تأثير الثقافة الأمريكية على أوروبا

27-05-2006

تأثير الثقافة الأمريكية على أوروبا

في فيلم "لاشك ان الآلهة مجانين" (The Gods Must Be Crazy)، المُنتج عام 1980 يلقي طيار يقود طائرته عبر صحراء كالاهاري في بوتسوانا زجاجة كوكا كولا فارغة في وسط قبيلة أفريقية. فيعتبر السكان الأصليين على الفور بأن الزجاجة هدية من آلهتهم. ولكن "الهدية" تُغيّر التقاليد والمفاهيم الاجتماعية السائدة لديهم نحو الأسوأ. وفي نهاية المطاف تُرسل القبيلة أحد أعضائها لإلقاء الزجاجة في مكان بعيد يعتقدون على أنه حافة الكرة الأرضية.

يوفّر هذا الفيلم تبصراً في ما أصبح يُعرف باسم "النقاش العظيم": هل أن الأميركيين "إمبرياليون ثقافيون" يقومون بغزو وإفساد بقية العالم من خلال نشر ثقافتهم الشعبية في كل مكان.

صحيح، كما يكتب ريتشارد بيلز، أن الكثير في ما يُشكِّل ثقافة شعبية أميركية اليوم، يعود أصله إلى مزيج من التأثيرات الأجنبية خلال القرن العشرين. لكن هذا الرأي لا يًفسر سبب انتقاد هذا العدد الكبير من الناس حول العالم ما يعتبرونه "استعماراً ثقافياً أميركياً". كما أنه لا يُفسر لماذا أصبحت هذه الفكرة بمثل هذه القوة على امتداد القرن المنصرم. وإذا رغبنا في أن نفهم بشكل أفضل هذا الإدراك الحسي يجب علينا ان نأخذ بعين الاعتبار تركيبة وتأثير الثقافة الأميركية في الخارج، كما يفعل بيلز، علاوة على مدى قبولها من جانب غير الأميركيين.


السفير الأميركي لدى باكستان، ريان كروكر، يتحادث مع الباكستانيات اللواتي تلقين منحة فولبرايت في نيسان/أبريل 2005.
(آنجون نافيد/ آسوشييتد بريس)
 
الخلفية التاريخية

إنها لمفارقة غريبة في التاريخ الأميركي أن تكون دولة أثارت منقولاتها الثقافية هذا القدر الكبير من الجدل، إذ أنها نشأت دون اهتمام يذكر في تصدير الثقافة. رأى الأميركيون، تاريخياً، تمايزهم بصورة أولية من خلال نظامهم السياسي أكثر مما رأوه في شعرائهم، وفنانيهم، وكتّابهم الروائيين. فهم يعتبرون على أن ثقافتهم الشعبية، بوجه عام، مصدر للترفيه الشخصية أكثر منها أداة للسياسة الخارجية. لم يفكروا بجدية مطلقاً في إنشاء وزارة ثقافة ضمن الحكومة الفدرالية. وفي عام 1938 أنشأت وزارة الخارجية قسم العلاقات الثقافية، لكن مسؤولين أميركيين عديدين انتقدوا استخدام الثقافة كأداة دبلوماسية. وحتى اليوم لا زال يعتقد معظم الأميركيين أن الثقافة تنتسب إلى حيّز الإبداع، والذوق العام، والمبادرات الفردية الحرة، وليس إلى الحيّز الحكومي.

لكن الوضع تغير بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فخلال الحرب الباردة قرر الدبلوماسيون الأميركيون أن الولايات المتحدة بحاجة إلى الدفاع عن طريقة الحياة الأميركية في الخارج. وفي الوقت الذي كان يسعى فيه الاتحاد السوفياتي إلى تصدير الشيوعية سعت شخصيات عامة، كما سعى صانعو السياسات في أميركا، إلى ممارسة نفوذ أكبر عبر الثقافة حول العالم وخلال السنوات التي تلت يوم النصر في الحرب العالمية الثانية أنشأت الحكومة الأميركية عدداً من المنظمات والبرامج مثل وكالة الإعلام الأميركية وبرنامج فولبرايت للتبادل الثقافي، الذي شجع نقل المعلومات حول الثقافة الأميركية.

من وجهة نظر موضوعية، لم تكن بالطبع الولايات المتحدة أول بلد يُصدّر طريقة حياته. منذ عصر النهضة، رعت دول أوروبية مجموعة متنوعة من برامج التبادل الثقافي. فقد صدَّر البريطانيون في الهند والشرق الأوسط، والألمان في أفريقيا، والفرنسيون في الهند الصينية، ثقافتهم إلى الخارج لتكون أداة قوية لتعزيز التجارة، والتبادل التجاري، والنفوذ السياسي، ولاجتذاب النخبة من الناس لتحقيق أغراضهم الخاصة. كشفت دراسة أجرتها منظمة الأونيسكو عام 1959 أن ما يزيد عن نصف عدد الدول الواحدة والثمانين التي جرى استطلاعها، ومن بينها جميع الدول الكبرى، كانت تنظّم برامج رسمية للعلاقات الثقافية. تعتمد بعض نشاطات دول المجموعة الأوربية اليوم على الدبلوماسية الثقافية الجماعية، أي إنشاء منظمات تُعزز نشر اللغات وتبادل المعلومات الثقافية.

وتقليدياً، تقوم الأرجنتين، والمكسيك، ومصر، والسويد، والهند بتصدير وسائلها الإعلامية إلى البلدان المجاورة. كما أن امتلاك الشركات الأجنبية لاستوديوهات هوليوود خلال السنوات الأخيرة أثار التساؤل حول ما إذا كان الأميركيون قد تحولوا من "إمبرياليين ثقافيين" إلى ضحايا عمليات الامتلاك الأجنبي لها. ولكن حتى لو لم تكن الولايات المتحدة أول دولة تقوم بتصدير طريقة حياتها، فقد ركّز الناقدون الأجانب مخاوفهم من المستقبل على الولايات المتحدة.

في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، على سبيل المثال، شهدت أوروبا الغربية ازدياد الاحتجاجات ضد الأميركيين، كالمجموعات الداعية إلى السلام، والمظاهرات الحاشدة ضد الوجود العسكري الأميركي. وتوسعت هذه الحركة المناهضة للأميركيين بسرعة في أوروبا لتشمل شؤوناً ثقافية. اعتقد النقاد أن المنتجات الأميركية مارست نفوذاً تجاوز بكثير مدى شعبيتها لدى المستهلكين. بدت السلع الأميركية على أنها لا تسيطر على الأسواق الأجنبية فحسب بل وأيضاً على العقول الأجنبية. في نظر العديد من المثقفين الأوروبيين، على ما يبدو، أصبحت الثقافة الجماهيرية، أفلام هوليوود، والروح التجارية تهدد السيادة والتقاليد الأوروبية وكذلك النظام الاجتماعي الأوروبي الذي يستند إلى الثقافة المطبوعة. بدت أيضاً الثقافة الجماهيرية على أنها تطمس تمايزاتهم الاجتماعية، وتتجاوز حدود الدولة القومية وتوسع السواق التجارية للرأسماليين.

مع ذلك، فإن ما يُبلغك إياه فلان عن علاّن يُبلغك أكثر من ما يخبرك عن علاّن. فما يعتقده الناس حول العالم بشأن الثقافة الأميركية يخبرنا عن هؤلاء الناس أكثر مما يخبرنا عن الولايات المتحدة.

الثقافة والعولمة

اليوم، يندب سياسيون ونقاد ثقافيون عديدون حول العالم تدفق الأفلام الأميركية، فمثلاً يقلق الممثلون الأوروبيون فيما يعود لتمايزهم الثقافي، ويخشون من أنهم فقدوا بالفعل الكثير من جماهير مشاهديهم لمصلحة المنتجات الأميركية. ندد بعنف وزير الثقافة السابق في فرنسا، جاك لانغ، في مقابلة جرت معه عام 1990 بالاستعمار الثقافي الأميركي كان عنوانها الصحفي الرئيسي "كلما علا القمر الصناعي كلما تدنت الثقافة". لم يكن هذا الانتقاد جديداً. ففي السبعينات من القرن الماضي كتب الأستاذ الجامعي التشيلي أرمان ماتلارت، والروائي والناقد أرييل دورفمان مشورة مؤثّرة حملت عنوان "كيف نقرأ دونالد داك"، نددا فيها بالرؤية المشوهة للواقع في نظر هوليوود، ودعيا إلى تحرير الشعب التشيلي من خلال الثقافة الخاصة به.

تجد دول صغيرة، شعوب نائية، وقبائل غير معروفة طريقها إلى العناوين الرئيسية للصحافة الدولية، من خلال احتجاجها الضاج ضد التأثيرات الغريبة. فمن أيسلندا إلى أميركا اللاتينية، من أفريقيا الوسطى إلى الفليبين، يحزن، وفقاً لما نسمعه، ممثلون لبلدانهم لزوال ثقافتهم نتيجة النفوذ المتفاقم للتلفزيون والثقافة الانجلو أميركية.

ولكن، ومن عدة طرق فإن فكرة "الإمبريالية الأميركية" تبقى غير كافية. فقد أكد عالم الاجتماع جون توملينسون أن هذه الظاهرة قد لا تكون ببساطة سوى أفكار الحداثة، وهي عملية نفقد من خلالها الثقافات المحلية، وليست توسعاً ثقافياً. فالتقدم والتشامل التكنولوجي والاقتصادي العالميان يقللان من أهمية الثقافة القومية. لذلك من الخطأ إلقاء اللوم للتطور العالمي على بلد واحد. بدلاً من ذلك، فإن كافة البلدان تتأثر بالتغيير الثقافي العالمي.

في المستقبل، قد يكون مصطلح "العولمة" يعني القدرة على الحلول محل الانتقاد للاستعمار الثقافي الأميركي. تشير العولمة إلى انضغاط العالم كما إلى الإدراك المتنامي بأن الكرة الأرضية كيان متكامل عضوياً. رغم أن الكثيرين يتحدثون بكل بساطة عن العولمة كظاهرة اقتصادية، فهي ظاهرة متعددة الأوجه في أسبابها وتأثيراتها. يشمل هذا المصطلح المبهم بنوع ما العديد من خاصيات انتشار الرأسمالية، والتكنولوجيا، ومنطقية التفكير الغريبة. مع ذلك، تكمن الفكرة المركزية في أن الثقافات والمجتمعات لا تتراكب بالضرورة مع حدود الدولة القومية. بكلمات أخرى، قد لا تقع مسؤولية انتشار الثقافة الجماهيرية الحديثة على عاتق الولايات المتحدة.

خلال العقود الأخيرة، انتقل الكثير من الانتقادات الدولية "للإمبريالية الثقافية" بعيداً عن الخط المناهض للأميركيين إلى مستوى عالمي أوسع دون تسمية عدو يمكن تعيينه. وحتى النقّاد الرئيسيون للولايات المتحدة أعادوا ترتيب لومهم السابق ليتناسب مع هذا الرأي. وحتى في عام 1980، قام ارمان ماتيلارت بالتحذير من الاستعمال العريض وغير الملائم لمفهوم "الإمبريالية الثقافية" فشدّد على أن المصطلح لا يعني ضمنياً وجود مؤامرة خارجية بل يمكن أن يتشكل فقط من مجموعة متوافقة من القوى الدولية والمحلية (النخبوية).

فإذا كانت فكرة السيطرة الثقافية للولايات المتحدة مُعرّضة لمثل هذا القدر من عدم اليقين، فلماذا إذن تضخم الشعور المناهض للأميركيين في كل مكان تقريباً من العالم خلال العقود الماضية وحتى اليوم؟ كثيراً ما تتعلق الأسباب بالولايات المتحدة أقل من تعلقها بالمحتجين أنفسهم. بمفهوم معين، لا توجد مناهضة ثقافية ضد الأميركيين بل فقط مجموعة متناظرة من العبارات غير المتجانسة لهذه الظاهرة مُتكيّفة مع الهواجس الجغرافية والدورات الطبيعية التاريخية. لا يختلف شكل ومحتوى هذه الظاهرة طِبقاً لأبعادها الحيزية فحسب، إلى بل وأيضاً استناداً إلى أبعاده الزمنية: لكل عصر ولكل مجموعة أشكالها الخاصة بها في المناهضة للثقافة الأميركية. في القرن العشرين، تركزت الكثير من هذه الانتقادات، على الجانب الاقتصادي للصادرات الثقافية الأميركية. ويبدو أنه في القرن الواحد والعشرين، سوف يقلق الناس أكثر بشأن تداعيات القوة الأميركية على السياسة العالمية.

خلال الحرب الباردة، نشأت أساساً الانتقادات الفرنسية المناهضة للسياسة الأميركية من انشقاق الشيوعية والاشتراكية. نددت المناظرات العلنية بالتوسع الأميركي، بالحلف الأطلسي، وبما كان يعتبر انه التأثير المفسد للفن الأميركي، والتي كانت تُرعب جميعها النخبة من الفرنسيين، لكن ليس جماهير الناخبين. بدلاً من ذلك، سحر مفهوم "طريقة الحياة الأميركية" جيلاً بكامله من الفرنسيين الشباب الذي عشقوا الاستهلاكية، ومستويات المعيشة الأعلى، والنمو الاقتصادي.

القضية الفرنسية مفيدة لأنها تشير إلى المفارقة الأساسية لمسألة الشعور المناهض للثقافة الأميركية: في أي نقطة زمنية كان هذا الانتقاد، ولا زال، من غير الممكن اعتباره دون وجهه الآخر، أي محبة الثقافة الأميركية. ويمثل التوتر بين هذين الوجهين الشرط اللازم بذاته لدعم بقاء كلا الوجهين: فالتوقعات العالية والسقوط المرير للأوهام يتصلان دوماً بشكل وثيق.

ويبقى أن أكثر الدول قوة كانت تواجه الدرس التاريخي الأساسي بأن القوة تولد الريبة، وبأنه كلما ازدادت القوة التي تسلطها دولة مسيطرة كلما ازدادت عدائية الدول الأخرى لها. خلال الفترة بين الحربين العالميين، وحتى خلال السنوات الأولى للحرب الباردة، أدرك عدد من المراقبين السياسيين والمراقبين الثقافيين هذه النقطة وانذروا صانعي السياسة الأميركية حول تداعيات هذا التطور. وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة قوة عالمية عظمى كان من غير الممكن للناس في الخارج، بكلمات العالم اللاهوت الأميركي راينهولد نيبور، "أن يكرهنا الذين يملكون السلطة عليهم"، وهذا صحيح وفق مصطلحات ثقافية وسياسية. عند الإمعان في التفكير بمستقبل العولمة والدور الذي سوف تلعبه الولايات المتحدة في هذا السياق، فقد ترغب في تذكر كلمات هذا الرجل الحكيم.

 

المصدر: تحديات العولمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...