مقارنة بين التوحيد الإسلامي والحداثة الغربية

18-12-2006

مقارنة بين التوحيد الإسلامي والحداثة الغربية

طالما اعتبر التاريخ الثقافي أن الأديان، على تنوعها، تنتمي الى العالم الكلاسيكي السابق على الحداثة، تلك التجربة/الطفرة التي لم يبلغها التاريخ الإنساني إلا على أشلاء الرؤية التقليدية للوجود وفي قلبها الأديان التي تصير آنذاك هي النقيض المنطقي للروح الحديثة، وذلك إذا ما فهمنا الجوهر الفلسفي للحداثة باعتباره ذلك التحول الجذري في رؤية الذات الإنسانية لنفسها ولموقعها في الوجود ولقدرتها على السيطرة على مصيرها وانعتاقها من كل الأفكار ذات الطابع الأسطوري أو الميتافيزيقي التي طالما أسرتها وأعاقت قدرتها على النمو الذاتي وعلى التحرر، خصوصاً تلك الأفكار التي ادعت بالحق الإلهي المقدس في حكم الشعوب ما كان كفيلاً بإلغاء كل قيمة عقلانية، وموضوعية، ينتجها أو يراكمها التاريخ البشري ما يحول بينه وبين فكرة التقدم. ولكن هل كانت كل الأديان قيداً على حرية الإرادة الإنسانية، وهل كان ذلك محتماً بالضرورة، أو مطلقاً يتجاوز الزمان والمكان؟

ربما كانت الإجابة صعبة على وجه الإجمال، وإن لم تحل صعوبتها دون محاولة تلمسها في الإسلام حيث النموذج العقيدي. وبغض النظر عن التجربة التاريخية، فهو يستبطن جذراً توحيدياً يؤسس لحداثة عربية تلتقي مع مخرجات عدة للحداثة الغربية وإن اختلف مصدر الإلهام لدى كلتيهما. فالإسلام يقدم صورة متسامية للألوهية تتفق والنضج الحادث للعقل البشري في التاريخ، وذلك ضد النزعة الى أنسنة الإله التي سادت بعض العقائد، أو تأليه الإنسان التي استبطنت عقائد أخرى سابقة. وتحمل عقيدة التوحيد الإسلامي الصورة الأكثر تنزيهاً للألوهية عن كل بشرية أو نسبية أو نقص، فهو الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء والذي يغفر برحمته كل ذنوب البشر مهما كانت ثقيلة الا أن يشرك به حيث طريق الخلاص الإسلامي يقوم على نفي كامل للوساطة بين الإله الأعظم وبين البشر الذين يعيشون في هذه الدنيا بمشيئته مطالبين بتجسيد القانون الأخلاقي المضمن في كتابه الكريم والذي يصلهم عبر رسول منهم ليس مقدساً ولا يحمل مكوناً إلهياً بل هو من الناس يحيا حياتهم، ثم يموت مثلهم فلا يبعث في الدنيا ولا ينتظر وجوده مرة أخرى إلا معهم نهاية الخليقة حينما يبعث كل البشر لملاقاة الحساب بالعقاب أو الثواب وحسب أعمالهم وعلى قاعدة المسؤولية الفردية.

وهنا تقدم عقيدة «التوحيد» أساساً راسخاً لحرية الارادة الإنسانية على المستوى الوجودي، وإن تم استلهامه على صعيد التجربة التاريخية في اتجاهين مختلفين، بل متصارعين على الثقافة العربية المعاصرة:

الاتجاه الأول: هو النزوع الى ترشيد الحداثة «الغربية» حفاظاً على ايمانيتها ونزعاً لتناقضاتها، وذلك بإلهام منظومة قيم «الذات المستخلفة» التي تقوم على «التوحيد الاسلامي» كمفهوم عقيدي يكفل لها إزالة كل قيد معرفي أو سياسي يعطل انطلاقها وقدرتها على العمل ومسؤوليتها في الاختيار وطموحها إلى الابداع وتشييد الأبنية والقواعد التي تحكم هذا العمل بشرط واحد هو استلهام هذه الأبنية/ القواعد لمعناها النهائي من الرؤية الإيمانية للوجود التي ترى في هذا المعنى قانوناً إلهياً يتنزل من السماء لا ليحكم الأرض بكل تفاصيلها: أبنيتها ومؤسساتها وعلاقاتها، وأشكال تنظيمها الاجتماعي والسياسي إخضاعاً لها، عند التطبيق العملي والممارسة التاريخية لسلطات قاهرة، بل ليلهمها غايات الوجود النهائية والأساسية التي يفسد الكون بغيابها أو احتجابها تاركاً لها، أي للإرادة الإنسانية، حرية العمل في ظلها والبحث في كيفية استلهامها بل وأيضاً محرراً لها من كل سطوة أرضية ترفض هذا الإلهام وناصراً لها على كل سلطة بشرية تبغي الفساد في الأرض بتعطيل عمل هذه القوانين واستلهام هذه الغايات الأساسية حتى وإن تسترت هذه السلطات بلباس الأديان نفسها في قشورها البالية أو قوالبها التاريخية المتقادمة توطيداً لسلطانها وترسيخاً لهيمنتها، إذ تتحدد هذه الغايات النهائية في ضوء الإدراك «العقلي» للدين والمتطور في التجربة الإنسانية التاريخية وليس في ضوء الإدراك «الفطري» للدين والمتجمد عند الأشكال البدائية والقوالب التاريخية.

هذا الاتجاه الترشيدي يقوم على فهم عميق ومتوازن للعلاقة بين الطبيعة بحدودها المادية الملموسة التي يمكن التحقق منها والخوض في غمارها والتي تمثل محوراً أو نسقاً لجهد العلم التجريبي الشكي المؤسس للرؤية الحديثة، وبين الوجود الواسع والشامل واللامحدود الذي لا يمكن التحقق منه ولا اكتشافه كاملاً، ما يفرض على العقل الإنساني أن يكون أكثر تواضعاً وأقل نرجسية ليؤمن بأن جانبا من الحقيقة في معناها الأشمل يبقي ممتنعاً عن الاكتشاف، ومستعصياً على التجريب بالوسائل نفسها المعتمدة لاكتشاف وتوظيف الطبيعة التي هي مجرد جزء من الوجود/ الحقيقة وليست هي الوجود/ الحقيقة كلها، وهو ما يقود في النهاية الى فهم يبقي للدين أو للإيمان الديني بإلهاماته الجوهرية موقعاً على خريطة الانشغال العقلي بحسبانه قادراً على تفسير جزء أساسي من الحقيقة الوجودية في مستواها الأعلى، وذلك على عكس الرؤية الوضعية المتطرفة الناكرة لهذا الجزء من الحقيقة أصلاً باعتباره ليس إلا «متيافيزيقياً» بالمعنى السلبي الذي يجعلها محض هواجس إنسانية إزاء الغموض الكوني المخيف، والناكرة من ثم لوسائله الخاصة في المعرفة «النقلية» التي تقوم في الجوهر على الدين ونصوصه وإلهاماته.

هذا الفهم المتوازن لدى الذات المستخلفة ربيبة التوحيد الإسلامي لعلاقة الدين بالعلم على صعيد المنهج هو ما يزيل التناقض «الحتمي» بين الإيمان والعقل على صعيد الرؤية الوجودية ويحفظ لكل منهما فضاءه الخاص، ويقود من ثم الى ترسيخ الإيمان الديني ضد النزعات الإلحادية والمادية البحتة التي طالما اعتبرت تناقضات في تجربة الحداثة الغربية من ناحية، والى استلهام المقومات الإيجابية العلمية والتكنولوجية والليبرالية التي أسست للحداثة والتي طالما اعتبرت نقائص في الثقافة العربية من ناحية أخرى.

أما الاتجاه الثاني: فهو النزوع الى «نقض» الحداثة وليس نقدها، إما لعدم فهمها واستيعاب منطقها، وإما للشعور بمرارة تأثيراتها في مجتمعاتنا العربية، وهو الاتجاه الذي يجسده التيار السلفي الداعي إلى تأسيس نظام حياة شامل بديل يقوم على رفض الذات الحديثة «المطلقة والمركزية»، ويقصر عن إدراك حدود «الذات المستخلفة»، ويجنح الى دائرة «الذات المستلبة» التي تقوم أيضاً على عقيدة التوحيد ولكنها لا تركز على البعد التحريري للإرادة الإنسانية من القيود الشكلية والتاريخية المعطلة لإنطلاقها نحو أداء مسؤولياتها ودورها، وهو البعد المنوط بوظيفة الاستخلاف، بقدر ما يركز على بعد العبودية «لله» وهي عبودية مطلقة لا شك فيها، ولا مشكلة إلا في فهمها النصي الشكلي الذي يقمع البعد التحريري، ويؤكد الجبرية والحتمية ومن ثم الى التواكلية التي تنفي السببية العلمية، وتجهض أي روح نقدية أو إبداعية وبخاصة عندما تلتبس هذه العبودية بأشكال ممارستها وقوالبها القديمة المستندة إلى الإدراك «الفطري» للدين وبالأخص عندما تكتسب هذه الأشكال قدسية مضموناتها وغاياتها التوحيدية، الأمر الذي يسلب هذه الذات «المستلبة» كل ممكنات حداثتها ويرهنها بكل القوالب والأشكال التقليدية.

هذا الاتجاه النقضي والذي لا يعترف أحياناً بالعلم الحديث حيث النصوص الدينية هي الأقدر على التفسير الصادق للوجود كله، أو الذي يحاول التأسيس لهذا العلم في قلب هذه النصوص الدينية تحقيقاً لإسلامية المعرفة، له أيضاً رؤيته للتاريخ، وللعالم السياسي ولكيفية التأثير فيهما من خلال آليات عمل تختلف كثيراً عن الآليات المتواترة لدي التيار الترشيدي/ النقدي مثلاً لأنها تنهض على منطق مختلف يتأسس على افتراضات من قبيل:

1- ان الضمير الأخلاقي المؤسس على الإيمان الروحي العميق يظل هو آلية الفعل الأساسية المؤثرة في صناعة التاريخ الخاص بالأمة ـ حتى الآن ـ وكما كان على زمن الرسالة بما يبثه في الفرد المسلم من روح التضحية وصولاً إلى نموذج المجاهد الشهيد وبغض النظر عن الوسائل التي يحوزها أو يمارس بها جهاده والتي تحتل آنذاك مرتبة تالية في الأهمية. ومن ثم يصبح التوحد الإسلامي حول هذا الضمير هو الهدف الأمثل الذي يجب على مخلصي الأمة التوجه صوبه أما غير ذلك فهو انحراف من كليهما عن القصد والسبيل الصحيح.

2- ان أصالتنا تكمن في لحظة تكوين ثقافتنا، وليس في خصوصية تكوينها، ومن ثم فقد تم تفسير مفهوم الأصالة في الاتجاه السلبي الذي يحدده بالزمن وينطلق به في اتجاه الماضي حيث لحظة التشكيل الأولى بكل قوالبها وأشكالها لدى الذات العربية الإسلامية هي مستودع الأصالة الكاملة.

3- ان العودة الى أصالة الماضي، مع توحد الجماعة المسلمة كفيل وحده، أو في شكل رئيس على الأقل، بإقالة الأمة من عثرتها ودفعها نحو إعادة امتلاك زمام التاريخ دونما حاجة الى النقل عن الآخرين أو الاقتباس منهم، أو التلاقح معهم. فكل معرفة، وكل فضيلة موجودة في نصوص الإسلام لا ينال منها الزمان.

وعلى صعيد المنهج يقوم هذا التيار على فهم مختل لعلاقة الطبيعة بالوجود الشامل، فهو في جوهره، وفي ضوء هيمنة والتباس مكون العبودية لديه، يقلص من فضاء التحرر الذي هو العالم الواقعي المحسوس الذي يفترض أن تقوم المعرفة سواء الطبيعية التجريبية أو الاجتماعية السلوكية بفحصه ودراسته في إطار الرؤية الحديثة للوجود، إلى حدود دنيا تكاد تنعدم عند أكثر طوائفه انغلاقاً، بينما يوسع كثيراً في فضاء اللامحدود وغير القابل للتحقق «الميتافيزيقي» إلا من خلال إلهامات واشراقات صوفية أو نصوص دينية حتى يكاد يستوعب الحقيقة الكونية كلها حيث يتقلص كثيراً دور العلم في فهم وتحليل هذه الحقيقة لمصلحة الدين وذلك على العكس من الرؤية الوضعية المتمركزة/ المتطرفة التي تكاد تمنح العلم وحده كل هذا الفضاء وتحرم الدين منه، وبالاختلاف مع التيار الترشيدي/ النقدي الذي يصوغ بينهما توازن يحفظ لكل منهما فضاءه الخاص. فهذه الذات المستلبة وحدها، هي ما يدفع نحو التناقض بين الإيمان والعقل ومن ثم بين الإسلام الذي يصير مرادفاً للتقليد، وبين الحداثة القائمة على مركزية العقل والتجربة، وهو تناقض هامشي لا جوهري، تاريخي لا حتمي، ما يبقي على إمكان بل ضرورة التوافق.

صلاح سالم

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...