يوم في حياة رشيد الضعيف

05-09-2006

يوم في حياة رشيد الضعيف

أنهض عادةً وأتحقّق من وزني، فإذا كان زائداً عن المعتاد غراماً واحداً يتعكّر مزاجي، وأروح أتذكّر ما أكلت البارحة وأيّ خطأ اقترفت وأروح ألوم نفسي على ضعف إرادتي، لكنّي اليوم عزوت هذه الزيادة إلى القصف وانقطاع الكهرباء وتوقّف البرّاد عن العمل واضطراري إلى أكل ما يجب ألا آكله، وعزوته أيضاً إلى التوقّف عن المشي، إذ لا "يجمع البال" على المشي في هذه الظروف الصعبة على كورنيش المنارة الخطر والحزين.
تناولتُ سيجارةً من علبة الدخان قرب فراشي وشممتها بعمق بضع مرّات ثمّ رميتها. توقّفتُ عن التدخين منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، واستعضت عن ذلك بشمّ سيجارة كلّ يوم ورميها.
هذا الاهتمام بالصحّة أميركيّ المصدر، قلت في نفسي، إنه ثقافة أميركيّة واردة إلينا. إن هذا الاهتمام بالجسد عبادة، ودين جديد. تأتي الآلهة عادة من الشرق، لكنّ هذا الإله جاءنا من الغرب، الغرب البعيد، أميركا، فهل من صلة بين هذا الكلام والغزو الأميركي للمنطقة؟
هذا ما فكّرت فيه هذا الصباح، بعدما وزنت نفسي وتنشّقت بعمق رائحة سيجارة. وفكّرتُ أيضاً أن الطائرات الإسرائيليّة التي قصفت الضاحية هذا الصباح، وأرعبت سكّان بيروت النائمين على أمل وقف إطلاق النار، أميركيّة الصنع، وأنا أميركيّ الدِّين. هكذا تواردت الأفكار في رأسي.
ليست حياتي منتظمة تماماً، وليس لأيّامي بنية موحّدة، ولا يجري يومي حسب خطّة رسمَتْها الأيام، كما يُحكى عن نجيب محفوظ أنّ الناس تضبط ساعاتها على مواقيته، لكنّي أذهب عادةً كلّ يوم أستطيع فيه، إلى مقهى الكافيه دو باري، نحو الظهر، حيث نتحلّق، عدداً من الأصدقاء والأصحاب، حول عصام، أبو حازم، قبيلةً متناحرة أحياناً يضبط خلافاتنا. لكنّ عصام سافر إلى أبو ظبي أوّل أيّام الحرب، وفي غيابه انفرط عقدنا، فلم أعد أذهب إلى الكافي دو باري. فإلى أي مقهى أذهب هذا اليوم؟ وأنا في زمن الحرب أقيم في المقاهي، لا أفعل شيئاً غير ذلك. لا كتابة ولا قراءة ولا شيء آخر. والبقاء في البيت بدون كهرباء غير وارد، فالحرارة المتوقّعة اليوم ثلاث وثلاثون درجة والرطوبة خمس وثمانون. (يا زمان "تقنيّات البؤس"!)
لقد انقسمنا، قبيلةَ الكافي دو باري، إلى من يركّز على بطولات المقاومين وصمودهم الأسطوري ومن يركّز على جدوى المقاومة وخطرها على وجود لبنان وكيانه. إنّه انقسام جدّي، قد يصبح خطراً في غياب عصام. فإلى أيّ مقهى أذهب اليوم؟
أنا في العادة لست قارئ جريدة، فذلك ليس في طبعي، ثمّ إنّ قراءتها تتطلّب وقتاً لا أملكه. أشتري جريدة حين أشتري ورقة يانصيب (لأجرّب حظّي!)، مرّة كلّ شهرين أو ثلاثاً، يوم الجمعة، لأقرأ نتائج السحب، ثمّ يشغلني أمر ما عن قراءتها في أغلب الأوقات. قد أكون ربحت ذات يوم جائزة كبرى ولم أدرِ بها. ولست مشاهداً مدمناً للتلفزيون، معدّل جلوسي أمامه في اليوم ضئيل جدّاً.
لكنّي مع بدء الحرب الأخيرة أدمنتُ قراءة الجرائد ومشاهدة التلفزيون، إلى أن ارتويت ولم أعد أحتمل. قلت: يكفيني ما أراه بعينيّ من القصف وما أسمعه بأذنيّ، لأنّ كلّ قذيفة كنت أقرأ عنها، كانت تفجّر فيّ شرياناً أو عصباً، فأنا بطبعي أحبّ العمران، وخصوصاً بعد خمسة عشر عاماً من ذلّ التدمير ولاجدواه. كنتُ أثناء إعادة الإعمار في التسعينات أتناول فطوري أحياناً على ورشة جسر أو طريق أو مبنى. كان يمتّعني ذلك ويشرح صدري كأني أمام شلالات نياغارا. كنتُ أشعر بفخر وأنا أرى لبنان يعمر من جديد، وكنتُ أشعر بالعزّة والكرامة.
وقلت: يكفيني النظر من شبّاك بيتي إلى المدرسة التي تعجّ بالنازحين من الضاحية. وكلّهم من عائلات أعرف أسماءها. أسماء أهل وزملاء وطلاّب وآخرين. أسماء كريمة.
قرّرت إذاً هذا الصباح أَلاّ أقرأ جريدة وألاّ أسمع راديو وألا أشاهد تلفزيوناً. لم أعد أتحمّل الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام المختلفة عن فئة من الذين يتعاطفون معنا، ومنهم فنّانون وكتّاب وما إليهم. لا أرضى بأن يكون لبنان مسرحاً حيّاً يُلهب مشاعرهم، ثمّ بعد ذلك ينامون مرتاحي الضمير، بعد أن يكونوا قد حضروا مشاهد عن سقوط ضحايانا وتدمير اقتصادنا وتضحيات مقاتلينا، وذرفوا دمعاً سخيّاً.
وقرّرتُ أَلاّ أحضر الأخبار التلفزيونيّة لئلاّ أرى اندفاع الكثير من مذيعات هذه الفضائيّات ومذيعيها المناضلين عن قضايانا الكبرى، ضدّ الظلم والقهر والعدوان، حتّى آخر الليل والكلام، مقابل آلاف الدولارات شهريّاً. فهل أجمل من ذلك؟
(ما أصعب أن تكون فلسطينيّاً في غزّة!)
كل من وقف إلى جانبنا مشجِّعاً عليه أن يدفع ثمن تشجيعه لنا. لا اقبل بأن يكون التشجيع مجّانيّاً. هذا ما تقتضيه كرامتنا، وما يقتضيه ذكاؤنا.
وصلتُ إلى المقهى، الذي اعتمدته هذه الأيّام، باكراً، وليس في يدي جريدة ولا كتاب، وجلست أتأمّل الطريق شارد الذهن، إلى أن وقع نظري على مسؤول من الصفّ الأوّل يخرج من المبنى الذي فيه المقهى، وهذا المسؤول لو انتشر خبره لقصفت الطائرات المبنى بلا ريب، فاضطربتُ من دون أن أظهر ذلك، وانتظرت أن يصل "ف" حتّى أتدارس معه الأمر. قال "ف" إنه ينام هنا منذ يومين. وكانت النتيجة التي توصّلنا إليها معاً بعد التداول أنه إذا هجرنا المقهى نكون افترضنا أن إسرائيل على علم بتنقّلاته، أمّا إذا بقينا نرتاده فنكون افترضنا أن تنقلاته لا يدري بها أحد. لذلك بقينا. لكننا قرّرنا أن نكتب رسالة إلى عصام بالهاتف النقّال، نقول له فيها كلاماً يحضّه على العودة فوراً، من أي طريق كان، فلن نعود إلى مقهانا بدونه، ولن يستطيع أحد أن يضبط خلافات القبيلة غيره. فاتصل بنا في الحال وكلّمنا وهو يحبس دمعه، فالمطار مقفل والحصار على أشدّه.

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...