قصة جسرين بين الإسلام والمسيحية

20-01-2007

قصة جسرين بين الإسلام والمسيحية

في العالم الاسلامي، مشكلة تتعلق بصيغة العيش المشترك مع المسيحيين. وفي العالم الغربي مشكلة تتعلق بصيغة العيش المشترك مع المسلمين. المشكلتان تقومان على قاعدة واحدة هي سوء الفهم المتبادل لكل من المسيحية والاسلام. هناك كثير من الحوار وقليل من التفاهم، الأمر الذي يتطلب اعادة نظر في الأسس التي يقوم عليها الحوار وفي حقيقة الأهداف التي يسعى اليها.
يحتاج المسيحيون في العالم الاسلامي، من اندونيسيا في آسيا حتى نيجيريا في افريقيا، الى فهم اسلامي اعمق لمشاعرهم الدينية ولحقوقهم الوطنية. ان سوء الفهم أدى ويؤدي الى ضعف الثقة والى سوء المعاملة، وتالياً الى سوء العلاقات. لم تعد المسيحية كما كانت حتى القرن التاسع عشر دين الرجل الابيض، او دين الاغنياء من شعوب العالم. فقد انتشرت المسيحية على نطاق واسع في آسيا وافريقيا حيث الاسلام. فالأكثرية العددية من المسيحيين اليوم تعيش في العالم الثالث (اميركا الجنوبية – آسيا – افريقيا)، وفي هذا العالم الثالث مليار وثلاثمئة مليون مسلم.
من هنا الحاجة الى مزيد من التعارف والتفاهم بين المسلمين والمسيحيين لتجنب الاضطرابات التي تنشأ من جراء غياب التعارف والتفاهم على القواعد الايمانية الصحيحة والسليمة.
ونقول على القواعد الإيمانية، لأن العلاقات الاسلامية – المسيحية تقوم اساساً على هذه القواعد، وليس على مفهوم التسامح. فالتسامح فوقي. وهو يعكس حالة من التنازل الذاتي عن الحق إسترضاء للآخر او إحتواء له. ولكن لا تنازل في الدين، (سواء كان الدين هو الاسلام او المسيحية) عن اي من الثوابت الايمانية من اجل اي هدف، بما في ذلك محاولة الاسترضاء، او الاحتواء. فالاسلام يؤمن بالمسيحية رسالة من عند الله، ويؤمن بالسيد المسيح وبالمعجزات الخارقة التي قام بها. كما يؤمن بعذرية امه مريم التي فضّلها الله على نساء العالمين.
صحيح ان هناك اختلافا وتبايناً بين صورة المسيحية في الاسلام وصورة المسيحية لدى المؤمنين بها. ولكن الصحيح ايضاً ان هذه الاختلافات والتباينات لم تحلها لا العداوات والصراعات والحروب، ولا جلسات النقاش والجدال وحتى الحوارات اللاهوتية – الفقهية العقيمة.
من اجل ذلك، لا بد من اعتماد ثقافة قبول الاختلاف واحترام المختلَف معه،وترويج هذه الثقافة على ان يحكم الله بين المختلفين يوم القيامة. فالمهم هو ابراز الجوامع الايمانية المشتركة وفي مقدمها الايمان بالله الواحد، وباليوم الاخر، وبالثواب والعقاب، وبالقيم الاخلاقية التي يدعو اليها الدينان. واذا جرى ذلك على قاعدة ثقافة الاقرار بالاختلاف وبحق المختلفين في ان يختلفوا وان يرفعوا الحكم في اختلافاتهم الى الله وحده، يمكن عندذلك الاطمئنان الى امكان فك الارتباط بين الاختلاف والخلاف وجدوى هذا الامر تالياً، يمكن بناء علاقات اسلامية – مسيحية على قاعدة الاخوة في الايمان بالله الواحد، والاخوة في الايمان بالوطن الواحد. ولكن في غياب – أو تغييب – مثل هذه الثقافة، فان التداخل المجتمعي بين المسلمين والمسيحيين في شتى انحاء العالم يمكن ان يتحول حقل الغام من العداء الموقوت.
لقد عاش المسلمون والمسيحيون معا في العالم العربي قروناً طويلة. ولم يعكّر صفو عيشهم المشترك سوى التدخلات الخارجية، من حملات الفرنجة في العصور الوسطى، الى الحملات الاستعمارية في العصر الحديث. وكان المسلمون والمسيحيون العرب ضحايا تلك الحملات. وهم اليوم يدفعون معا ايضا ثمن زراعة اسرائيل في قلب العالم العربي وفي قلب المقدسات الاسلامية والمسيحية. من هنا يستطيع المسيحيون والمسلمون العرب ان يلعب كل منهم الدور المكمل للآخر. الجسر المسيحي العربي مع العالم الغربي والمسيحي، والجسر الاسلامي العربي مع العالم الاسلامي.
بالنسبة الى الجسر الاول، هناك حاجة اسلامية ملحة لتصحيح الصورة النمطية السلبية عن الاسلام في الثقافة والاعلام الغربيين. ويعاني المسلمون الذين تغرّبوا من التمييز الديني والعنصري في مجتمعاتهم الجديدة جراء هذه الصورة، وبخاصة بعد رواج فرية ربط الاسلام بالارهاب. فالاسلام يصور في الغرب على انه دين يرفض الآخر ولا يتعايش الا مع نفسه. وعلى أساس هذه الصورة المشوهة، يعزو الغرب تعثر محاولات تذويب المسلمين وفشلها في مجتمعاته.
يستطيع المسيحيون العرب ان يشكلوا جسراً معرفياً بين العالم العربي والغرب لتصحيح هذه الصورة. اولا باعتبارهم عربا عاشوا مع المسلمين العرب اجيالا وقرونا عديدة ولا يزالون يعيشون معهم. فهم من إتنية واحدة، بل ومن عائلات واحدة (كما هو الأمر في لبنان مثلا)، وثانياً باعتبارهم مسيحيين تربطهم بالمسيحيين الغربيين خاصة وبالغربيين عامة جذور ثقافية – دينية واحدة. ان قيامهم بدور الجسر لا يعني انهم عنصر مختلف او منفصل عن المسلمين العرب، فهم امتداد للعمق الذي هم منه، وهو منهم.
ولكن لا يستطيع المسيحيون العرب ان يؤدوا هذا الدور ما لم يكونوا متمتعين بحقوق المواطنة الكاملة. وهذا امر يفرض اعادة النظر في بعض الاجراءات او حتى في بعض القوانين المعتمدة في عدد من العربية والتي تنتقص من هذه الحقوق او تفرض قيوداً عليها. فالمسلمون في الغرب يطالبون بحقوقهم المكتسبة كمواطنين، ولكن هذه المطالبة تبقى مطعوناً فيها ما لم يتمتع المسيحيون العرب في اوطانهم بحقوقهم الكاملة. ثم انه اذا كان المسلمون المتغربون (المهاجرون الى الغرب) يشكلون اقليات في دول اوروبية مثل فرنسا والمانيا وايطاليا وبريطانيا وسواها، أو في دول اخرى مثل الولايات المتحدة وكندا واوستراليا...، فان المسيحيين العرب والمسيحيين المشرقيين هم جزء من الاكثرية العربية والمشرقية. وهم الذين ساهموا مع المسلمين – العرب وغير العرب – في انتاج الحضارة الاسلامية، وفي المحافظة على التراث الثقافي واللغوي العربي.
ان لهذا الجسر قاعدتين: قاعدة العروبة المتأصلة في المسيحيين العرب تاريخاً ومصيراً، وقاعدة المسيحية التي يؤمنون بها. فهم كعرب اصحاب قضية كالمسلمين العرب. وهم كمسيحيين اصحاب عقيدة كالغربيين (علماً بان الغرب ليس المسيحية).
اما بالنسبة الى الجسر الثاني، فان المسلمين العرب يستطيعون ان يشكلوا جسراً معرفيا مع العالم الاسلامي – غير العربي – حيث تعيش أقليات مسيحية متعددة يعاني بعضها سوء المعاملة المترتب عن سوء المعرفة. فهناك مشاكل خطرة من جراء سوء المعرفة تعاني منها مجتمعات متعددة من أواسط اندونيسيا الى جنوب السودان فالى شمال نيجيريا، مرورا بباكستان. من هذه المشاكل ما يتعلق بتطبيق الشريعة الاسلامية، علماً بأن الشريعة الاسلامية نفسها تنص على مبدأ عدم تطبيقها الا على المسلمين، وعلى من يختار ذلك ارادياً وبكل حرية من غير المسلمين. اما تطبيقها على المسيحيين بالفرض والقوة، فأمر تحرّمه الشريعة نفسها. وفرضها على غير أهلها انتهاك لها، وخروج عنها.
ومنها ما يتعلق بالذمية، وهو نظام انتهى العمل به بانتهاء الظروف والاوضاع التي أملته في حينه، وحل محله نظام المواطنة. وسوى ذلك من الاجراءات التي لم تكن في أساس العقيدة، بل كانت اجتهادات قضت بها ضرورات المرحلة التاريخية التي اعتمدت فيها. فالقاعدة الايمانية في الاسلام هي "لا إكراه في الدين"، بمعنى ان الايمان والإكراه لا يجتمعان، أي انه لا يكون ايمان بالإكراه.
ان تطبيع علاقات المسيحيين في اوطانهم الاصلية في الدول الاسلامية، وتطبيع علاقات المسلمين في اوطانهم الجديدة في الدول غير الاسلامية يتكاملان في الشكل والاساس. وهو تكامل يحتاج الى الجسرين معا: الجسر المسيحي العربي مع العالم الغربي. والجسر الاسلامي العربي مع العالم الاسلامي.
وهذه مسؤولية عربية (اسلامية ومسيحية مشتركة) يمكن اذا ما اعتمدت ونجحت، ان تعيد الى العالم العربي حضوره ودوره في حضارة انسان القرن الحادي والعشرين.

محمد السماك

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...