هل يمكن تأسيس منصة Facebook خاصة بنا؟

19-06-2021

هل يمكن تأسيس منصة Facebook خاصة بنا؟

حسن إمام: 


شاهدنا تحيز منصات التواصل الاجتماعي للكيان الصهيوني في حملة تهجير حي الشيخ جراح بالقدس وما تبعها من حرب غزة. ظهر واضحًا أن هذا التحيز أحد أسلحة الكيان في حربه الشرسة، مثله مثل الطائرات والمدفاع، غير أن مداه يصل إلى كل مقاوم لهذا الكيان في جميع أنحاء العالم.

حيث تم حذف لمحتوى وحظر لأشخاص وغلق لصفحات كي لا يكون للحق صوت أمام الباطل، ليتسنى له فرض روايته الكاذبة على العالم. كل ذلك دفع روّاد مواقع التواصل الاجتماعي للتفكير في أسئلة بدهية: لماذا لا نُطوِّر منصة تواصل اجتماعي خاصة بنا؟ لماذا لا يكون هناك نسختنا من فيسبوك تحترم سياساته قضايانا وقيمنا ونعرض عليه آراءنا بحرية؟

يتسرّب العجز أكثر حين نستدعي القصص الشائعة لبدايات فيسبوك وغيره من منصات التواصل، والتي تتلخص في أن هذه المنصات ابتكرها وطوّرها شابان ألمعان في جراج بيت أحدهما بإمكانات محدودة للغاية. تحوّلت بعد ذلك إلى منصات عالمية بمليارات الدولارات. فهل نحن حقًا وصلنا لهذا الحد من عجز القدرات وعقم الإبداع؟

الإجابة ببساطة لا، بل لا يقتصر الأمر على أمتنا، فأوروبا تذوق الأمرين من هذه الشركات. فبدلًا من أن تُطوِّر ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وغيرهم من دول أوروبا منصات تواصل تُنافِس بها العمالقة الأمريكيين، تخوض أوروبا حربًا ضد شركات التقنية الأمريكية تتمثل في قضايا وغرامات كبيرة تصل لمليارات الدولارات، بسبب الاحتكار وانتهاك الخصوصية وغيرها. حتى وصل الأمر بالمفوضية الأوروبية عام 2018 إلى إصدار قانون General Data Protection Regulation (GDPR) للحد من انتهاكات شركات التقنية الأمريكية لخصوصية مواطنيها.

حاول كثير من رجال الأعمال في منطقتنا (بأموالهم) وروّاد الأعمال (بإقدامهم) تطوير منصات شبيهة بفيسبوك لكنها باءت بالفشل. فما السر وراء صعوبة نجاح تطوير منصات تواصل غير أولئك المهيمنين حاليًا؟ وهل أصبح مشروع كهذا مستحيلًا؟

لا يعتمد تطوير منصات إلكترونية على المعرفة الفنية من برمجة، ولا تشغيلية إدارية فقط، بل هذه المعرفة عامل من أربعة عوامل متداخلة تتحكم في تطوير وتوجيه وإمكانية نجاح أي منصة تواصل اجتماعي.

**أولًا: نموذج الأعمال وانحياز التكنولوجيا للسياق الرأسمالي**

تتم عملية إنتاج التكنولوجيا الرقمية وفق ثلاثة نماذج تطوير :

الأول هو التطوير بقيادة الدولة State-led innovation: وفي هذا النموذج فإن المحرك الأساسي هو متطلبات الدولة، حيث تقوم الدولة بتطوير مشروع رقمي معين نتيجة إحساسها بالاحتياج له، فلا يخضع لقواعد السوق ولا يُشترَط أن يكون ربحيًا، وغالبًا ما يكون -في حال التطبيق- لأغراض عسكرية.

الثاني هو التطوير بقيادة السوق Market-base innovation: هذا النموذج محركه الأساسي الربح ومعاظمة رأس المال. فتُنتج الأدوات التكنولوجية فقط إذا كانت هادفة للربح وتدر عائدًا معتبرًا على رأس المال المُستثمر. فأي مشروع يحتاجه المجتمع ولا يمكن تحويله إلى ماكينة مال لا يمكن تطويره وفق هذا النموذج، وفشله مسألة وقت. هذا النموذج هو ما يحكم معظم منتجات التكنولوجيا الرقمية في عالمنا اليوم.

الثالث هو التطوير وفق برمجيات مفتوحة المصدرFree open-source software (FOSS) innovation: في هذا النموذج المحرك الأساسي هو الإبداع في جو مفتوح يُمكّن المبدعين من تطوير مشاريعهم في غير احتياج من دولة أو انتظار لعائد مادي. هذا لا يعني أن مخرجات هذا النموذج لابد أن تكون غير هادفة للربح، أو أن كلمة Free تعبر عن مجانية منتجاته. لكن تحقيق الأرباح ليس الدافع الأساسي في تطوير منتجات تكنولوجية وفق هذا النموذج كما ذكرنا. وأشهر منتجات هذا النموذج نظام التشغيل Linux الذي يدير معظم البنية التحتية لشبكة الإنترنت، ونظام الهواتف المحمولة Android، ومؤخرًا شبكة عملة البيتكوين وغيرها من مشاريع الأصول الرقمية.

من المهم توضيح أن تلك النماذج ليست منعزلة أو مستقلة عن بعضها بشكل كامل، فعملية احتواء نموذج السوق لكل من النموذجين الآخرين تعمل على قدم وساق، يساعدها في ذلك طغيان السياق الرأسمالي على أذهان معظم الناس. لكن هذا موضوع آخر يمكن التفصيل فيه في مقال منفصل.

**ثانيًا: أهداف السلطة السياسية المُنظِمة للسوق**

تنحاز التكنولوجيا الرقمية اليوم إلى السياق الرأسمالي بقيادة السوق . فكل منصات التواصل الاجتماعي التي نستخدمها طُورت وفق النموذج الثاني Market-base innovation. ولتجسيد أي فكرة لمنصة تواصل اجتماعي، وفق نموذج السوق، يجب أن تأخذ شكل «شركة» لتتجسد الفكرة على أرض الواقع. والشركة لا تُنشأ في فراغ، بل تحتاج لمظلة قانونية تُنظِّم عملها. وهنا نلاحظ أيضًا أن كل منصات التواصل، باستثناء TikTok، أُنشئت وتدار من الولايات المتحدة الأمريكية. فلماذا أمريكا تحديدًا وليست دول أوروبا أو اليابان مثلًا، وكلهم ينتمون إلى اقتصاد السوق الحر؟

تُعتبر أمريكا قائد النموذج الرأسمالي عالميًا، وتعاملها مع التكنولوجيا هو تجسيد للانحياز الرأسمالي ولدورها القيادي في المنظومة الدولية. وللقيام بهذا الدور كان عليها تأمين هذا التوجه عبر مشروعين سياسيين أحدهما محلي والأخر دولي.

محليًا عبر تموضع الابتكار التكنولوجي باعتباره مجالًا غير سياسي داخل النظام السياسي الأمريكي، وعدم خضوع ممارساته للمشاركة الديمقراطية، مُتفاديًا المواجهة مع التيار اليساري الصاعد داخل أمريكا.

ودوليًا عبر استخدام أمريكا لنفوذها الدولي في تنظم الابتكار التكنولوجي عبر المؤسسات الدولية، والمتمثل في أحكام حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة Trade Related Intellectual Property Rights (TRIPS) من خلال منظمة التجارة العالمية WTO.  عبر هذين المشروعين تفرض أمريكا نموذج تطوير التكنولوجيا عبر السوق فقط وتتشكل من خلالهما المنتجات التكنولوجية.

في مطلع تسعينيات القرن الماضي ربطت أمريكا اقتصادها بتكنولوجيا المعلوماتInformation Technology (IT). مكّن هذا التوجه من ظهور فيسبوك وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي والذي لازمه تطوير بنية تشريعية داخلية متماسكة لتنظيم عمل الشركات التي تدير هذه المنصات. ومستندة أيضًا إلى وضع أمريكا المتميز في السياسة الدولية.

لذلك ما رأيناه من تعامل خشن مع المحتوى الذي يتبنى وجهة نظر المقاومة ما هو إلى تطبيق عملي للانحياز للرواية الأمريكية (The American Story) وأدواتها المُنظِمة لعمل منصات التواصل الاجتماعي وقيمها الحاكمة محليًا ودوليًا.

**ثالثًا: الخيارات الفنية أثناء تصميم المنصة**

يعتبر هذا العامل أول ما يأتي في ذهن عموم الناس حين التفكير في إمكانية عمل منصة تواصل اجتماعي بديلة. وهو عامل مهم لكنه ليس محايدًا أو منزوعًا من سياق الواقع الذي تناولنا بعضًا منه في العاملين السابقين. بل هو محكومٌ بهما ابتداءً. والسؤال هنا هو: ما هو المسار الفني الأنسب لتصميم منصة تواصل اجتماعي تنحاز إلى قيمنا أكثر من انحيازها لقيم الواقع؟

لمنصات التواصل الاجتماعي الحالية بنية فنية مركزية Centralized Architecture تعتمد على نموذج الإنترنت المركزي أيضًا، الذي يستبد بحركة البيانات Data وذلك عن طريق الخوادم Servers، وهي بنية شبيهة ببنية الدولة والشركة المركزيتين. هذه الخوادم هي مراكز التحكم الرئيسية في النموذج الفني لمنصات التواصل الاجتماعي. لكن إذا أردنا بنية فنية لا تحمل خصائص هذا السياق الطاغي فيمكن الاعتماد على بنية فنية لا مركزية Decentralized Architecture.


أخذ النموذج الفيدرالي اللا مركزي زخمًا، واستوعب طاقة من رافضي منصات التواصل الاجتماعي المركزية من توجهات ومشارب مختلفة. وبُنيت عليه نماذج كثيرة لمنصات تواصل اجتماعي تباينت في انتشارها وقبولها بين شرائح مختلفة من المستخدمين. يمكن الاطلاع على قائمة المشاريع لهذا النموذج بتفاصيلها من خلال هذا الموقع: federation.info.

يوجد توجهان لتطوير بنية فنية لا مركزية لمنصات التواصل الاجتماعي ، الأول هو النموذج الفيدرالي اللا مركزي Decentralized federated model. إدارة البيانات في هذا النموذج لا تعتمد على مركزية الخوادم Servers كما في النموذج المركزي، بل على شبكة بها عُقد Nodes مركزية، هي منْ لها القدرة على التحكم في حركة البيانات. فبدلًا من أن يكون الخادم Server هو ظل الشركة وانحيازها في الاستبداد بحركة البيانات، يمكن لمُستخدمي منصات التواصل الاجتماعي عمل عُقد Nodes يضعون قواعد إدارتها سويًا، بحيث يكون التحكم وفق ما تُجمِع عليه كل مجموعة.


على الرغم من اختلاف البنية الفنية لهذا النموذج عن النموذج المركزي المتبع في منصات التواصل الاجتماعي اليوم، إلا أن الإحصاءات تقول إن المشاريع القائمة على هذا النموذج تتحول تدريجيًا إلى المركزية، مما يجعلها ليست أنسب خيار فني يمكن الاعتماد عليه في تصميم منصاتنا المنشودة.

التوجه الثاني لتطوير بنية فنية لا مركزية لمنصات التواصل الاجتماعي هو نموذج الند للند Peer-to-peer Model. في هذا النموذج لا يوجد مركز يتحكم في حركة البيانات، بل تكون المنصة عبارة عن شبكة موزعة يتم حوكمتها وإدارتها من خلال مستخدميها. وهذا أنسب نموذج يمكن تبنيه أثناء تصميم منصات تواصل اجتماعي لنا؛ لأن جُل مشاريعه طُورِت وفق نموذج تطوير برمجيات مفتوحة المصدرFree open-source software (FOSS) innovation سالف الذكر، وليس عبر تبني الدولة أو السوق.


نموذج الند للند

توجد اجتهادات فنية لبناء بنية منصة تواصل اجتماعي على نموذج الند للند Peer-to-peer، لكن هذه الاجتهادات لم تُجسَد في مشاريع للاستخدام العام. لكنها طُورت أكاديميًا ونُوقشت في مؤتمرات علمية مرموقة، مثل مؤتمر IEEE الدولي للحاسوب وتكنولوجيا المعلومات، ونُشرت في مجلته العلمية. وكان هناك مقترحات مثل: LibreSocial، وMegaphone، وSafebook، وCuckoo، وغيرها. 

**رابعًا: القدرة على التشبيك The network effects**

لماذا سيترك الناس فيسبوك ليستخدموا منصة شبيهة به؟ لمَ سيتركون كل منْ يتابعونهم ويتواصلون معهم على فيسبوك بينما لا يوجد أحد على المنصة الجديدة، على الأقل لفترة معتبرة من الزمن؟ فلماذا يهجرون القديم وينتقلون إلى الجديد؟

منصات التواصل الاجتماعي مبنية على فكرة التواصل، والتواصل يحتاج إلى شبكة Network تخدمه، فتصبح الشبكة إذن هي القيمة الحقيقية في منصات التواصل. فكلما كانت الشبكة كبيرة كانت قدرة التواصل بين مكوناتها أعلى.

كل مُستخدِم يُضاف لهذه الشبكة يزيد القيمة المضافة للمستخدمين الآخرين، وهذا ما يُطلق عليه «تأثيرات التشبيك» The network effects. فكلما زاد عدد المستخدمين زادت قيمة الشبكة. فيسبوك كمثال بدأ بفكرة لـ «مارك زوكربيرج» هدفها تشبيك مجموعات الأصدقاء في جامعته، جامعة هارفرد، بهويتهم الحقيقية. فنشأت أول شبكة فعّالة، لكن بدون زيادة مجموعات صداقة أخرى لن تزداد قيمة الشبكة بالنسبة لمنتسبيها مع الوقت. فبدأ بإتاحة التسجيل في جامعات أمريكية أخرى حتى وصل لـ 10 جامعات في عام 2004 وأصبحت المنصة ذات قيمة أعلى بالنسبة لعموم المستخدمين. ثم أضاف المدارس الثانوية في 2005، قبل أن يفتح المنصة بعد ذلك لمجموعات الأصدقاء بشكل عام.

دراسة تأثيرات التشبيك The network effects للنماذج الناجحة لمنصات التواصل الاجتماعي مثل Linkedin وTwitter، وغيرهما، مفتاح رئيسي للبدء في أي مشروع جديد.

إذا عدنا إلى السؤال المركزي: هل يمكن عمل منصة Facebook خاصة بنا؟

يمكن اعتبار هذه العوامل الأربعة شروط البدء في أي مشروع لمنصة تواصل اجتماعي جديدة. وإذا طبّقنا هذه الشروط على الاجتهادات العربية المحمودة التي ظهرت مؤخرًا مثل منصة باز Baaz، يمكننا التنبؤ بمسيرتها المستقبلية. فمنصة باز مسجلة كشركة ربحية مقرها كاليفورنيا بأمريكا، وإن كان لها مقر آخر في الأردن. فهي في النهاية تخضع للقانون الأمريكي إضافة لديناميات السياسة الداخلية.

فلو كانت منصة «باز» لها من الحضور في مجتمعاتنا ما لمنصة فيسبوك لما اختلفت كثيرًا عن موقف فيسبوك في أحداث الشيخ جراح وحرب سيف القدس. ليس انحيازًا للغرب ولكن كشركة هدفها الأساسي الربح لن تُقامر بوضعها القانوني والجغرافي، الذي لن يسمح لها بكثير من المناورة.

وبما أنها منصة مبنية فنيًا على النموذج المركزي، من السهل إخضاعها أو حتى غلقها كليًا، حتى إذا تلقت دعمًا ماديًا يمكّنها من تجاوز فكرة الربحية.

الأمر الأهم هو أنها كخدمة مقدمة للمستخدم العربي لا تضيف له جديدًا غير ما في يده. فلماذا يترك شبكات تواصله على فيسبوك ليذهب إليها؟


لم أقصد بهذا المثال انتقاد منصة «باز»، بل هو جهد محمود كما ذكرت وأكرر. لكن علينا التعامل مع الواقع بتعقيداته وتحدياته كما هو، وليس كما نريد له أن يكون.

وخلاصة القول، أي مشروع لمنصة بديلة يستدعي نموذج السوق في تطويره سيحتاج مظلة قانونية وبيئة خصبة لنموه. لن يجد بدًا من إنشاء شركة أمريكية، مما يترتب عليه تفضيل بنية فنية مركزية تُمكّن الآخر من أن يكون له اليد العليا على المنصة والسياسات المتبعة فيها. ولو اجتهد في استيفاء الشرطين الأخيرين ليبدع شكلاً جديدًا من المنصات، سينتهي به الأمر إلى منصة رأسمالية أمريكية موجهة للجمهور العربي تؤدي إلى تقوية خصمه بالقدر الذي تُضعِف أمته. ولنا حديث في مقال قادم عن كيف يمكن عمليًا أن نبدأ مشروع منصة كهذه، آخذين في الاعتبار هذه العوامل الأربعة.

 

 


إضاءات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...