ولاء وتقبيل اليد في المغرب، العلاقة مع السلطة بعيداً عن السجال

13-09-2013

ولاء وتقبيل اليد في المغرب، العلاقة مع السلطة بعيداً عن السجال

الاحتفال عفوياً بعيد العرش

إنه العيد. يقف فتية الحي على أهبتهم، شأنهم شأن أولاد آخرين من القرية، بانتظار «افتتاح الحفل»! بدوري، ارتديتُ ثيابي الجديدة. وعلى الجهة اليسرى من قندورتي (العباءة المغاربية)، علّقت صورة صغيرة بيضاوية الشكل لا زلتُ أذكرها حتى اليوم: كانت صورة للملك.
إنه عيد العرش. لقد جلبنا عشية العيد سعف النخيل من الحقول، ورحنا نشيّد جناحاً ليكون بمثابة مقر عام للاحتفال. هناك سنطلق العنان لعيدنا: الشاي، الليموناضة، أطباق من الحلوى، والروح المرحة.
بُني الجناح من سعف النخيل. كنّا أطفالاً لا نقيم اعتباراً لسلوكياتنا وحركاتنا. مضى وقت طويل قبل أن أفهم كم أن الصدفة لا تصلح لتفسير كثافة ودلالة هذه العملية.من "احتفالات الولاء" للملك المغربي (من الانترنت)

ما هو عيد العرش حقاً؟

يفقد تعبير «عيد العرش» معناه الأصلي حال ترجمته إلى لغة أخرى، لأنه يخسر الحُمْولة التاريخية لنشأته، تماماً كجوهرة فقدت غلافها، كحيوان لكثرة تغيير جلده وتبدلاته، أضاع أصله الأول. لطالما ظننتُ أن العرش يشير إلى الكرسي الذي يجلس عليه الملوك. هذا صحيح، لكن الأمور أعقد من ذلك.
يُقال عن الغصن المائل عرش. العرش هو أساساً السقف، لذلك كان يُطلق على مجموعة من الأغصان المتشابكة تسمية عرش بسبب الظلّ الذي تؤمّنه. في هذا المصطلح إحالة واضحة إلى سلطة أبوية تسهر من علٍ على أبنائها. كما أنّ العرش يشير إلى القائد. من المرجّح جداً أنّ هذه الكلمة، التي أُطلقَت أيضاً على الخيمة كما على القصر، استُخدمَت في البداية للإحالة إلى المشيخات النافذة. وعلى خلفية توفيرها الظلّ، أي العناية والحماية، فإنّ صفات العرش انتقلت إلى المشيخة للسبب ذاته.
إذاً، كان جناحنا المبني من سعف النخيل يحمل في صميمه تاريخاً وقصة. كان يختزن نوعاً من الذاكرة التي تحفظ في أشكال وجودها علاقة سلطوية لم تكن محلّ شكّ بالنسبة لنا. تصرّفات على هذا القدر من الكثافة من قبل أطفال يجب أن تدفع إلى التفكير، خصوصاً عندما لم تتدخل فيها أي سلطة، وعندما تكون تلك السلطة غافلة عن المضمون الحفري لتلك العملية. كان ذلك فعل نقل غير واعٍ للعلاقة بالسلطة، من دون أن يلفت أي انتباه خاص. فمن كان يظنّ أنه في صباح ذلك اليوم، كانت زمرة من الأطفال، وغيرهم كثيرون بكل الأحوال، تعيد تأسيس علاقة سلطوية، ببساطة من خلال بناء جناح كرمزٍ لـ«العرش» القديم الخاص بالقبائل القديمة؟

العلاقة بالأب، العلاقة بالملك

إذاً، كان تشييد الجناح بسعف النخيل ينطوي على تجديد، أو إعادة الصلة بالسلطة المحصورة بنسختها البدائية: رابط السلطة الأبوية. أكثر من ذلك، فإنّ تشييده على يد الأطفال يحيل إلى الشق العاطفي لهذا الرابط، والذي يختلط عند ولادته مع العلاقة بالأب. وهكذا تكتسب كلّ حركات الخضوع التي يمكنها أن تكون صادمة في العلاقة بالسلطة، شرعيةً طبيعية، هي وليدة زخم التضامن العائلي، والدور الحامي للأب. تلك الحركات المطبوعة بالرقة والدفء، تكرّس وترسّخ رابط السلطة الجنينية الذي سينتج فيما بعد تبدلاته المتعاقبة. ما الذي قد يكون طبيعياً أكثر من تقبيل يد الأب، والانحناء لتقبيلها، بما هو تعبير قوي للحب الذي نكنّه له، وللعرفان تجاهه. نحن هنا أمام جذور الولاء.
هو إذاً القرب الشديد في العلاقة بالأب ما يفسّر تلك الاندفاعات. ونجد هذا الجانب في مصطلح الولاء، الذي ينحدر من فعل الولي، أي القرب الشديد الذي يدفع إلى الركوع طبيعياً أمام الأشخاص الذين نحبّهم، خصوصاً الأب. أما الولاء، فهو مرادف للمسافة بالنسبة للسلطة، نظراً لاتساع نطاق نفوذها. ويأخذ القرب الشديد من رب العائلة في بنية عائلية نواتية، أشكالاً وأنماطاً أخرى عندما يتم استنساخه في بنية أوسع بكثير. هكذا، فإنّ الانتقال الذي حصل ببطء، وعلى مدى التاريخ، من الإطار الأضيق (ميكرو) إلى الإطار الأوسع (ماكرو)، قد تمدّد بطريقة خفية من نمط التعبير الجسدي للعاطفة/الخضوع للأب، الى العلاقة بالملك.
ذاك هو معنى الاحتفال بالعيد في ذاك الصباح بقرية نائية من قبل جيل أطفال من أبناء مرحلة ما بعد الاستقلال، يعلنون الولاء، بشكل طبيعي ومن دون إثارة أي ريبة. وكأنّ السلطة كانت مولودة لتوّها في تلك الحقبة، وقادرة على ادّعاء هذا القدر من المودّة التي توفّرها لها مرحلتها «الطفولية». كان ذلك الاحتفال الذي يحييه الأطفال، يجسّد كل البراءة المتضمنة والممزوجة بالخضوع الأصلي للأب.

مجتمع آخر... تمثلات أخرى

مذاك تغيّرت الأمور كثيراً. أثرت الديموغرافيا على البنى المجتمعية القديمة الحارسة للبذور التقليدية للعلاقة بالسلطة. بات سكان المدن أكثر عدداً من الريفيين الذين لم يعودوا منعزلين فكرياً. لم يعد تقبيل الأيادي دارجاً في العائلات حيث بات الطفل ـ الملك يستحوذ على مزيد من السلطات. ثم قوّضت المدرسة الحديثة أسس تمثلات السلطة كما كانت مألوفة بالنسبة للجيل السابق. إنّ البُنى الجديدة للسلطة، في ظلّ جهاز دولة منفصل عن المجتمع وبعيد عنه، ومَلَكية تتكاثر وتتعدد الدوائر من حولها، هي جميعها عوامل تُرسّخ المسافة التي تفصل بين الفرد والسلطة.
والولاء مثلما هو منظَّم اليوم، فضلاً عن تقبيل اليد ـ وهما ينحدران من المنطق نفسه ـ لم يعد من الممكن إدراكهما بالطريقة نفسها التي كانت سائدة سابقاً. فالسلطة هي في آن بعيدة وقريبة بفعل انتشار وسائل الإعلام. وتبعث السلطة صورة لا تتطابق تماماً مع النموذج الاجتماعي الجديد. كما أن شباب اليوم باتوا غير قادرين لا على تصوّر جناح من سعف النخيل ولا على تشييده، فهم فقدوا تلك الذاكرة. وأسباب ذلك أعمق بكثير وأكثر بنيوية ممّا توحيه المعالجة السائدة والسطحية لتلك الأسئلة.

محمد الناجي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...