مقاربات الإنسان في الإسلام

04-11-2006

مقاربات الإنسان في الإسلام

منذ بدء استخدام الأيديولوجيا الماركسية في قراءة التراث الإسلامي ظهرت نزعة تميل الى تأويل الإسلام والنصوص بما يعطي البعد المرغوب فيه لمكانة الإنسان في الحياة واعتباره المركز الذي تدور حوله التأويلات، واعتبار الدين عند الاعتراف به مسخراً لأجل الإنسان ويدور حوله، وبالتالي أصبحت مفردة الإنسان هي المفتاح لفهم المفاهيم الأخرى وصياغة النظرة الى العالم، في سياق هذا التجاذب كثرت الكتابات التي تحمل عنواني الإنسان والإسلام، فكتب بعضهم يحاول الرد غير المباشر على الفلسفات الأخرى التي تعتبر أنها أعطت الإنسان مكانة مركزية وتتهم الإسلام بإهمال مكانة الإنسان. فتسعى لسرد النصوص التي تؤكد على تكريمه واحترامه ورفعة مكانته، فيما اتجهت دراسات أخرى لتبحث في النزعة الإنسية في التراث الاسلامي، ودشن هذه الدراسات أركون، وحديثاً أصدر التونسي عبدالوهاب بوحديبة كتابه الأخير «الإنسان في الإسلام» (باللغة الفرنسية، وسيصدر بالعربية) ينطلق فيه من أن المشروع الإسلامي قائم على نظرة إنسية إضافة الى التعالي أو المفارقة الإلهية، وأن الله أمام الإنسان لا في تقابلية ضدية أو في علاقة عبودية بسيطة بل في استخلاف حقيقي لبني آدم، استخلاف قوامه الحرية الأصلية للإنسان، وأنه لا يمكن الفصل بين الإسلام كدين والإسلام كثقافة وحضارة، فالاعتقاد قد تجلى في التاريخ وبتجليه يمتزج ضرورة بالثقافة، فلا عقيدة خارج الثقافة أي الانتاج المعنوي للإنسان ولا ثقافة في تاريخ الإسلام من دون استحضار وتأويل للنص الديني، فاهتم بوحديبة ببعض النماذج لما يسميه بالمشروع الإنسي في الإسلام من خلال نصوص القرآن والسنّة واجتهاد الفقهاء وظرف الأدباء ونظر الفلاسفة وتأمل المتصوفة... فيما يعتبره أمثلة من المشروع الإنساني الكبير، وكأن الكتاب يحاول أن يضع الإسلام في دور وظيفي للمشروع الإنساني بغض النظر عن الموقف العقدي المدعى من الدين، وتؤول نصوص الإسلام وتراثه من زاوية الإنسان المحور.

لكن العودة الى القرآن تدل بوضوح على أن مفهوم الإنسان في القرآن هو القطب الرئيس الثاني الذي يقابل المفهوم المركزي الأول أي مفهوم «الله»، وبتتبع الآيات المتعلقة بالإنسان في القرآن نجدها تتناول طبيعته وسلوكه ونفسه وواجباته ومصيره، كما تتناول أنماط العلاقة بين الله والانسان، وتركز بالخصوص على مفاهيم الخلق والاتصال (الآيات، الهدى، العبادة)، فالانسان يحتل في القرآن مكانة مركزية فقط باعتباره مختاراً من الله، فكل شيء يرجع الى الله في الخطاب القرآني، أما المركزية الإنسانية في القرآن فخاضعة للمقاصد الإلهية (حسب تعبير هشام جعيط)، هذه التبعية تساعدنا في فهم ما ورد حول الإنسان في القرآن من أوصاف تعبر عن سلبية مدمرة اذا ما أخذت بمعزل عن الهدي الإلهي، وسنحاول أن نعرض لتلك الأوصاف السلبية التي ذكرها القرآن للإنسان، وسنحاول استعراضها من خلال النصوص القرآنية، والتي يمكن أن نلخصها مجموعة بالتالي: «وخُلق الانسان ضعيفاً، وكان الإنسان عجولاً، إن الإنسان خلق هلوعاً، وإذا مسّه الشر كان يئوساً، وكان الإنسان فتوراً، يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم، إنه كان ظلوماً جهولاً، فإذا هو خصيم مبين، وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً، إن الإنسان ليطغى، إن الإنسان لربه لكنود، إن الإنسان لكفور مبين، إن الإنسان لفي خُسر».

هذه الصفات التي اقترنت بذكر الإنسان في القرآن منها ما هو تكويني جبلي قابل للتغيير، ومنها ما هو كسبي سلوكي، وهي مؤشرات على عوامل سلبية الإنسان في الحياة والتي تعيقه عن أداء التكليف الإلهي في العمارة والعبادة والخلافة، فكيف يتجاوز الإنسان هذه الصفات السلبية ليتحول الى الفاعلية ويستثنى من الخسر الذي يقود اليه الاستسلام الى الصفات آنفة الذكر.

إن المفتاح القرآني للخروج من هذه الصفات السلبية هو آخر سورة ذكر فيها الإنسان وحكم عليه بمآل ما ذكر من صفات وهو الخسر، إنها سورة العصر (والعصر(1) إن الإنسان لفي خُسْرٍ(2) إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر(3))، والتي قال عنها الإمام الشافعي: «لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم، وفي رواية عنه: لو لم ينزل الى الناس إلا هي لكفتهم»، ففي هذه السورة تجتمع العناصر الأساسية التي تتأسس عليها الحضارة، فهي تبدأ بذكر الزمان «العصر» ثم يأتي ذكر الإنسان مقروناً بصفة الخسر التي يستثنى منها أصحاب الفعالية وهم الذين جمعوا بين عنصري النظر (آمنوا) والعمل (وعملوا الصالحات) وفعلوا الجانب النظري المعرفي (وتواصوا بالحق) وفعّلوا الجانب العملي التطبيقي (وتواصوا بالصبر)، وقد تأكد الاستثناء من الخسر في آيات أخرى تحدثت عن وعد إلهي بالفوز والنجاح في البناء الحضاري لمن حقق الشروط: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (النور:55)، والعمل الصالح يقترن بوصف الايمان في القرآن كثيراً، وقد اقترن العمل الصالح في هذا التركيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات/51/مرة، وهي معظم ما اقترن به الإيمان مع العمل الصالح في صيغ اخرى والتي بلغ مجموعها 69 مرة، حتى جعلت بعض الآيات العمل الصالح شرطاً للنجاة مع الإيمان، والاقتران بين القضايا العقدية والأخلاقية متلازم، وهو تلازم بين بعدين لا ينفصلان ولا قيمة لأحدهما من دون الآخر وهو الجانب النظري والجانب العملي للرسالة الإلهية.

هذه المعطيات القرآنية حول الإنسان تؤكد أن الإنسان ليس إلا مخلوقاً في هذا الكون وليس مركزاً فيه، والمكانة التي يحتلها الإنسان إنما تنبثق عن وعيه بالهدي الإلهي والتزامه به، والذي يصب بدوره في ما يسعد الإنسان ويعلي من شأنه، والحديث عن الإنسان في الإسلام خارج المركزية الإلهية في النص والكون إنما هو محاولة لإثبات وجود ما تدعيه الفلسفات الغربية من مكانة للإنسان، أو تأويل النصوص والتراث بما يخدم تلك الرؤى، لكن ينبغي التأكيد أن خضوع الإنسان للمركزية الإلهية لا يعني مفارقة الإنسان لواقعه، إنما الذي نقصده بهذه الإشارة ضرورة اعادة الاعتبار لطبيعة رؤية القرآن للعالم وطبيعة مكانة الإنسان في سياق المفاهيم المحدّدة لذلك.

عبد الرحمن حللي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...