مشيخة العقل: حتمية الأحادية

08-11-2006

مشيخة العقل: حتمية الأحادية

مشيخة العقل هي الاسم الحالي لرئاسة الموحدين الدروز الدينية العليا، وهي وريثة الإمام الذي قام بالدعوة الى مذهب التوحيد (مسلك التوحيد). وهذه الرئاسة ثلاثية في سوريا متوارثة في ثلاث عائلات نشأت فيها، وكانت في الأصل أربع رئاسات في أربع عائلات، وأحادية في فلسطين متوارثة في عائلة واحدة، وقد أخذت الطابع الرسمي في عام 1957 بعد قيام الكيان الاسرائيلي الغاصب، واستحالة تواصل دروز الاراضي الفلسطينية المحتلة مع اخوانهم في لبنان وسوريا. أما في لبنان، فكانت منذ الربع الاول من القرن التاسع عشر ثنائية، وأحياناً ثلاثية، تقوم على مبدأ اختيار من يصلح لها بصرف النظر عن انتمائه العائلي.
وإذا كان من الضروري وجود رئاسة دينية لدروز كل من لبنان وسوريا وفلسطين، فإنه من غير الضروري تعدّديتها في البلد الواحد. فهذه التعددية لم تنشأ، ولم تستمر، بسبب الاختلاف في تفسير مذهب التوحيد، ولا بسبب الاختلاف في تطبيق تعاليمه، وانما نشأت واستمرت في جبل العرب (محافظة السويداء في الجمهورية العربية السورية)، ثم تكرست رسمياً باسم مشيخة العقل، لظروف وأسباب لا مجال لذكرها الآن. ونشأت في لبنان نتيجة تأثير السياسي بالديني، وتأثير الخارجي (غير الدرزي) بالشأن الداخلي الدرزي.
إنها من إفرازات سياسة الامير بشير الشهابي الثاني إزاء الدروز، فبعد أن أضعفهم سياسياً واقتصادياً بضرب زعمائهم واحداً بعد آخر، وتحجيم نفوذهم، ومصادرة معظم أملاكهم، أضعف رئاستهم الدينية من خلال الاتيان بشيخ عقل ثانٍ، ثم بشيخ عقل ثالث كان وجوده بصورة موقتة، اذ انتهى الامر بمشيختي عقل على أساس الغرضيتين: الجنبلاطية واليزبكية اللتين خلفتا الغرضيتين: القيسية واليمنية، بحيث صار كل من الجنبلاطيين واليزبكيين يختار شيخه، مع اعتبار أي منهما شيخ عقل الدروز، ويلي ذلك اعتراف السلطة القائمة. فكان في هذا دغدغة لشعور الفئوية جرّاء تمثيل كل فريق بشيخ عقل في زمن غياب الاحزاب السياسية الحديثة والتكتلات العامة.
استمرت ثنائية مشيخة العقل في لبنان حتى 1954، حين تحولت ثلاثية استثنائية بسبب عدم الاتفاق على أي من الشيخين، رشيد حماده وعلي عبد اللطيف، يكون خلفاً لشيخ العقل "اليزبكي" محمد عبد الصمد. فكان أن عُيّن الاثنان مع حصر الاعتراف الرسمي بالشيخ رشيد حماده فقط. وفي 1970 انتهت الثلاثية بموت الشيخ علي عبد اللطيف، وانتهت معها الثنائية باتفاق الزعيمين، كمال جنبلاط ومجيد ارسلان، على عدم انتخاب خلف للشيخ رشيد حماده، فانحصرت المشيخة بشخص الشيخ محمد أبو شقرا. فكان هذا خطوة إصلاحية مهمة عبّرت عن بلوغ الدروز مرحلة من التطور تفرض ترك مخلّفات الماضي غير الملائمة، وجاءت في سياق نهضة لتنظيم شؤونهم تمثّلت في الامور الآتية: وضع قانون الاحوال الشخصية عام 1948، وهو أول قانون من نوعه في لبنان؛ تنظيم القضاء المذهبي عام 1960؛ إنشاء المجلس المذهبي في 1962؛ وضع قانون انتخاب شيخ العقل في 1962، وقد مهّد القانون الاخير السبيل لتوحيد مشيخة العقل من خلال إعطاء الحق لجميع الذكور من الدروز اللبنانيين بانتخاب شيخ العقل بدلاً من اختيار فريق واحد له.
ظل اتفاق الزعيمين، كمال جنبلاط ومجيد أرسلان، محترماً بعد وفاتهما، وظل محترماً بعد وفاة الشيخ محمد أبو شقرا في 1991، وطوال فترة تسلّم الشيخ بهجت غيث مقاليد المشيخة بصورة موقتة وبصفة جديدة لا سابقة لها هي صفة قائم مقام شيخ العقل، ثم بصفة شيخ العقل. ومما يدل على رسوخ مبدأ أحادية مشيخة العقل صموده في فترة اشتداد التجاذب والنزاع بين أفرقاء الدروز بشأن مشيخة العقل لسنوات عدة حيث تداخل السياسي مع الديني، والعام اللبناني مع الخاص الدرزي، والاقليمي مع المحلي، إبّان الوصاية السورية وتدخل السوريين في جميع الامور بما في ذلك مشيخة العقل التي عقّدوا أزمتها وصعّبوا حلّها.
كان لا بدّ من وضع قانون طال انتظاره، ينهي أزمة مشيخة العقل، ويعيد الى العمل المجلس المذهبي المتوقف منذ 1972، وينظّم شؤون الدروز في إطار مؤسسي. وقد صدر هذا القانون في أيار 2006 بعد رده من جانب رئيس الجمهورية اللبنانية اميل لحود، وتصديقه من مجلس النواب للمرة الثانية. لكن هذا حصل في فترة تأزم العلاقات، وبلوغ التجاذب ذروته، بين فريق الاكثرية الدرزية السائرة بهذا القانون إقراراً وتنفيذاً، وعلى رأسه النائب وليد جنبلاط، وفريق الاقلية الرافض له، وعلى رأسه الامير طلال ارسلان. وفي إطار الصراع الدائر في لبنان بين الاكثرية الحاكمة والمعارضة، وفي غياب وساطات درزية فاعلة وشخصيات حيادية بارزة شكّل وجود أمثالها سابقاً صمّام أمان عند تعقّد الامور واستفحال خطر المشكلات. فأفضى هذا الى انتخاب مجلس مذهبي انتخب بدوره شيخ عقل، بموجب القانون المذكور الذي ينص على شيخ عقل واحد، هو القاضي نعيم حسن، فيما قاطع فريق الاقلية تأسيس المجلس المذهبي ترشيحاً واقتراعاً، وأعلن العودة الى "نظام الشيخين"، وعيّن الشيخ ناصر الدين الغريب شيخ عقل، وذلك من قبيل رد الفعل، وإثبات الوجود، والتعبير عن رفض أمر لم تحصل المشاركة فيه.
لقد وُلدت ثنائية مشيخة العقل من رحم المصالح الشخصية والفئوية، بعد توحيد المشيخة لمدى 46 عاماً، لكنها وُلدت بوضعية لا توازن فيها، وبصيغة جديدة مختلفة عن الماضي، يوم كان شيخا العقل معترفاً بهما، يتساويان في الصفة الشرعية، وفي الدور والصلاحيات، بينما أحدهما اليوم، وهو الشيخ المعيّن، لا يمتلك ذلك، وليس أكثر من فاعلية دينية بارزة مهما عظم دوره.
ومع هذا فإن وجوده يرمز الى معارضة درزية لتوحيد المشيخة فعلياً بعد أن باتت موحدة بموجب القانون، ويعبر عن إشكالية تتطلب الحل بما يساعد على إعادة جمع الشمل تحت لواء وحدة مؤسسة مشيخة العقل، وإجلاء الغيوم من أجواء العلاقات الدرزية – الدرزية؛ لأن الدروز خصوصاً واللبنانيين عموماً هم أحوج ما يكون في الوقت الحاضر الى التوافق والاتحاد لمواجهة الاحداث الخطيرة والازمات المستعصية.
إن ما جرى لن ينتهي، في أي حال من الاحوال، بشرعنة ثنائية مشيخة العقل، ولا بطول مدتها على الاقل، لأنها باتت أمراً لا يوافق الدروز في القرن الحادي والعشرين، ولأن الدروز لن يكرّروا أخطاء الماضي، ولن يعودوا مئتي سنة الى الوراء، يوم استحدثت لهم مشيخة عقل ثانية ومشيخة عقل ثالثة، إن ثنائية المشيخة، التي افرزها عدم الاتفاق هي ثنائية موقتة وعابرة، ستنتهي، في رأينا، على أبعد حد بانتهاء التأزم في لبنان وتحسن أوضاعه، أو بانتخاب المجلس المذهبي الثاني، وستنتهي على أقرب حد، بتسوية في بلد التسويات، تحفظ الكرامات، وتحقق المصلحة العامة، وتعزّز موقع مشيخة العقل، وتوحّد الجميع تحت راية التوحيد.
إن أحادية مشيخة العقل حتمية تفرضها سنّة التطوّر، ومقتضيات الحداثة ومصلحة الدروز، وضرورة تشبّههم بالآخرين، واختلاف واقعهم السياسي الاجتماعي اليوم عما كان عليه في السابق بفضل الوعي والثقافة، وتعدّد الانتماءات السياسية الحديثة، وزوال الولاءات والغرضيات الموروثة، فهم يحيون حالياً حالة التعددية السياسية على أساس تنوع الافكار والمبادئ والاتجاهات، لكنهم يرفضون أن تنسحب هذه التعددية على مؤسسة مشيخة العقل التي يجب أن تظل واحدة موحدة.
كان إيجاد ثنائية مشيخة العقل في أوائل القرن التاسع عشر لخلفية سياسية تستهدف الدروز، واعتماداً على انقسام فئوي مضى عليه الزمن، وكان استمرارها من أخطائهم ومن نواحي ضعفهم، ثم جاء توحيد المشيخة ابتداءً من عام 1970 تصحيحاً للخطأ، وعودة للاصول، ومجاراة للتطور. ففي أحاديتها تآلف مع المفهوم الديني، وتعزيز للدور الذي بقي لها بعد تقليص صلاحياتها واستمرار دورانها في فلك القيادة السياسية. وفيها ايضاً إظهار أفضل لشخصية الدروز المعنوية على الصعيد العام، وبين سائر الطوائف التي لها رئاسة دينية واحدة، خصوصاً بعد أن تحوّل الدروز طائفة صغيرة تحاول أن تحافظ على ما تبقى لها من شأن كبير.

حسن أمين البعيني

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...