كركوك: لا أحد يريد الحرب والكل يستعد لها

17-03-2007

كركوك: لا أحد يريد الحرب والكل يستعد لها

فيما العالم يركز اهتمامه على بغداد التي تحولت مسرحاً لاعمال عنف متنقل يحصد يومياً عشرات القتلى والجرحى، يخشى ان تكون سلسلة التفجيرات التي تشهدها كركوك بداية لحرب دموية ثانية في العراق، طرفاها هناك الاكراد والعرب الذين يتنازعون على اراض تختزن واحداً من أكبر احتياطات النفط في العالم، وثاني أكبر حقول النفط في العراق.
وكما هي حال العاصمة العراقية التي تغذي صراعاتها حسابات مذهبية وأطماع اقليمية ومصالح دولية، يمكن ان يثير العنف المتزايد في كركوك قتالاً بين الجماعات الكردية والعربية المسلحة، وهو ما قد يتحول نزاعاً واسعاً تتدخل فيه تركيا او ايران. ومن شأن احتمال كهذا ان يقحم واشنطن في ورطة جديدة في هذا البلد، اذ ستجد نفسها بين حليفين، تركيا التي تدعم التركمان والعرب، والاكراد.
وبعدما ظلت كركوك هادئة نسبياً في السنتين الأوليين عقب سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، مخالفة توقعات المراقبين الذين قالوا ان الحرب الاهلية ستبدأ هناك، تشهد كركوك منذ فترة زيادة مطردة في أعمال العنف تتزامن مع توترات سياسية. وأحصت القوات الاميركية 20 تفجيراً انتحارياً و63 هجوماً بالقنابل في المدينة في تشرين الثاني وكانون الأول 2006 وكانون الثاني 2007. كذلك تعرضت مراكز الشرطة، الى سياسيين، لاعتداءات واغتيل مسؤولون محليون.
من الواضح ان كركوك دخلت دائرة الازمة مع بدء العد العكسي لتحديد مصير المدينة وفقاً للمادة 140 من الدستور العراقي التي تنص على "تطبيع الأوضاع واجراء احصاء سكاني واستفتاء في كركوك وأراض اخرى متنازع عليها لتحديد ما يريده سكانها وذلك قبل 31 كانون الأول 2007". وفيما يريد العرب والتركمان ارجاء التصويت خوفاً من السيطرة الكردية ومزيد من اعمال العنف، يصر الاكراد على المضي فيه بحجة ان المسألة تتعلق بتاريخهم وليس بـ"الذهب الأسود" الذي يختزنه باطن المدينة. وهم يعتبرون ان هذه السنة تمثل فرصة تاريخية لن يتخلوا عنها.
ويتمحور النزاع على ما اذا كانت هذه المدينة (710 آلاف نسمة بحسب احصاء 2005) المتعددة العرق تاريخياً والتي يسكنها الاكراد والتركمان والاشوريون والكلدان والعرب والارمن، يجب ان تصير جزءاً من المنطقة الكردية في شمال شرق العراق التي تتمتع بحكم ذاتي، أم تبقى كما هي جزءاً من العراق. وترك حسم هذه المسألة للاستفتاء الذي لم يحدد تاريخه بعد.
ويشبّه كثيرون كركوك بعراق مصغر، فالى التكوينات العرقية التي تحتضنها، تضم أيضاً افراداً من الصابئة المندائيين وأتباع الديانة الايزيدية. وينقسم العرب والتركمان والاكراد عرضياً بين سنة وشيعة، وينقسم السنة بين تيارات ومذاهب والشيعة ايضاً.

من الناحية الرمزية، تكتسب كركوك بالنسبة الى الاكراد مثل الاهمية تقريباً التي تمثلها القدس للفلسطينيين. وبعد عقود من النضال قد يكون ضرباً من الانتحار ان يعلن زعيم كردي لشعبه ان كركوك لن تكون كردية.
سياسياً، يعتبر المسؤولون الاكراد المدينة عنصراً أساسياً في هيكلية كردستان الفيديرالية، وهي تتصدر قلب الدستور الكردي لشمال العراق الذي تنص مادته السابعة على تحويل هذه المدينة عاصمة لكردستان. فبحصره ثلاث محافظات هي دهوك واربيل والسليمانية، تحرم كردستان توفير آفاق مستقبلية لسكانها البالغ عددهم 3,7 ملايين نسمة. أما كركوك بنفطها وأراضيها الخصبة فستحول كردستان دولة حقيقية تتمتع بموارد كبيرة ويمكنها التطلع الى الازدهار في اطار فيديرالية عراقية.
من الواضح ان البعد الاقتصادي لهذه المدينة هو الاكثر جذباً. فبعد اكثر من 60 سنة من بدء استثمار نفطها (1934)، لا تزال حقول كركوك تضم احتياطاً من أكثر من عشرة مليارات برميل من النفط، وهي تنتج حاليا ما يقارب 900 الف برميل يوميا أي ما يعادل نصف الصادرات العراقية تقريبا. فمع كركوك في الاقليم الكردي، لن يعود الاكراد مدينين اقتصاديا لبقية العراق، ومن دونه لن تكون كردستان دولة قابلة للحياة.
لكن وضع هذه المدينة له ايضا تداعيات جيواستراتيجية في ظل مخاوف تركيا تحديدا وايران من "وضع الاكراد يدهم" على هذه المدينة الغنية، الامر الذي يمكّنهم من تمويل الاكراد في كل من البلدين وتأجيج النزعة الانفصالية لديهم. وقد دفعت كل من طهران وانقرة بمزيد من القوات الى حدودها المشتركة مع العراق هذه السنة. كذلك سجلت مواجهات بين المتمردين الاكراد وقوى الامن الايرانية.

ويصر التركمان في كركوك وعموم العراق من جهتهم على ان هذه المدينة هي موطنهم المشهود. وتحاول أنقرة التي ترى ان البساط سحب من تحتها بعد دخول الاكراد كركوك غداة الغزو الاميركي للعراق وانشاء الاميركيين مجلسا محليا يتمثل فيه الاكراد بقوة، لعب الورقة التركمانية والتذكير بموقع هذه المدينة وأهميتها التاريخية والقومية عند الاتراك.
فمنذ رفض مجلس النواب التركي السماح للقوات الاميركية في آذار 2003 بفتح جبهة شمالية انطلاقا من الاراضي التركية، قدّر الاميركيون "الورقة الكردية" التي مكنتهم من السيطرة على كل شمال العراق من دون سقوط ضحايا كثيرة لهم، وتراجع على نحو كبير هامش المناورة بالنسبة الى تركيا التي تحاول استعادة المبادرة وتنظيم المؤتمرات الخاصة بوضع المدينة للتحذير من اعتماد أية سياسة تتعارض ومصالحها. ولئن كان يستبعد ان تسمح واشنطن بدخول قوات تركية شمال العراق، ثمة متشددون أتراك يطالبون بتدخل عسكري فوري في المنطقة.

أما العرب الذين تكاثروا في المدينة في اطار سياسة التعريب التي انتهجها النظام السابق ونقل بموجبها عشائر من العرب الشيعة في الفرات الاوسط والجنوب الى هناك لتغيير الموازين الاتنية لمصلحة العرب وضمان السيطرة على حقول النفط، فهم بدورهم يلوحون باللجوء الى القوة للدفاع عن "وجودهم التاريخي" في كركوك. وبدأت جماعات مثل "أنصار الاسلام" و"أنصار السنة" تتبنى هجمات في المدينة، في محاولة لتأجيج النزاعات الداخلية. ولا يبدو ان أنصار النظام السابق قد أسقطوا المدينة من حساباتهم ايضا.
وأظهر الاحصاء الاتني الاخير الموثوق به الذي أجري في العراق عام 1957 قبل تطبيق صدام سياسة التعريب، أن التركمان يمثلون 40 في المئة من السكان والاكراد 35 في المئة والعرب 24 في المئة والمسيحيين 1 في المئة. أما في المناطق المجاورة، فكان الاكراد يشكلون الغالبية مع 55 في المئة من السكان. غير ان هذه الموازين تبدلت كثيرا مذذاك. ومع بدء تطبيق اجراءات لاعادة الوافدين في اطار جعل الاوضاع طبيعية تمهيدا لاجراء احصاء سكاني واستفتاء، تهدد تصفية الحسابات بين الاكراد والعرب خصوصا باشعال الخصومات في المدينة حيث كل شيء يتنافس لايجاد وضع متفجر.

يقر خبراء أميركيون بأن الاستفتاء ينطوي على أخطار كبيرة. وذهب تقرير مجموعة الدراسات للعراق برئاسة وزير الخارجية الاميركي سابقا جيمس بايكر والسناتور الديموقراطي سابقا لي هاميلتون الى القول انه "نظرا الى الوضع الخطير في كركوك... فان استفتاء على مستقبل المدينة سيكون متفجرا ويجب ارجاؤه". كذلك أوصى "معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى" و"مجموعة الازمات الدولية" بارجاء الاستفتاء. لكن الادارة الاميركية لم تؤيد حتى الآن ارجاء الاستفتاء او الغاءه.
تصر الجماعات المتنافسة في كركوك على أنها لا تريد حربا، وإن تكن تقر بأنها مستعدة لها. لكن الجبهات الاتنية التي تتحصن في المدينة حوّلتها قنبلة موقوتة قد تفجر في أي وقت نزاعا بين الاكراد والعرب وتجر اليه دولا مجاورة.

موناليزا فريحة

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...