ولكن التاريخ سيثبت ـ كما يقول ـ أنه كان مخلصاً للحقيقة، وأنه دفع ثمناً باهظاً للمحافظة على سلامة موقفه وصحة رؤيته. ‏

يقول لي غارودي وهو يرفرف بعينيه: «أنا غربي، من رأسي إلى أخمص قدمي، غربي في جذوري، في ثقافتي، في إعدادي التربوي، ولكنني أعترف أن الغرب قد أفلس، وقد يبدو ما أقوله هذياناً ولكن؟ الغرب هو سيد العالم المطلق منذ القرن الخامس، هو الذي يسيطر على الاقتصاد، على السياسة على الثقافة التي يريد فرضها على المجتمع فما هي ثمار هذه السيادة؟ التقدم التكنولوجي؟ هذا صحيح! ففي هيروشيما كان من المستطاع قتل 200.000 إنسان في ثانية، وهذا الإنجاز التكنولوجي رائع إذا ما قورن بـ «جنكيز خان» إذ كان عليه أن يخصص على الأقل عشرة أيام لقتل أقل من عشرة آلاف إنسان، وهذا هو تقدم كبير! نحن اليوم نملك عشرات الآلاف من القنابل من وزن قنبلة هيروشيما أي ما يكفي لقتل 15 ضعف سكان الأرض بكاملها فلا عجب إذا أعلنت إفلاس الغرب، وأملي أن يتوقف الغرب عن الزعم بأنه سيد العالم، وأن الأوان قد حان لكي يتعرف على الحضارات الأخرى التي دمرها، وعهرها. ‏

ما أريد أن أقوله في جميع كتبي، وخاصة كتابي الأخير: «كيف يصبح الإنسان أكثر إنسانية؟» هو أن الغرب لا يحق له أن يتصدر المكان الأول في العالم، على الصعيد الروحي والثقافي، بل عليه أن يقتنع بأن يلعب دوراً متواضعاً مقارنة بالحضارات الأخرى. ‏

ـ 6 ـ ‏ غارودي يفضح «الوهم الذي سيطر على قرن من الحلم الأميركي» الذي تحول إلى كابوس بسبب إصرار القادة الأميركان على السيطرة على العالم، كما يميط اللثام عن «فرط التسلح البربري» الذي يفرزه «رياء الليبرالية» الاقتصادية المفروضة على الشعوب، ويعري «التشويه اللاأخلاقي» الذي ينال «الدول المارقة» تحت شعار مكافحة الإرهاب، لتسويغ ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية. إن الحلم الأميركي هو «عملية سطو فاسقة» تدمر «إنسانية الإنسان» عن طريق التجويع والإذلال وتسليط المافيا على الثروات والكرامات والقيم المتوارثة. ‏

إن وسائل الإعلام الخاضعة للولايات المتحدة، من مرئية ومسموعة ومكتوبة هي «شعاع الموت الذي يدمر، على المستوى العالمي، الفكر النقدي، والثقافة، والإيمان، والأمل، والحب عند خمسة مليارات من البشر متوزعين على امتداد الكرة الأرضية. ‏

وإذن لا بد من وضع فلسفة السيطرة الغربية المتغطرسة على العالم موضع المساءلة، من أجل صياغة منظور جديد للإنسان، ووضع سمفونية جديدة مستمدة من حكمة الحضارات، ولابد من العمل على إخصاب التبادل بين الثقافات، والقضاء على العرقية الغربية المتأمركة. ‏

د. غسان رفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...