كوسوفو: دولة مسلمة في قارة مسيحية

23-09-2006

كوسوفو: دولة مسلمة في قارة مسيحية

تشكل كوسوفو، إذا احتسبت نسبة المسلمين في مجموع سكانها، الدولة المسلمة الاولى في البلقان واوروبا، وباستثناء اقل من مئة ألف صربي مسيحي، ينتمي باقي السكان الى الطائفة المسلمة (9597 في المئة)، بأكثرية البانية ساحقة (98 في المئة) مع عشرة آلاف تركي وبضعة آلاف من البوشناق والغجر.
ولدى اعلان استقلال كوسوفو، ستكون اوروبا امام واقع جديد لم تكن متحمسة له، وقد تقدمت الولايات المتحدة لخلق واقع جديد يتلمسه زائر كوسوفو، ولعل من اسباب تأخر اعلان الاستقلال ان الاوروبيين يريدون ربطه بأمور كثيرة.
يتحرك الصرب بقوة لدى الادارة الاميركية. فالرئيس جورج بوش، في منطق الكنيسة الصربية، لا يمكن ان يشن حربه على الارهاب الاسلامي في افغانستان والعراق، فيما هو يقف وراء انشاء بؤرة إسلامية لن يتأخر البن لاديون في استخدامها لاحقا قاعدة في قلب اوروبا.
قد يكون الخوف من المد الاسلامي في كوسوفا مبالغا فيه، فالمجتمع الذي عاش علمانيا على امتداد الحكم الصربي الشيوعي، يحتاج لامتلاك وعي اسلامي جديد الى فترة طويلة، خصوصا ان معظم القيمين على الحالة الاسلامية يشددون على اوروبية إسلامهم. فالكوسوفيون، كجزء من الأمة الالبانية ، هم المسلمون الاصليون الوحيدون في اوروبا. لذا فإن هويتهم الاوروبية لا تغيب عن تصورهم لمستقبل بلادهم.
يبدو العدو الصربي حاضرا في كل ادبيات الكوسوفيين. وكان دخول السجن ايام الحكم الصربي شهادة كبرى على النضال، فيما تدمير الصرب لعشرات الجوامع والمدارس الدينية والاثار العثمانية دليل على تجذر الكراهية وقد سارعت بلغراد الى بناء كنيسة صغيرة داخل جامعة بريشتينا قبل رحيلها النهائي عن كوسوفا، لكي تزرع أثراً لا يمكن محوه من دون تحميل إزالته ابعادا دينية.
كوسوفو الصغيرة، بمساحة لبنان واقل من عدد سكانه بمليون، هي بلاد المساجد. اكثر من 700 مسجد، بينها اربعون مدمرا او مهجورا وستون قيد الانشاء. وفي بريشتينا الصغيرة (نصف مليون نسمة) وضواحيها، واحد وستون مسجداً، احدها هو اقدم مسجد في البلقان كله، بدء ببنائه بعد موقعة كوسوفو (قوصوه) في العام ,1389 وانتهى العمل فيه بعد عشرين عاما: انه مسجد تشارشيا ، او السلطان مراد الذي استشهد في تلك الموقعة.
ليس في كوسوفو دولة معترف بها على الصعيد الدولي. وما تتخذه الدولة الحالية من قرارات وقوانين يحتاج الى موافقة ادارة الامم المتحدة في كوسوفا، لذا فإن النشاط الاسلامي لا يتصف بصفة رسمية، بل ترعاه مؤسسات خاصة مستقلة مثل مشيخة الاسلام والاتحاد الاسلامي في كوسوفو، حيث تتبع لهما مجموعة من المدارس الدينية وبيوت الطلبة، وتشرف المشيخة على جميع الجوامع، وهي التي تتولى اعداد الائمة وتعيينهم (ويقارب عددهم ال650 إماما).
وبحسب الشيخ صبري بايغورا رئيس ائمة كوسوفا، فإن هؤلاء يدرسون في مدرسة علاء الدين الثانوية، اقدم واشهر مدرسة دينية، لمدة ثلاث سنوات تعادل المرحلة الثانوية. ومن ثم يدخل الطالب كلية الدراسات الاسلامية لينهي فيها الاجازة الجامعة لمدة اربع سنوات. ويتابع الكثير من الطلبة دراساتهم الجامعية والعليا في مصر والاردن والسعودية وتركيا وماليزيا، ويعودون ليدرسوا في كلية الدراسات الاسلامية او ليصبحوا ائمة.
يقول الشيخ الدكتور رجب بويا، عميد كلية الدراسات الاسلامية في بريشتينا، ان لاتحاد الاسلامي في كوسوفو الذي أسس الكلية في العام 1992 بهدف اعداد الكوادر ونظامها بالانتساب، ويقارب عدد طلابها الستمئة بين ذكور وإناث يتجاورون في غرفة الدراسة من دون فصل، فيما المدرّسون يناهزون العشرين. يضيف الشيخ بويا إن اكثر ما يحتاجه الطلاب هو تمتين لغتهم العربية، لذا يوجه دعوة الى العرب للمساعدة في هذا المجال. اما عن اعادة تشكيل الوعي الاسلامي للسكان بعد سنوات الشيوعية والصربية، فيقول ان ذلك يتم بهدوء وصمت بدون ضجة. ولكوسوفو وضع خاص وصعب كونها دولة مسلمة، بكل سكانها. ويقول ان التركيز الان على عودة الشباب المهاجرين الى الوطن وعودة الشباب المقيمين الى دينهم. وقد عادت مثلا التحية الاسلامية الى الانتشار (السلام عليكم) بدلا من العبارات الاجنبية. وكان وجود جنود او شرطة عرب مسلمين وسط للشرطة الامم المتحدة، التي تساعد شرطة كوسوفا، مشجعا لرفع معنويات المسلمين، وغالبية هؤلاء من الاردن ومصر والمغرب.
من جهته، يتميز مفتي كوسوفو الشيخ نعيم ترنافا، وهو رئيس المشيخة الاسلامية والموقع الديني الاول في البلاد، بخطاب معتدل على تصميم، ومدرك تماما للحساسيات داخل الاسلام وداخل اوروبا.
يقول ترنافا ان في كوسوفا 29 مركزا إسلامياً وخمس مدارس دينية، وهدف المشيخة الابرز هو تعزيز الحضور الاسلامي في الدولة والمجتمع. لذا فهم يطالبون بادخال الدين مادة للتدريس في المدارس، وانشاء وزارة خاصة بالشؤون الدينية. كما يسعون لنيل ترخيص لمحطة تلفزيونية دينية. ويشكو المفتي ترنافا بمرارة من عدم اهتمام الدول العربية والمسلمة بكوسوفا، حيث ان لتركيا وماليزيا والبانيا فقط ممثليات في بريشتينا وليس من ممثلية لاي دولة عربية. ولدى سؤالنا عن السبب، بدا كما لو ان في فمه ماء . واكتفى بإرجاع ذلك الى عدم وجود استراتيجية بعيدة المنظور لدى العرب والمسلمين تجاه اكبر تجمع إسلامي في اوروبا.
ويقول مفتي كوسوفو: لقد عشنا 600 عام من دون دعم، وسنستمر حتى من دون دعم لاننا نحب الاسلام. بل سنتحرك من اجل الاسلام في البلقان واوروبا . ويشدد على استقلالية مشيخة كوسوفو تجاه الدولة وتجاه الخارج وبأنه لن يسمح لاحد التدخل في شؤونها. وترتفع نبرة المرارة عند قوله ان الايطاليين هم الذين رمموا، وبصورة رائعة، مسجداً اثرياً في مدينة بسيا قبل ثلاث سنوات، فيما الاخرون غائبون. والمشيخة مستعدة للتعاون مع الجميع من اجل الحفاظ على التراث الاسلامي في كوسوفو. وعمل الايطاليين تم في الاساس وفقا لاتفاقية مع المشيخة. ولعل اللافت كذلك في كلام الشيخ ترنافا انه لا تزال توجد في الكتب المدرسية الكوسوفية مواد معادية للاسلام منذ فترة الحكم الشيوعي والصربي، وهو الامر الذي لا تزال المشيخة غافلة عن تصحيحه حتى الآن.
إذا قيس الاحياء الاسلامي بمظاهر الحياة الاجتماعية، فإن زائر كوسوفو لن يلحظ هذا الاحياء. فارتداء الحجاب لا زال قليلا جدا، فيما الغالبية الساحقة من الفتيات ترتدين ثيابا عصرية جدال لا يميزهن شيء عن اولئك في باريس او روما او موسكو. كما ان بريشتينا، مدينة المقاهي الرصيفية بامتياز، تمتلئ بكل انواع المشروبات الكحولية والمرابع الليلية. اما الصحف اليومية والمجلات الاسبوعية فتفرد حيزا لا بأس به لصور النساء شبه العاريات، في مخطط مدروس لمنع انتشار الثقافة الاسلامية، وفقا لمسؤول في المشيخة الاسلامية.
ويتحدث معظم من التقيناهم عن وجود نشاط تبشيري بروتستانتي على شكل مساعدات إنسانية ومنح مدرسية وجامعية. ومع ذلك فإن هذا النشاط لا يحرز اي تقدم فعلي. غير ان كوسوفو المسلمة وبريشتينا حيث لا وجود لاي عنصر محلي مسيحي، تشهد العديد من المؤتمرات حول المسيحية ودورها، كما لا وجود لاي مادة دينية إسلامية في الاذاعات والتلفزيونات والصحف. بل ان الدولة لم توافق بعد على منح المشيخة ترخيصا لاذاعة خاصة بها. ويعيد البعض ما يوصف بمحاولة عرقلة جهود نشر الوعي الديني، الى الدور الاوروبي، وكذلك الى تواجد جنود وشرطة وممثلين من اكثر من ستين دولة، معظمها غير إسلامية، في كوسوفا. لذا يكرر القيمون على الحالة الدينية في كوسوفا نداءاتهم الى الدول الاسلامية للمساعدة ومدّ يد العون، وهم يخصون دولة الامارات بشكر مميّز من دون نسيان دول اخرى مثل السعودية، وان بنسبة اقل. بل ان المفتي ترنافا يولي اهمية لمواكبة الانسان منذ طفولته داعيا الدولة الاسلامية الى بناء ثلاثين حضانة للاطفال، مشيرا الى دور مصر في بناء حضانة كبيرة مهمة جدا في هذا الاطار.
بين محاولات استعادة هويتها الدينية وبين عدم تحولها الى قاعدة للصراع بين الاديان في اوروبا، ستبقى كوسوفو لفترة طويلة ساحة للتجاذب الديني والدولي، تماما مثل لبنان. ولعل هذا قدر الدول الصغيرة .

محمد نور الدين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...