مفاوضــات علــى جســد امــرأة..عن مجتمعٍ يعفو عن المغتصب

07-04-2012

مفاوضــات علــى جســد امــرأة..عن مجتمعٍ يعفو عن المغتصب

لماذا توقّف العرب عن وأد الفتيات، إذا كان البديل هو تزويجهن من مغتصبيهنّ؟
«حضرة النواب المشرّعين في المجلس النيابي اللبناني، نتقدم منكم بطلب إلغاء المادة 522 من قانون العقوبات، التي تعفي عن مرتكب جرائم تشمل الاغتصاب، واغتصاب القاصر، والتعدّي الجنسي على شخص ذي تحدّ عقلي أو جسدي، والتحرّش بطفلة، واستغلال شخص في موقف ضعف وإجباره على القيام بممارسات جنسية، ... في حال أقدم على الزواج من ضحيته».
في مطلع الأسبوع الحالي، انطلقت حملة افتراضية ([) داعيةً اللبنانيين إلى توقيع عريضة هدفها إلغاء المادة 522. وهي مادة أضيفت إلى قانون العقوبات في العام 1948. كما إنها مادةٌ ابنة محيطها، إذ تطلّ برأسها من دساتير عربية كثيرة.. وقد أقدمت فتاة مغربية في السادسة عشرة من عمرها على الانتحار، خلال الشهر الماضي، بعدما أجبرت على الزواج من مغتصبها.
كان اسم الصبيّة أمينة، أما مغتصبها المغفل الاسم فقد أعفي من عقوبة الاغتصاب، ولم يمسّه قانونٌ إثر الانتحار.
ولماذا يمسّه؟ فالانتحار خيارٌ شخصي، أما الاغتصاب فهو جريمة عامة، يحقّ للمجتمع، محمياً بالقانون، أن يعفو عن مرتكبها.لوحة «الاغتصاب» للفنان البلجيكي بيتر بول روبنز (1577 - 1640)

الضحية ليست ضحية

شرط العفو هو إصلاح ما أفسده المجرم. وفي حالة الاغتصاب، هو أفسد شرف العائلة، فيكون إصلاحه بتزويجه الفتاة. هي لم تكن أبداً الضحية، لكي يُطالَب لها بحقّ. هي وسيلةٌ لإفساد الشرف، فوجب لجمها بالزواج.
وعندما يجد المرء نفسه يحيا في مجتمعات تتطلب منه التظاهر لمنع العفو المجتمعي عن مغتصب، فهو يجد نفسه أمام سؤال يلحّ عليه:
لماذا توقّف العرب عن وأد الفتيات، إن كان البديل هو تزويجهن من مغتصبيهنّ؟
فالوأد هو حلّ جذري لمعضلة الشرف تلك.. يتيح للرجل تفادي «وجع الرأس» الذي يتسبب به عيش الفتاة. فليكن تفاديه من أساسه بالوأد، بدلاً من العيش في دائرة القلق مدى الحياة.
لكن قانون اليوم يعتبر الوأد جريمةً، لكونه يقوم على القتل. في المقابل، أوجد القانون اللبناني، مؤخراً، مخرجاً قانونياً لمرتكب جريمة الشرف، أي القتل أيضاً، حتى وهو يلغي بندها المباشر من قانون العقوبات. الوأد يعتبر جريمة إذاً، لكونه يقفز إلى مرحلة «آخر الدواء الكيّ» منذ لحظة ولادة الفتاة.. فلربما عاشت حياتها من دون أن تمسّ بشرف عائلتها. لماذا نظلمها منذ الولادة؟ فلنعطها فرصة إثبات كفاءتها، كملكيّة.
هي ثقافةٌ عامة، وهي فلسفةٌ مجتمعية يصونها قانون.
ويبقى المغتصب صاحب المبادرة، إذ يمدّ اليدّ إلى رجال العائلة، ويسقط الجرم عنه، وتسقط آثاره عن الضحية. وهي، في غرفتها، أو في غرفة المستشفى، لا يهم، تتلقى الزواج، تماماً كما تلقّت الاغتصاب، أكانت فتاة بالغة أو قاصراً أو طفلة متحرشاً بها أو امرأة ذات تحدّ ذهني أو جسدي، لا يهمّ. وإن انفصل عنها بعد أقل من ثلاث سنوات، فسيُلاحقه القانون.
فالقانون هو عقد اجتماعي يستبسل دفاعاً عن «الطرف الآخر»، أي المواطنين. والمرأة، ليست بعضاً من المواطنين. هي تشبه تركيا في محاولاتها الدخول إلى الاتحاد الأوروبي: كيانٌ يتوجب عليه إثبات الأهلية، وتلبية كافة الشروط الملزمة، والخضوع لمزيد من الشروط لإثبات حسن النيّة، والنيّة مسألة لا تُقاس وبالتالي لا تُثبت.. ويأتي ذلك كله، قبل رفض دخول هذا الكيان إلى «نادي» الأقوياء. فقبول الطلب بالدخول لا يأتي من أيّ حق، وإنما من رغبة «الاتحاد» في رؤية نفسه كمجموعة كيانات منفتحة على المختلف. ولكن، لن تكون هي يوماً منهم، لأن شرط التقائهم وشرط بقائهم هو العنصر (أكان حضارةً أم جنساً أو لوناً...). والمرأة ليست رجلاً، ولن تكونه. المرأة ليست «مواطناً»، ولن تكونه. يمكن الاستفادة منها ومن قدراتها إلى أقصى حدّ متاح لها، لكنها ستُرفس بعيداً إن ادّعت لنفسها كمال البنية الإنسانية.
تسعى العريضة المطلوب توقيعها إلى إلغاء بندٍ من قانون، ربما يبدو محقاً إلى ما لا يحتمل النقاش، إن نُظر إلى المرأة كإنسان مكتمل الإنسانية. ولكن، في ذلك خطرٌ على بقاء السلطة. إن لم تحمِ رجالها، تفقد شرعيتها في عيونهم، فيستبدلونها. وإن أخطأوا، فستتيح لهم المغفرة، خاصةً عندما تكون «ضحيتهم» من خارج النادي. هم يمتلكون السلطات كلها، والدائرة مقفلة حولهم. مطرودةٌ هي منها. يجمّل القانون نفسه بأن يجرّم الاعتداء عليها، بالسرقة والقتل وسواهما من الجرائم «العامة»، ويدّعي بذلك العدل. لكن، إن طالتها جريمة تمسّ جنسها، كالاغتصاب أو التحرّش أو العنف الشوارعي أو الزوجي، فإن القانون يعود إلى «مالكها»، لينطق بحكمه. إن كان المعتدي رجلاً يمتلكها، فلا حق لها في القانون. أما وإن كان لا يمتلكها، وهي الحال هنا، فيتيح القانون المفاوضة بين المعتدي والمالك.
هذا هو النادي، وتلك هي شروط الانتساب إليه. إن خرجت امرأةٌ عنه، تُدان بكافة الوسائل الممكنة، ويُنهش لحمها لتكون عبرة لغيرها، ودليلاً على صوابية القانون. أما وإذا تجرأ رجلٌ وطالب بإحقاق الحق، فيعامل معاملة المنشقّ عن حزب: عدوّ أشد خطراً من العدو، ولكن، تبقى توبته مقبولة. وإذا أصر، يُطرد من النادي، فهو ليس نادياً مبنياً على أساس الجنس، وإنما على أساس الحفاظ على فوقية جنس.

اللغة ليست مشتركة

في ظل واقع شبيه، هل تكون إمكانيات الإصلاح من داخل النظام القائم ممكنة؟ هل تكون العريضة وسيلة لإحقاق الحق؟ وإن ألغي البند من القانون، هل يُلغى من المجتمع؟ ألن يأتيها والدٌ يجبرها على الزواج من مغتصبها، قبل عرض القضية على المحكمة حتى؟
فالبند 522 هو بندٌ قانوني شرّع ممارسة مجتمعية، ولم يولد من رحم العدل. إذ لا يقوم قانونٌ على العدل، وهو يعفي مجرماً من عقوبة إذا تزوج ضحية. فيه من الفلكلور أكثر بكثير مما فيه من معادلة «جريمة وعقاب». هو قانونٌ يمنح توازنات القوة القائمة لحظة صيــاغته، شرعية الممارسة. فهل يتمكّن المستــضعف فيه من انتزاع حق، إن كان أســاس البــند القانوني لا يقوم على الحق، وإنما علــى إبقـائه مستضعفاً؟
كأن العريضة تحكي لغة، والقانون الذي يشرّع تلك الممارسة يحكي لغةً أخرى. أزمة تواصل، كجميع عناوين المطلبية في لبنان اليوم، من الحق بمنح الجنسية إلى المطالبة بتجريم العنف الأسري. المطالبة تقدّم براهين على أساس العدل، بينما إجابة المشرعين تنطق بلغة التوازنات الطائفية، و«نقص الإحساس بالانتماء لدى أطفال اللبنانية»، و«ضرورة حماية حق الرجل بتهذيب المرأة والأولاد»، ... اللغة ليست مشتركة، لأن أساس القانون ليس العدل. فما العمل؟
توقيع العريضة هو واجبٌ مدني أول، كي لا يبادر المرء إلى الخروج عن العقد الذي يربطه بالدولة. وبعد توقيعها، ربما يتوجب على المرء أن يعيد النظر بكامل أوجه قيام مجتمعه، لأن الإنسان إذا اغتُصِب، يُجبر على الزواج من مغتصبه. ففي ذلك دليلٌ كافٍ على أن المجتمع ليس بخير. والمجتمع اللبناني ليس بخير. جميعنا نعرف ذلك، جميعنا نشعر بذلك.. لكننا، جميعنا أيضاً، نعرف أن القوانين التي تحكمنا، محميّة، بطريقة أو بأخرى، منا. لا نغيّر القانون، لا نغيّر الدولة، لا نغيّر منطقاً حاكماً، ونتماشى مع كل طارئ، من الحرب إلى الفراغ الرئاسي، ونعود لنحتفي بقدرتنا على التماشي مع كل ظرف.
عندما شلّت الدولة بمؤسساتها الثلاث، تماشينا مع الوضع. ولكن، عندما عادت وقصّرت في الفعل، لم يعد يبدو في الأمر ما يستوجب المحاسبة. فعندما ألغت الدولة نفسها، ألغت أيضاً صورتها في نفوسنا. كلٌّ مسؤول عن نفسه. تلك هي الفوضى المقنّعة.
أما عودة الدولة فتحفظ لنا ماء الوجه، وللقيمين عليها سبل المحاصصة. ونحن نعرف أن الدولة قائمة على المحاصصة لا على القانون، وأن القانون قائم على حماية مصلحة الأقوى، لا على العدل. وبطبيعة الحال، يكون تزويج المغتصبة من مغتــصبها وسيــلة حفاظ على ماء الوجه، في أرض الجريمــة.. تماماً كما يُكنس التراب تحت السجادة، فتبدو الأرض نظيفة.
وهي ترابٌ. وإلى التراب، ستعود. إن بالوأد أو بالحياة وأداً. فلتصمت، هي وأشباهها من المعترضين على الوضع القائم. وليتفضلوا، بدلاً من المشاغبة، وليساهموا في الحفاظ على ماء الوجه.
كلما تزوجت مغتصبة من مغتصبها، تُنقذ حياةٌ وتتم التضحية بأخرى. إنه توازن رعب. توقيع العريضة هو محاولة للتخفيف من وطأة الرعب هذا، وهو أضعف الإيمان. أما الحياة الكريمة فتتطلب منا التمسّك بلغة العدل كأساس للمجتمع، لربما يوماً ما ثرنا.. فنكون أهلاً للحكم.

سحر مندور

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...