قفزة بومغارتنر رفعت جسد الإنسان فوق تحدي الصوت

23-10-2012

قفزة بومغارتنر رفعت جسد الإنسان فوق تحدي الصوت

«في الأعالي، حلّقت طائرة لترسم دائرة النصر، في ما تباهى طيّارها خلف قناعه، بسلاسة القيادة في هذه الآلة. وفي لمح البصر، مال بطائرته نزولاً. وأخذت سرعته تتزايد مسجّلة 450 ثم500 ثم 550 ميلاً في الساعة (885.1 كيلومتراً في الساعة). وتزايدت سرعته أكثر فأكثر. ثم شرعت طائرته في الاهتزاز. وبدت الأجنحة البيضوية التي حملته الى الأعالي وكأنها أخذة في التفكك. وبحركة غريزية، امتدت يده الى عصا القيادة. وجذبها الى الخلف كي يصحّح نزوله الحاد. لكن عبثاً. وكلما بذل جهداً أكبر في تصحيح وضع الطائرة، عاندته وغطست بأنفها نزولاً. وبيأس واختناق، دفع بكل قوته الى الخلف. وتغيّر مسار الطائرة. ولم تعد تهبط نزولاً. ولاحقاً، قال لزملائه أنه أحسّ بأنه اصطدم بطبقة كثيفة من الماء أو ما يشبه ذلك. وإذ استعاد الطيّار الشاب سيطرته على الطائرة، حلّق بها في خط مستقيم أفقياً. بعد هذا المشهد، يظهر على الصُوَر عبارة تحمل اسم الفيلم الذي ستبدأ حوادثه فوراً: «حاجز الصوت». وفي وقت لاحق، شرح مخرجه ديفيد لين أن المشاهد التي سبقت اسم الفيلم، قُصِدَ منها التمهيد والشرح، ذلك «أن أحداً ما كان ليفهم معنى حاجز الصوت». أنتج هذا الفيلم ألكسندر كوردا، وكتب السيناريو تيرانس راتيغان، وهو من رجال الجو المجرّبين.

وتمحور سيناريو فيلم «حاجز الصوت» Sound Barrier الذي كتبه راتيغان، حول شخصية جون ريدجفيلد، وهو صاحب شركة للطائرات عقد عزمه على صنع طائرة أسرع من الصوت، وقتِل ابنه الطيار في إحدى التجارب.

وتسأل أخته أبيها: «هل يستفيد الجنس البشري من وصول الطائرة إلى سرعة 2000 ميل في الساعة ( 3218.7 كيلومتراً في الساعة)؟»، وبهدوء يجيب ريدجفيلد إن في استطاعته الحديث عن «إمكان هزيمة قاذفة معادية، أو السفر الى نيويورك في ساعتين»، لكن الجواب البسيط هو أن الوصول الى هذه السرعة «أمر يجب إنجازه».

ويردّ أحد مسؤولي شركته على السؤال قائلاً: «طالما أن الناس يسعون للتنقّل من مكان إلى آخر، فسيسعون إلى إنجاز ذلك في أسرع وقت ممكن. يشكّل هذا الأمر أحد القوانين القليلة الثابتة في سلوك البشر» (إقتباس من كتاب «الطائرة»، تأليف ديفيد باسكوي- 2003).

 

الأسرع والأقوى والأعلى

بعد برهة من تألّق الجسد البشري في «أولمبياد لندن» وإظهار القدرة على دفع قدراته إلى الأمام دوماً في مواجهة تحديات وجوده، مثل الجاذبية وتكوينه عضلياً وعصبياً، دفعت الحضارة البشرية مركبة فضاء الى الحدود القصوى لوجود الكرة الأرضية، فخرجت «فوياجر» من النظام الشمسي الذي «يأسر» كوكب البشر. بين هاتين اللحظتين لحضارة البشر، حدث تألّق آخر لجسم الإنسان: اختراق حاجز الصوت بالسقوط من أعالي الفضاء الأرضي. في هذه الأمور الثلاثة جميعها، أدى العِلم مهمته الأصيلة والمتجددة باستمرار، هي تجاوز حدود الممكن الإنساني ودفعه إلى حدود جديدة، قبل أن يجري تحدي هذه الحدود مجدداً، وهكذا دواليك. في هذا المعنى، لا حدود للإنسان ولا قيد على الممكن البشري في الحضارة، وذلك بالتناقض مع المحدودية الضخمة للإنسان- الفرد التي يمكن تلمّسها بداية من محدودية قدراته المباشرة في الجسد والعقل، ووصولاً إلى محتّمات وجوده نفسه وهشاشته وقابليته الدائمة للفناء والتلاشي. على الحدود بين هذين التناقضين، يقف العِلم بوصفه أداة الإنسان-الحضارة، في تجاوز هذه القيود والمحدوديات جميعها.

من هذا المنظور، من المستطاع النظر الى القفزة الهائلة التي أدّاها النمسوي فيليكس بومغارتنز، بهدف اختراق حاجز الصوت بجسده مباشرة، عبر السقوط من أطراف الغلاف الجوي للأرض.

لندقق في هذه الأشياء الثلاثة كرّة اخرى. يجري الأولمبياد تحت شعاره الشهير «الأعلى، الأسرع، الأقوى». وتشير الصيغة المُطلقة لهذه الثلاثية الى التحديات الثابتة التي تواجه جسد البشر، منذ وجوده على الكوكب الأزرق. يتحدى الانسان إسار الجاذبية عبر شعار «الأعلى»، كما يكون الحال في مسابقات القفز العالي والوثب بالزانة. ولا تزال أرقام هاتين المسابقتين تتحطم في الدورات الأولمبية المتتالية. غني عن القول أن هذا الأمر بات رهناً بالعلوم التي ترتكز إليها الرياضة الحديثة. ثمة تحدٍّ أصيل في شعار «الأسرع»، لأن جسد الإنسان يتحرك بفضل التآزر بين جهازيه العضلي والعصبي. لنترك جانباً البعد النفسي مع أنه أساسي. على رغم الدور الذي تؤديه المعطيات الثابتة لهذا الجسد، مثل التركيب الجيني مثلاً، إلا أن تتبع مسابقة المئة متر، التي تعتبر الذروة في التحدي الرياضي في ألعاب القوى، يظهر أن الفوز بهذه المسابقة رهن باتباع معطيات العلم في الرياضة، خصوصاً عند دفع العضلات الى أقصى قوتها في الاندفاع واللياقة المكثّفة ضمن زمن قصير تماماً. لا يقتصر الأمر على القوة واللياقة والتكامل، بل تضاف إليها عناصر مثل الحرارة الداخلية للجسد والتسارع الرهيب في الحاجة الى الأوكسيجين، ما يضع تحدياً ضخماً على إداء الجهاز التنفسي. ثمة تحد بيولوجي ضخم، ما فتئ البشر يدفعون حدوده الى الأمام في مسابقات السرعة.

 

عن تحدي الشمس

ما هي قدرة الإنسان في القوة، على رغم تدني قوته البيولوجية الطبيعية أمام قوى المخلوقات الاخرى؟ بفضل التقدّم في دراسة التركيب التشريحي- الوظيفي للهيكل العظمي والعضلات والأعصاب، أمكن دوماً زيادة القوة القصوى للجسد البشري، كما يشهد عليه التصاعد المتواصل في رفع الأثقال، سواء بالأرقام المطلقة (مثل حال مسابقات ربّاعي الأوزان الثقيلة) أو بالنسبة بين الوزن المرفوع ووزن الربّاع نفسه، كما يظهر في مسابقات أوزان الريشة مثلاً. أين هي الحدود القصوى؟ لا أحد يعلم يقيناً، لأن ما يستخدمه الإنسان من علوم في تطوير قوة العضلات لم يستنفد، ليس بعد. مثلاً، ماذا لو دخلت الجينات والتحكّم في تركيبتها مضمار إعداد الجسد الأولمبي في رفع الأثقال؟ ماذا لو استطاع العلم أن يجعل قوة العضلات المستخدمة في رفع الأثقال، بمثل قوة عضلة القلب، التي تؤدي عملاً خارقاً و «ترفع» في يوم أوزاناً يفوق مجموعها ما يرفعه أقوى الربّاعين؟ ثمة أشياء كثيرة كي تقال في هذا المجال، لكن الصورة العامة هي أن الجسد الأولمبي للبشر مستمر في توسيع الحدود القصوى لأدائه، ودوماً بالاستناد الى العلوم وتقدّمها.

في الفضاء، تكون الصورة أشد وضوحاً. لا شيء يقيد البشر ويمسك بهم مثل الجاذبية. يقع كوكب البشر بأكمله ضمن السيطرة القوية للشمس. توصف الأرض بأنها كوكب سيّار، بمعنى أنها تدور حول الشمس، وهي النجم المركزي لمجموعة الكواكب المنتظمة في الدوران حولها.

تمتد خيوط جاذبية الشمس الى أبعد كثيراً من حدود الكواكب السيّارة المعروفة. قبل العلم التحدي. سارت «فوياجر» سنوات، وقطعت مئات ملايين الكيلومترات. ونجحت أخيراً في التخلّص من قيد جاذبية الشمس، وهو ما لم يفعله البشر (لا بأنفسهم ولا بما اخترعوه من أجهزة وأدوات)، تمهيداً للانطلاق الى الفضاء الكوني الفسيح. للمرة الأولى، استطاعت أداة صنعها بشر الخروج من سيطرة جاذبية الشمس، ما يفتح مجالاً أمام الانطلاق صوب نجوم أخرى، بل ربما التجوال في المجرة. لا تقلّ قفزة بومغارتنر عن هذه الأشياء الثلاثة. منذ القرن العشرين، استطاع البشر تخطي حاجز الصوت، بالطائرة والصاروخ، بل حتى السيّارة. وحملت هذه المركبات الطائرة جسد الإنسان الى سرعات تفوق الصوت كثيراً. وارتسم سؤال عن قدرة الإنسان نفسه على عبور حاجز الصوت، بجسده بالذات. برهنت قفزة بومغارتنر في اتجاه الأرض، أن هذا الأمر ممكن. يفتح الأمر الباب واسعاً أمام استعمال هذه الميزة في تنقل البشر ومواصلاتهم، على رغم أنه أمر ما زال في بداياته الأولى.

قدم بومغارتنر برهاناً على أن جسد الإنسان يستطيع تحمّل السير بسرعة تفوق الصوت، بصورة مباشرة، حتى لو لم يكن محمولاً في طائرة. من الصعب التكهن بالآفاق التي يحملها هذا البرهان القوي، لكن يمكن القول إن هناك باباً جديداً فُتِح أمام جسد الإنسان. ما هي الخطوة التالية؟ لننتظر ولنر.

 

أرقام في قفزة

حُمِل المغامر النمسوي فيليكس بومغارتنر (43 سنة) على منطاد خفيف رفع كبسولة صُنِع هيكلها من الكروم الخفيف. استغرقت رحلة الكبسولة 3 ساعات، وانتفخ قطر البالون في الهواء الخفيف في أعالي الغلاف الجوي، فوصل حجمه إلى ما يزيد على 80 ألف متر مكعب، وبلغ قطر البالون 129 متراً، وطوله 102 متر، عند نقطة القفز، فيما تدنت سماكته إلى أقل من ثخانة كيس بلاستك عادي!

> استطاع بومغارتنر أن يصل إلى سرعة 729 ميلاً في الساعة (1173.21 كيلومتراً)، مع العلم أن سرعة الصوت هي 1225.044 كيلومتراً في الساعة.

> عند نقطة القفز، كانت درجة حرارة الهواء متدنية إلى حدود التجمّد، وبلغت 70 درجة فهرنهايت تحت الصفر، ما يوازي 56.67 درجة مئوية تحت الصفر.

> صمّمت مظلة القفز لتفتح تلقائياً، في حال فقدان بومغارتنر الوعي أو القدرة على تحريك يديه، كما وضعت على رأسه خوذة واقية زُوّدت بنظام تسخين، بهدف عدم حجب الرؤية عنه عند بدء سقوطه من منطقة متجمّدة.

> رعت شركة «ريد بول» للمشروبات المثلّجة قفزة بومغارتنر التاريخية، وتولت صنع البدلة الخارجية التي حمت جسده من الحرارة المتدنية، والخوذة التي حمت رأسه والمعدات الأخرى التي ساعدته على إنجاز مغامرته السريعة. وتدرب بومغارتنر على قفزته لمدة 5 سنوات.

> الرقم القياسي السابق لقفزة مماثلة سُجّل باسم العقيد جو كيترنغ الذي قفز عام 1960 من ارتفاع يقارب 103 آلاف قدم (31.34 ألف متر). وحينها، جاءت تلك القفزة ضمن سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وسبقت مباشرة إرسال أول أميركي إلى الفضاء الكوني. شارك كيترنغ في الفريق الذي ساعد بومغارتنر.

> قفز بومغارتنر من ارتفاع 120 ألف قدم أو ما يعادل 36,576 متراً، وهو أقصى ارتفاع لقفزة حرّة للبشر. كان الرقم السابق للسقوط الحرّ هو 31.33 ألف متر. يشار إلى أن أقصى ارتفاع وصلته طائرة نفّاثة هو 25.9 كيلومتر. وتحلّق الطائرات التجارية على ارتفاع لا يزيد عن 12 ألف متر، فيما لا يزيد ارتفاع قمة جبل افرست عن 8.848 ألف متر.

> على رغم أن بومغارتنر حقق إنجازات متنوّعة في قفزة مفردة، إلا أنه فتح مظلّته في وقت مُبكِر نوعاً ما، ففشل في تحطيم الرقم القياسي لأطول قفزة حرّة.

أحمد مغربي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...