محاصرة الإسلاموية

10-12-2006

محاصرة الإسلاموية

لا مكان في الرؤية الاستراتيجية الأميركية لإرهاب خارج الارتباط العضوي بالإسلاموية. والولايات المتحدة لا تعتبر أنها تحارب الإرهاب في المطلق وانما تحارب الإرهاب الإسلامي تحديداً. فلا معنى من وجهة نظرها لمفهوم «إرهاب الدولة» إلا إذا كانت الدولة المعنية ذات طبيعة إسلاموية. ولهذا السبب لا تمثل قضية كوريا الشمالية ولا قضايا الحركات الماوية العنيفة في بعض بلدان آسيا وأميركا الجنوبية قضايا إرهاب، بل هي من وجهة نظر الاستراتيجية الأميركية من مخلفات ورواسب سنوات الحرب الباردة، وستسير نحو الانهيار بعد أن انهارت مجمل المنظومة الشيوعية. أما الارهاب الاسلاموي فهو العدو الجديد الذي تتخذ له العدة ويحسب له ألف حساب.

وهذه الرؤية للإرهاب الذي أخذ مكان الشيوعية في خانة العداوة القصوى له فوائد جمة على الجهات الاميركية النافذة، أهمها أنه منع تراجع نفقات التسلح. فقد كان التراجع مآلها الطبيعي بعد نهاية الحرب الباردة وانتصار الكتلة الغربية. لكن المناقشات حول الموضوع قد توقفت مع تفجيرات أيلول (سبتمبر) 2001 وأصبح اتجاه النفقات يسير عكسياً نحو الزيادة الى أن تجاوزت نفقات التسلح هذه السنة ضعف ما كانت عليه قبل تلك التفجيرات. وعلى عكس اقتصاديات البلدان النامية التي تسحقها نفقات التسلح، فإن الاقتصاد الأميركي يتميز بالاستفادة والانتعاش منها. ولا شك أنها بعض أسباب نموه الحالي على رغم الصعوبات الجمة التي تتخبط فيها السياسة الخارجية الأميركية. ومن أهم الفوائد أيضاً أن الولايات المتحدة الاميركية قد بسطت سيطرتها المطلقة على أسواق الطاقة العالمية: فارتفاع أسعار الطاقة، وقد أصبح وضعاً هيكلياً لا عرضياً، فتح هذه السوق لمصادر جديدة للانتاج لم تكن مربحة لو استمرت الأسعار على حالتها القديمة، وتنوع المصادر يمنع نهائياً أن تتحول الطاقة الى سلاح سياسي.

والى جانب الفوائد الاقتصادية التي يمثل التسلح والطاقة أبرزها، وان لم يكونا إلا بعضاً منها، هناك ايضاً فوائد من نوع آخر وهي الفوائد الايديولوجية. لم تكن الولايات المتحدة قط قوة دون ايديولوجيا، لكن تفجيرات 2001 فسحت المجال لأكبر عملية استحواذ ايديولوجي على الإدارة والقرار الأميركيين، وهي عملية قادها ثالوث المحافظين الجدد والأصولية البروتستانتية والمسيحية الصهيونية. والمرجح أن هذه القيادة الايديولوجية لن تكون أكثر من فترة ماكارثية ثانية ستنقشع قريباً على أميركا وعلى العالم. لكن ذلك لن يعني ان الادارات الأميركية القادمة سوف تغير من الضوابط الاستراتيجية الحالية في تعاملها مع قضية الإرهاب، وإن كان المؤمل أن تغيّر برامجها السياسية التي انتهت مع الادارة الحالية الى فشل ذريع بسبب العناد الايديولوجي للوقائع الميدانية.

فإذا كان المحافظون الجدد قد ابتدعوا فكرة تحويل العدو من الشيوعية الى الإرهاب الإسلاموي فإن حالة الجزع التي انتابت الأميركيين عموماً بعد تفجيرات 9/2001 جعلتهم لا يتصورون الوضع العالمي إلا من خلال ما يبدو لهم مرتبطاً بأمنهم وأمن أبنائهم. ومن هنا كان ارتباط الإرهاب بالإسلاموية معطى واسع الانتشار في دوائر القرار ولدى الرأي العام ولا يقتصر على تيار المحافظين الجدد. وثمة وثيقة مهمة تؤكد هذا الاتجاه قد أصدرتها سنة 2004 اللجنة المستقلة للتحقيق في تفجيرات 2001. كانت هذه اللجنة قد تشكلت بضغط من عائلات ضحايا التفجيرات وهي لجنة مستقلة تضم شخصيات من الديموقراطيين والجمهوريين موزعين بالتساوي، وقد أتيح لها ان تطلع على الوثائق السرية لوزارة الدفاع الأميركية واستجوبت أكبر الشخصيات ومنها الرئيس السابق بيل كلينتون ونائبه آل غور وريتشارد كليرك الذي كان مسؤولاً عن مكافحة الإرهاب عشية التفجيرات، اضافة الى كبار المسؤولين الحاليين وعلى رأسهم الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني وكوندوليزا رايس ودونالد رامسفيلد المستقيل مؤخراً. وكان من التوصيات الواردة في التقرير الذي أعدته اللجنة بعد سنتين من التحقيق أن الحديث عن إرهاب في المطلق هو أمر مضلل وأنه لا يوجد إلا إرهاب واحد هو الإرهاب الإسلاموي. وقد أطلقت ادارة الأميركية بعد هذا التقرير الذي يعبّر عن شبه إجماع سياسي اميركي دراسة ضخمة هدفها سبر عالمي لكل الحركات الاسلاموية وتصنيفها بين أصولية (وهي كلمة لا تعني العنف من منظور التراث البروتستانتي السائد في الولايات المتحدة) وإسلاموية (قابلة للتحول الى الإرهاب) وإرهابية (في صدد ممارسة الإرهاب). كما قسّمت الدول الاسلامية الى دول مساندة للإرهاب ودول محاربة للإرهاب ودول مهددة بالإرهاب.

سيكون من المستبعد أن تراهن أية ادارة اميركية قادمة على حركات اسلاموية لسد الطريق أمام حركات أخرى أو زعزعة أنظمة قائمة، وإذا دفعت باتجاه التعامل مع بعض الحركات الدينية المسيّسة فسيكون ذلك بنيّة دفعها للعمل على الأرض وجعلها أكثر قابلية للمراقبة، ولن يتجاوز الأمر هذا المستوى.

لكن السؤال الآن هو التالي: إذا كان الرأي العام الأميركي لا يتصور أمنه وأمن أبنائه مستقلاً عن قضية محاصرة الإسلاموية ومقاومة الإرهاب، فكيف ينظر باقي العالم، ومنه العالم الإسلامي، الى الإسلاموية وعلاقتها بالإرهاب؟

محمد الحداد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...