مالذي أوصل الخطاب الديني إلى هذا الإيقاع العصبي المتهور

28-05-2006

مالذي أوصل الخطاب الديني إلى هذا الإيقاع العصبي المتهور

الدعوى موجهة للمسلم والمسيحى.. سواء كانوا رسميين، شيوخا وقساوسة، أو شعبيين، نجوم فتاوى حارقة، وبرامج تزييف الدين.. أو الدراويش. أن يتحرر الرسميون من إغواء السلطة والسياسة وحكم الناس بسطوة النص.. ويتحرر الشعبيون من إغواء الأضواء والثروة.. ويتحرر الدراويش من تلك التبعية المهينة للرسميين والشعبيين رغم أنهم إما موظفون أو سحرة. هكذا يمكن تجديد خطابنا الدينى.. البالى.

أسباب كثيرة أدت إلى وصول خطابنا الدينى إلى هذا الإيقاع العصبى، المتهور.. لكنها مهما زادت، وتفرعت، تظل ثانوية أمام كارثة «تسييس الدين» اقتحامه عالم السياسة، أو إقحامه فيها.. وهى عوالم تفرض على محترفيها القفز أحيانا فوق «شوفانية» الدين.

تاريخ طويل، معقد، مرتبك، حافل بالمغالطات والزيف والدموية.. وصل الآن إلى مرحلة الغياب شبه الكامل والمؤسف للمؤسسات الدينية، أصبحت كيانات كارتونية، روتينية، تجمع موظفين احترفوا إقامة الشعائر والطقوس بمنتهى الفتور، وتعميق سطوة النص لتحريك المشاعر الساذجة، وكان ذلك بالطبع على حساب الجانب الروحانى. هذه المؤسسات التى تداعت، لم تكن - حسبما قال الباحث كمال زاخر لمجلة أخبار الأدب - مؤهلة للعب هذا الدور، وغير منوطة به.. ذلك أن أدوات السياسة مختلفة عن أدوات الدين.. الدين ثابت والسياسة متحركة، متغيرة. ولا يصح أبدا خلط الثابت بالمتغير، أو استخدام أدوات المتغير فى طرح الثابت. تداعى المؤسسات الدينية وحقد العامة على انسحاقها أمام جبروت السياسة، فتح الباب على مصراعيه أمام المغامرين الذين حققوا جماهيرية واسعة، بالوقوف على طرفى نقيض من الموظفين.. ابتكروا «نيو لوك» فى الملابس، أصبحت تتابع خطوط الموضة، صاغوا فتاوى حارقة، أبسطها يحقق صدمة الشهرة.. أداء صوتى زاعق، ظاهرة ضد استكانة واستاتيكية الموظفين، وباطنه ألعن. تفشى خطاب جماعة «الإخوان المسلمون» الدموى، غازل حلم استعادة زمن الفطرة، نفوا الآخر سواء كان مسلما أو مسيحيا، ربطوا الدين بالمصالح اليومية للناس، وعمقوا فكرة أن الكون إسلام ومسلمون فقط، والباقى مجموعة من الكفرة والملاعين. الخطاب الإخوانى الدموى انطلى على كثيرين، لا يقبلون فكرة أن يسكن المسلمون ذيل القائمة، وهم الذين كانوا بالأمس البعيد الأوائل. ولم يكن أمامهم بدائل غير خطاب الإخوان الانتحارى.. هكذا كانت الهتافات الإخوانية أيام الانتخابات.. أنت مطالب بالتصويت إليهم «حتى ينصر الله الإسلام».. منتهى العبث.

لكن.. الأقنعة لا تستمر فى إخفاء الوجه الحقيقى طوال الوقت، والوجه الحقيقى للإخوان قبيح، وقد تجلى فى أوضح صوره بعد فوزهم بـ «88» مقعدا فى البرلمان، حيث كشر المرشد العام لهم «مهدى عاكف» وراح ينفث غله بحواره الشهير لـ «سعيد شعيب» «طز فى مصر وأبو مصر واللى فى مصر»، وبتلك «الجزمة» التى رصدها للمخالفين والمختلفين. قال المرشد العام، وراعى أنه يقول لطالب جامعى: عندما نصل إلى الحكم.. سنضرب المعارضين لنا بالجزمة. والمؤكد أن من يقرأ هذا الكلام سيزداد غلا وغضبا على كل أولئك الذين سمحوا لهذا التنظيم السرطانى بأن ينتشر ويتمدد. تفشى أيضا خطاب الدعاة الشو.. عمرو خالد ورفاقه.. خطاب يستمد قوته من دعم المذهب الوهابى الجاف.. خطاب بلا روح أو فكر أو منهج. مجرد طقوس تفرغ الدين من محتواه الروحى لصالح طبقة يستنزف ثروتها الدعاة الشو.. حيث يشعر أصحابها بأنهم جمعوها بكثير أو قليل من التجاوزات. لقد أصبح لدينا أكثر من إسلام - على حد ما كتب حسين ديبان - إسلام مكة الضعيف المهادن وإسلام المدينة القوى المتجبر.. إسلام يحض على العلم والدعوة إلى طلبه ولو فى الصين، وإسلام التداوى بالحجامة وبول البعير.. إسلام النظافة من الإيمان، وإسلام شرب الشراب وأكل الطعام حتى لو وقعت فيه ذبابة، ذلك أن فى أحد جناحيها «داء» وفى الآخر «دواء» كما هو منسوب لنبى الإسلام، إسلام أفرز مجموعة رهيبة من المهاويس يمثلهم المسلم الباكستانى محمد عارف الذى قتل فتاة تايلاندية ثم اغتصبها وهى ميتة! ثم قطع جسدها إلى أجزاء، وألقى كل جزء فى نهر من أنهار العاصمة «بانكوك».. جريمة بشعة، خسيسة، ربما لم يسجل التاريخ مثلها - والأبشع من الجريمة ذاتها، اعتقاد محمد أنه حقق انتصارا دينيا حين قتل واحدة من الكفرة. هؤلاء المغامرون يستغلون المغالطة الرهيبة التى اكتشفها حسين عبدالعزيز قارئ منية سندوب بالمنصورة، وهى أن المسلم فى خدمة الإسلام مع أن للدين ربا يحميه، والدليل فى الكعبة التى تعرضت لحدث واحد مرتين نجت فى الأولى، واحترقت فى الثانية، فعندما تعرضت الكعبة للهدم على يد أبرهة وأفياله، أنقذها الله بالطير الأبابيل إذ لم يكن هناك من يمكنه أن يقف فى وجه هذه الجحافل.

وعندما تعرضت للحرق والتدمير بأيدى المسلمين، لم تتدخل السماء لحمايتها، فى الأولى كان الحدث دينيا، وفى الثانية كان سياسيا، هذا يعنى - من وجهة نظر القارئ - أن المسلمين هم الذين يقفون فى وجه الإسلام الحقيقى. ثم لماذا لا يتذكر هؤلاء الذين ينطلى عليهم الخطاب الدموى أن المسلمين الأوائل كانوا يخيفون الدنيا بجاذبية الفكرة وبراءتها، وليس لأنهم جيوش قوية، لأنهم فى الحقيقة لم يكونوا جيوشا أصلا، بينما الآن يتراجع الإسلام ويدخل فى دائرة اتهامات تخيف المسلمين رغم أنه أكثر عددا وعدة، هذا يعنى أن الإسلام الحقيقى يكاد يختفى أمام انتشار الخطاب الدموى للمغامرين.

الخطاب الدينى متعصب على الجانبين، الإسلامى والمسيحى، هكذا كتب د. القس إكرام لمعى لموقع الأخبار السارة، وأضاف: بسبب أن الدعاة فى الجانبين غير مؤهلين وطنيا لحمل مسئولية الخطاب الدينى المستنير، كما أنهم توارثوا الخطاب الدينى المتعصب لعشرات السنوات، والخطيب الدينى المستنير لا يجد شعبية له، فضلا عن أنه دائما يواجه باتهام أنه موالٍ للدولة، وأنه يمسك العصا من المنتصف، بينما صاحب الخطاب الغوغائى يحقق شعبية منقطعة النظير.. والسبب أننا نعيش فى أمية تزيد نسبتها على 60% وأمية متعلمين تزيد على 80%، أى أن نسبة المستنيرين لا تزيد على 2% وربما أقل، وهذه هى الطامة الكبرى. الكنيسة أيضا من دخول المنطقة التى سبق ودخلها الأزهر، جذبتها السياسة، حتى حاولت الكنيسة أن تكون بديلا عن الدولة فى حل مشاكل الأقباط، انسحب الأقباط من المجتمع وممارسته واستسلموا بصورة كاملة لحضن الكنيسة، كتمهيد لأن تتبنى الكنيسة مشاكلهم، الأمر الذى رآه الكاتب جمال أسعد عبدالملاك، المصدر السابق حول مشاكل الأقباط من مشاكل سياسية واجتماعية لمواطنين مصريين الدولة هى المسئولة عن حلها، إلى مشاكل طائفية، الكنيسة هى المسئولة عن حلها، مما أعطى بعدا خطيرا لا يتناسب مع أسبابها، وذلك أرضى الضمير الجمعى للمسلمين من أن هذه المشاكل لا تخصهم، وليست جزءا من مشاكل المصريين جميعا. ولأنه ليس فى مقدور الكنيسة، أن تلعب هذا الدور، فقد تفجرت المشاكل القبطية إزاء إصرار الكنيسة على تطبيق حرفية النص، لم تعد هناك مساحة يمكن أن يلتقى فيها الطرفان، يتجلى ذلك فى مشاكل الطلاق والزواج والزنى، وشلح القساوسة، فضلا عن أن الكنيسة الأرثوذكسية ذاتها تنفى بقية الطوائف المسيحية، وهى ترضى أنه لا بديل عن ذلك النفى والتمسك بالخطاب الدينى نفسه، حتى تحافظ على وحدة الكنيسة على الأرثوذكسى فى كل مكان، ليس داخل مصر وحدها، وإنما خارجها أيضا.. فأى تجديد، وخلق مساحة من المرونة، قد يهدد مركزية الكنيسة.

وربما لا تدرك الكنيسة المشغولة بالصدامات الداخلية، أن عموم الأقباط - كما هو بالنسبة للمسلمين - يشتكون من أن العقيدة تصلهم بصعوبة، العارفون ببواطن الرموز لا يبسطون المفاهيم.. الأشياء أصبحت ملتبسة ومربكة. هذا الأداء المحبط للقيادات الكنسية وجه عيون شريحة من الأقباط إلى أقباط المهجر الذين يتكلمون بنبرة أعلى صوتا من هذه القيادات، حتى أصبح أقباط المهجر يهددون السلام بين المسيحيين بأكثر مما يهددون بين المسيحيين والمسلمين. ما هو السبيل إلى وقف التمدد السرطانى للدعاة السلفيين الدمويين؟! يجيب القس إكرام لمعى فيما كتبه لنفس الموقع: من التعليم الذى تعمق مناهجه مبدأ رفض الآخر، ولقد حاول خبير التعليم د. كمال مغيث أن يضع مناهج تحض على حقوق الإنسان وقبول الآخر، وكان ذلك بتشجيع وزير التعليم السابق حسين كامل بهاء الدين، وبعد أن بذل الخبير جهدا خارقا فى وضع مناهج المرحلة الابتدائية واطلع عليها وزير التربية والتعليم واقتنع بها وأصدر قرارا بأن تطبق فى جميع المدارس.

أرسلت الكتب إلى المناطق التعليمية إلا أن مديرى هذه المناطق رفضوا القرار الوزارى، رفضوا تطبيق هذه المناهج، وادعوا أن تعديلها هو توجه أمريكى، وهكذا.. تراجع وزير التعليم رغم يقينه أن القرار مصرى مائة بالمائة. أيضا من الضرورى أن تتوقف الفضائيات عن المزايدة على الجماعات الإسلامية، فكلما زاد التعصب، وارتفعت نغمة رفض الآخر وتكفيره، تزيد الفضائيات من جرعة البرامج الدينية الانتحارية، وبرامج تفسير الأحلام، كما أن مسلسلاته لاتزال مستسلمة لشروط التسويق فى بلاد الخليج، بلاد الوهابية والعنف.


حمادة حسين

المصدر: روز اليوسف

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...