نجيب محفوظ في الذاكرة

22-03-2007

نجيب محفوظ في الذاكرة

لم يتيسر الفرار لجبل الا في الهزيع الاخير من الليل. جعل ينتقل من سطح الى سطح في هدأة الليل، وفي رعاية النوم المرفق بالاجفان حتى وجد نفسه في الجمالية. ومضى رغم الظلام الحالك نحو الدراسة ثم مال نحو الخلاء، متجهاً نحو صخرة هند وقدري، فلما بلغها على ضوء النجوم الخافت لم يعد بوسعه ان يغالب النوم، من فرط ما نال منه الاعياء والسهر، فاستلقى على الرمال ملتفعاً بعباءته وغط في النوم.
وفتح عينيه مع اول شعاع يضيء أعلى الصخرة، فقام من فوره كي يصل الى الجبل قبل ان يعبر الخلاء عابر. لكن بصره انجذب نحو البقعة التي دفن فيها قدره قبل ان يهم بالسير. ارتعدت فصائله وهو ينظر اليها حتى جف ريقه ثم فر بنفسه وهو في ضيق شديد. ما قتل الا مجرماً، لكنه بدا كالمطارد وهو يبتعد عن قبره. وقال لنفسه: "لم نخلق لنقتل وان فاق عدد قتلانا الحصر". وعجب لنفسه كيف انه لم يجد مكاناً ينام فيه الا المكان الذي دفن فيه قتيله! وشعر برغبته في الابتعاد تتضاعف، وان عليه ان يودع الى الابد من يحب ومن يكره على السواء، أمه وحمدان والفتوات الى الابد. وبلغ سفح المقطم وسط الضحى. وألقى نظرة طويلة الى الخلاء وراءه وقال في شيء من الاطمئنان: "الآن بعد ما بيني وبينهم". وراح يتفحص سوق المقطم أمامه، ذلك الميدان الصغير الذي تصب فيه جملة حواري من جميع نواحيه، وتتصاعد من جنباته ضوضاء عالية تختلط فيها اصوات الآدميين بنهيق الحمير. وكان ثمة ما يدل على مولد يقام، لازدحام الميدان بالمارة والباعة والمجذوبين والدراويش والمهرجين رغم ان حركة المولد الحقيقية لا تبدأ قبل الغروب، ففلقت عيناه بين امواج البشر المتلاطمة.
ورأى عند حافة الخلاء كوخاً من الصفائح صنعت حوله مقاعد خشبية فبدا على حقارته اصلح مقهى في السوق وأحفله بالزبائن، فاتجه نحو مقعد خال وجلس بجسم اشتد حنينه الى الراحة. وأقبل نحوه صاحب الكوخ محتفلاً بمظهره المتميز بين الجلوس بعباءة فاخرة وعمامة عالية ومركوب ثمين فطلب قدح شاي وراح يتسلى بمتابعة الناس.

من كتاب "أولاد حارتنا"

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...