الإصلاح، التطوير، التحديث، السوق الحرّة الاجتماعية وخطط التنمية (1-2)

15-08-2006

الإصلاح، التطوير، التحديث، السوق الحرّة الاجتماعية وخطط التنمية (1-2)

الجمل - نزار صائب : قد تختلف مع النظرية الماركسية وقد تحاربها ، ولكنك لا تستطيع إلا أن تعترف بالإيجابيات ، وأهمّها التفسير المادّي للتاريخ . والقراءة الموضوعية لتاريخ المنطقة العربية يفسّر ويوضّح استمرار ما تعيشه المنطقة من أزمات وضغوط ، حتى إن الضغوط لم تعد تقتصر على الممارسات الضاغطة وإنما تعدّتها إلى الاحتلال بالقوّة الغاشمة . وهذا ليس جديداً ، لأن التفسير المادّي الحقيقي لما يسمّى الحروب الصليبية هو السيطرة بالقوّة على مفتاح تواصل الحضارات والاستيلاء على طريق الحرير الذي يربط آسية بأوروبة ويسيطر على الاقتصاد والتجـارة بين القارّتين . لكننا، وبكل أسف ، ما زلنا نعتقد أن هذه الحملة ليست اقتصادية بحتة ، بل شعارها الدين . وهكذا فإننا نعيش على هواجس الحروب الدينية وصراع الحضارات والأديان ، وفلاسفة الرأسمالية يفرضون علينا الاقتناع بأنها حروب دينية ، حتى في القرن الحادي والعشرين ، وكان آخرهم هنتنغتون وفوكوياما ، والهدف على ما يبدو واضح جدّاً وهو كسب عواطف الغرب المسيحي واستثارة غرائز العداء الديني عند المسلمين للتغطية على أهداف المعركة الحقيقية وهي السيطرة الاقتصادية على جميع موارد هذه الشعوب.

لقد لخّص القائد الشيوعي فلاديمير لينين التفسير الواقعي لما يجري في العالم بكتابه "الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية" ، ولو أنه عاش في أيّامنا هذه لرأى بأم عينيه ما يجري من احتلال للعراق ومن بطش تهدّد به شعوبنا العربية وكذلك شعوب أميركة اللاتينية .

وهنا لابدّ لنا من الإشارة إلى أنّ جدّ جدّ الرئيس الأميركي جورج بوش اصدر كتاباً عام 1837 يتحدّث فيه عن الإسلام والنبي محمد وضرورة تقسيم المنطقة إلى دويلات متنافسة ومتعادية ومجزّأة طائفيًّا وعرقيًّا وهو ما يعني تجهيلها وإفقارها ، هذا فضلاً عن تهجّمه على الدين الإسلامي . وهذا ما يطبّق اليوم وتنفذه القوات الأمريكية في العراق ، لأن ما قامت به معاهدة سايكس- بيكو بعد الحرب العالمية الأولى لم يعد كافيًا لإشفاء غليل الغرب الاستعماري في التجزئة وتقسيم العرب ، لذا يجب أن تدخل الدول القطرية بعداء في ما بينها تحضيرًا للشرق الأوسط الكبير الذي ستحكمه إسرائيل وتدعمه الولايات المتّحدة الأميركية.

لم تغب الحرب الصليبية عن أذهان الثورة الفرنسية ، فتوجّه نابليون بونابرت بحملته الشهيرة على مصر ومنها توجّه إلى بلاد الشام وسقط عند عكّا ، وعاد إلى فرنسة لتولّي السلطة هناك تاركاً قواته في مصر للسيطرة وبناء علاقات تسيطر فيها فرنسة على المنطقة وإبعاد منافِسَتِها بريطانية العظمى التي استطاعت إخراج الفرنسيين من مصر بعد المعركة البحرية في أبي قير وأقنعت الخديوي بحفر قناة السويس ، وهدف بريطانيا السيطرة على الطريق إلى الهند ، درّة التاج البريطاني . ولعلّ مفخرة دار طلاس للنشر هو ترجمة كتاب المفكر الألماني ف . ويليام إينغدال "مائة عام من الحرب- السياسة النفطية الأميركية- الإنكليزية والنظام العالمي الجديد" إلى العربية ، وهو ما يؤكّد واقع أن كل ما يجري في المنطقة له أسبابه الاقتصادية وأنّ مصالح الغرب في الاستيلاء والتنافس الغربي لم يقتصر على فرنسة وبريطانية بل تعدّاهما إلى ألمانية التي سعت من خلال إنشاء الخط الحديدي الذي يربط أوروبا بالبلاد العربية حتى البصرة ، سعت إلى دخول المنطقة النفطية لتنافس بريطانية وفرنسة ، وقد قام الإمبراطور الألماني غليوم بزيارة المنطقة في مطلع القرن العشرين تدشينًا لقطار الشرق السريع .

استباحت الدول الغربية وأخذت حريتَها في احتلال بلدان العالم ، ولم تبق دولة أوروبية ، صغرت أم كبرت ، إلاّ وغزت بلداناً في أفريقيا وآسيا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً . فاحتلت بلجيكا الكونغو ، وهولاندا إندونيسيا ، وإيطايا ليبيا وإثيوبيا ، ناهيك عن بريطانيا وفرنسا ، وعن الولايات المتحدة الأمريكية التي احتلّت بكلّ الوسائل أمريكا الجنوبية ، كما غزت الفلبين ، وهذا غيض من فيض .

إنّ الثروة النفطية والموقع الجغرافي للبلاد هما ما جعل المفكّرين الصهاينة وعلى رأسهم هرتزل يرفضون كل العروض لإقامة الدولة اليهودية في البرازيل أو الأرجنتين وظلّوا مصرّين على المجيء إلى فلسطين حلماً منهم بالسيطرة على العالم من خلال استيلائهم على الثروة النفطية في المنطقة العربية ، وهو ما لاقى دعم القوى الغربية للتخلّص من اليهود في أوروبة فقامت هذه القوى بمساعدتهم في حروبهم المتتالية في المنطقة وهو ما ساهم في عدم تقدّم العرب وعرقل تطوّرهم إذ اتّجهوا للإنفاق على الدفاع بدلاً من الإنفاق على التنمية .

وأخيرًا لا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أن الصحافي البريطاني الكبير روبرت فيسك ، وهو متخصّص في الشؤون العربية ، قد أصدر كتابًا في مطلع العام الحالي سمّاه "الحرب الحضارية الكبرى في الشرق الأوسط" يشرح فيه الأهداف الاستعمارية للاستيلاء على موارد البلدان العربية باسم الحضارة .

تجاوبت القوى اليسارية الأوروبية وقادة النقابات العمالية مع صرخـات المناضل المغربي المهدي بن بركة ، وبخاصة مع ما لفت إليه من صراع بين الشمال الغنيّ المتخم والجنوب المدقع في الفقر ، ودعوته إلى تصحيح العلاقات الاقتصادية ومساواتها وجعلها ندّية وإلى إيجاد توازن بين أسعار المواد الأولية المشتراة من بلدان الجنوب وأسعار المواد المصنّعة في دول الشمال . لقد أثارت هذه الفكرة ضجة واسعة بين جميع المثقفين واليساريين في أوروبا وأمريكا اللاتينية . ولتبسيط النظرة إلى طروحات الصراع بين الشمال والجنوب ، عُقِدت مقارنة بين الكمية المطلوبة من البن البرازيلي والحصول على سيارة من صنع الشمال الصناعي ، وقد بيّنت هذه المقارنة بأن سعر السيارة تضاعف مئات المرات في حين تضاعفت أسعـار البن بنسبة لا تتجاوز عدد أصابع اليد . وينطبق نفس المبدأ على أسعار برميل النفط الخام ، وبالمفهوم الرياضي ، تزداد أسعار المواد الأولية من العالم الثالث الفقير بنسبة عددية بينما تزداد أسعار المواد المصنّعة من الشمال الصناعي وفق سلسلة هندسية .

لقد راقت فكرة الصراع بين الشمال والجنوب إلى مجموعة من المغتربين السوريين في فرنسة ، مما حدا بهذه المجموعة إلى إصدار مجلة سمّوها "الشمال والجنوب" ترأس تحريـرها الإعلامي السوري الدكتور غسان الرفاعي ، المقيم في باريس ، هدفها الدفاع عن العالم الثالث ، إلاّ أنها توقفت عن الصدور لقلة التمويل وبسبب الحرب الخفية لتعطيلها بوقف الإعلانات فيها . تبنّى فكرة صراع الشمال والجنوب المفكّر الاقتصادي الهندي أمارتيا كومار سِن ، الحائز على جائزة نوبل والناشر لعديد من الكتب القيّمة في شتّى المجالات ، وآخرها عام 2000 "الشرق والغرب" .

صدم العالم باختطاف واغتيال المناضل المهدي بن بركة على يد قوى اتُّهمت بها السلطات المغربية ، ولكن المعلومات التي تمّ الكشف عنها مؤخراً في كتاب نشرته دار نشر فرنسية كشفت ضلوع المخابرات الأمريكية بغية طمس فكرة الصراع بين الشمال والجنوب ، وقد ترجمت هذا الكتاب دار "قدمس" ، إلاّ أنّ الرقابة السورية منعت توزيعه لإصابتها بشَوَص عقلي ، متناسية أنّ سورية كرّمت الشهيد الكبير المناضل المهدي بن بركة بتسمية الشارع الذي يربط بين ساحة الأمويين وشارع أبي رمّانة باسمه تقديراً لنضاله وفكره وتكريماً لشهداء الوطن العربي .

طمست القوى الاستعمارية فكرة الصراع بين الشمال والجنوب ، وجنّدت كلَّ أعلامها ومفكريها للعمل على اختراع صراع جديد يتمثّل الصراع بين الحضارات ، وبخاصة الصراع مع الإسلام ، متناسيةً الدعم الكبير المقدّم من الغرب للقوى الإسلامية في حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي السابق ، ولا سيما في أفغانستان ، وكذلك الصراع مع قوى التحرّر الوطني والأفكار الماركسية ، مستغلّةً تنامي الفكر الإسلامي المعادي للصهيونية وتحويله إلى القتال ضدّ الأفكار العلمانية عوضاً عن التوجّه نحو التحرير السياسي والاقتصادي ومحاربة الصهيونية .

أدّت حربُ تشرين عام 1973 إلى تحرُّر أسعار النفط الخام ، واستفادت الدول المنتجة من القفزة الكبيرة في أسعار النفط الخام وتخطّت قدراتُها النقديةُ الأحلام . ولكنّ هنري كيسنجر ، وزير خارجيـة الولايات المتحدة آنذاك ، قاتل أحلام الشعوب برغد العيش ، إذ عقد مؤتمرٌ للدول المستهلكة للنفط مطلع عام 1974 وقرّر استنزاف الموارد النفطية التي قُدِّرت آنذاك بأكثر من 600 مليار دولار نقداً في حروب محلية منضّدة ومخططة .

كانت لبنان تتميّز بإمكانات مصرفية ومالية وسوق حرّة نقدية ، إضافة إلى أنها السوق العربية التي يتم فيها تداول العملات لدول الخليج العربي ، وتميِّزها أيضاً بالكفاءات اللازمة لإدارة الأموال ، وبنوكها ذات الخبرة العربية والدولية ، والأهم من هذا كلِّه ، الحسُّ الوطنيُّ المرهف . ونذكر على سبيل المثال ، عندما تعرّض المرحوم الرئيس جمال عبد الناصر للضغوط الأمريكية ، وبخاصة نتيجة لحاجة مصر الملحّة إلى القمح ، وعدم توفر القطع الأجنبي لدى الحكومة ، قام بنك إنترا ، الذي كان يرأسه آنذاك يوسف بيدس ، الفلسطيني الأصل ، قام بتغطية شراء باخرتين محمّلتين بالقمح وأرسلهما إلى مصر ، وأنقذها من حصارها ومحاربتها بقوتها اليومي . دفع يوسف بيدس حياته ثمناً لهذا الموقف القومي ، إذ تآمرت الولايات المتحدة للعمل على إفلاس بنك إنترا وملاحقة مؤسِّسه حتى موته حسرةً على الهرم المالي الكبير الذي أسّسه وبناه صرحاً لبنانياً وعربياً امتدّ إلى العالم كلِّه .

لذلك قرّر كيسنجر البدء بالحرب اللبنانية الداخلية لحرمان لبنان والأمة العربية من إيجاد سوق مالية في قطر عربي ينافس أسواق لندن وزيوريخ ونيويورك ، ومنع العرب من الفرصة للتحكّم بمداخيلهم المالية في سوق تمتلك الكفاءة والقدرة على مساعدة أنفسهم ومساعدة الشعوب الفقيرة ، كما تمتلك الإرادة الحرّة لإدارة أموالهم بدلاً من أسواق المال في دول الشمال الصناعي .

جاءت بعد ذلك الحرب العراقية الإيرانية ، التي أدارتها الولايات المتحدة بانضباط شديد ، والتي استنزفت قرابة 300 مليار دولار وملايين الشهداء ، وبعدها جاء احتلال الكويت ، أو ما سُمي بحرب الخليج الثانيـة ، الذي أكمل استنزاف المال العربي ، وقسم العرب عربَيْن ، وكان المنتصر الوحيد في كلتا الحربين هو إسرائيل لأن الغرب ، والولايات المتحدة بخاصة ، استمرّ بالهيمنة على الطاقات النفطية . في كلا الحربين دفع العرب أموالاً طائلة ثمناً للأسلحة المشتراة من الدول الصناعية بدلاً من إنفاق تلك الأموال على التنمية .

ظهرت بعض الإيجابيات للثروة النفطية بإنشاء عدد من صناديق التنمية العربية لمساعدة الدول العربية ودول العالم الثالث . ونشير هنا إلى أنّ دولة الكويت أنشأت في الستينات ومنذ استقلالها الصندوق الكويتي للتنمية ، كما لعبت الكويت دوراً أساسيّاً في إنشاء الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والمؤسسة العربية لضمان الاستثمار ، ومقرّها دولة الكويت ، وصندوق النقد العربي في أبو ظبي ، كما تمّ تأسيس صندوق التنمية السعودي وصندوق أبو ظبي للتنمية وصندوق أوبك في فيينا لمساعدة الدول الفقيرة ، وبنك التنمية الإفريقي في السودان . على الرغم من إيجابيات هذه المؤسسات ، فإنها لم تشكّل خمسة بالمائة أو أقل من الواردات النفطية العربية .

ركّزت البعثات والإرساليات التبشيرية الأوروبية على تعليم وتدريس الطائفة المسيحية في بلاد الشام منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لخلق أجيال تخدم مصالحها في المنطقة . فتمّ لهذه الغاية تأسيس الجامعة السورية الأمريكية (أصبحت لاحقاً الجامعة الأمريكية في بيروت) والجامعة اليسوعية . ولكنّ الذي حدث إنّ اطّلاع الشباب المسيحي على التعليم وعلى الثقافات الغربية لم يزدهم إلاّ ارتباطاً بوطنهم ، وجعلهم القدوة في تبنّي الفكر العربي والتمسّك باللغة العربية وبجذورهم القومية ودفعهم إلى اعتناق مبادئ الحرية والعدالة والمساواة وإلى السعي لنشر الثقافة العربية واستنهاض حضارة الأمة العربية والإسلام . من هؤلاء الروّاد جرجي زيدان وفؤاد البستاني وجرجي اليازجي ، ومثال ذلك ما كتبه جرجي زيدان بأسلوب روائيّ رائع عن التراث الإسلامي . لقد امتدّ نشاطهم إلى مصر هرباً من الضغط العثماني ، حيث أسّسوا جريدة الأهرام ودار الهلال . على عكس ما توخّاه الغرب من استخدام الطائفة المسيحية لخدمة مصالحه ، تحوّل المفكّرون الذين تعلموا على أيديهم إلى دعاةٍ لقيام الدولة العربية ، ولم يكن مستبعداً أن يكونوا روّادَ العروبة ودعاتَها ، بل أبرزَ مفكّرو الطائفة المسيحية الخطرَ الصهيوني الذي يهدّد الأمة العربية ، أمثال العازوري ، والدكتور خليل سعادة (والد المفكّر أنطون سعادة) وميشال شيحا وجبران التويني (الجدّ) ، وقد تنبّه هؤلاء لهذا الخطر مبكّراً في مطلع القرن العشرين ، ويوحي ما كتبوه ونشروه في حينها وكأنهم موجودون بيننا في هذه الأيام .

ومن رحِم هذه الثقافة الوطنية العربية لدى الطائفة المسيحية ولدت أفكار القادة الكبار من أمثال أنطون سعادة وميشيل عفلق وقسطنطين زريق وجورج حبش ، وتبعتهم الآلاف المؤلفة في الأمة العربية ، اختلفت معهم أو وافقتهم فَهْمَ بداية التحرّر الوطني والقومي ، ومن هنا كان الاحترام الكبير والتقدير العميق للوجود المسيحي في ربوع البلاد العربية .

لم تأت تسمية دمشق "قلب العروبة" عبثاً ، وإنما لتراثها العريق ودأبها المتواصل على قيادة العمل العربي ، وتصدّرِها لمنطلقات الاستقلال والتحرّر ، بدءاً بالعهد الأمويّ وانتهاء بالاستقلال الناجز والتام في 17 نيسان/إبريل 1946 وجلاء القوات الفرنسية والبريطانية عن سورية ولبنان في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1946 .

فالأكثرية الساحقة المسلمة لم يمنعها حرمانُها من الثقافة والعلوم والاتصال بالغرب من أن تكون متجاوبة مع الروح الوطنية والعربية التي بثّها مثقفو الطائفة المسيحية ، وبخاصة اللبنانية التي حملت مشعل الحرية والاستقلال والتي ترافقت مع وجود المناضل الجزائري الكبير الأمير عبد القادر الجزائري ، الذي التجأ إلى دمشق مع أفراد عائلته بعد ثورته الكبرى ضدّ المحتل الفرنسي في منتصف القرن الثامن عشر . فقد ساهم وجوده في دمشق في إذكاء الروح الوطنية والاستقلالية ، ناهيك عن الدور الكبير الذي لعبه في فتنة عام 1860 في لبنان والتي امتدت إلى دمشق وأخمدت بالجهود المشتركة للأمير المناضل ووعي أهالي دمشق وحكمتهم وفهمهم لأبعاد المؤامرة الاستعمارية لزرع الفتنة وتمزيق عرى الوحدة الوطنية بين أفراد الشعب السوري الواحد .

ازدادت ضراوة المقاومة السورية للاحتلال الفرنسي ، وبخاصة بعد لجوء سلطات الاحتلال إلى تقسيم سورية إلى دويلات طائفية ، مما أدّى إلى تراجعها وعودة اللحمة السورية لدولة موحّدة . لم يستكن المحتل الفرنسي عن غيّه في خلق الفتن الطائفية ، ولجأ إلى أسلوب جديد بتشكيل قوىً طائفية مدرّبة جاهزة للقتال عند طلب المحتل ، وشجّع على تأسيس "الفلانج phalanges" في لبنان ، والتي عُرّبت فيما بعد إلى "الكتائب" ، للوقوف في وجه القوى الوطنية اللبنانية ، واستطاع إقناع فئة محدودة من المسيحيين في الجزيرة السورية (الحسكة والقامشلي) ، وقامت فيما بعد باحتلال مبنى المحافظة في الحسكة وأنزلت العلمَ السوريّ ورفعت مكانه علم فرنسة ، واعتقلت المحافظ ، الذي كان من أبرز الوجوه الوطنية المسيحية في دمشق ، وهو توفيق شاميّة ، . وقد حدث الشيء نفسه في القامشلي ، إلاّ أنّ الحكمة والعقلانية والفهم العميق للمؤامرة دفعت رجال السياسة السوريين ، مسلمين ومسيحيين ، إلى استيعاب هذه الحركة ، ولم يسمحوا بامتدادها إلى أيٍّ من المدن السورية الأخرى ، وقد ساهم في ذلك رجال الدين المسيحي ، وعلى رأسهم مطران حماة ، المطران حريكة ، ومطران اللاذقية ، أبيفانيوس ، عدا الشخصيات المسيحية في حلب ، أمثال ميخائيل اليان وليون زمريا ورزق الله أنطاكي ، وفي اللاذقية وجيه الطائفة المارونية المحامي نوفل الياس وآل بشور واليازجي وسعادة وبولس ، ناهيك عن القائد السياسي الكبير في دمشق فارس الخوري . حتى في الجزيرة السورية نفسها ، فقد شارك في الموقف الوطني كلّ من سعيد إسحق ويوسف الصبّاغ وآخرون . هذه الأسماء هي على سبيل المثال لا الحصر وحسب ما أسعفتني به الذاكرة .

لم تقتصر محاولات المحتل الفرنسي على إثارة النزاعات الدينية ، بل تعدّتها إلى الاقتتال العشائري والعائلي . ففي مدينة دير الزور أدّى حادثٌ عارِضٌ في منتصف الثلاثينات من القرن المنصرم إلى الاقتتال بين قسمين من سكان المدينة - الشرقيين والوسْطيين -  فأُغلقت المدينة وتحوّلت إلى ساحة قتال بين العشيرتين ، وسقط عدد من الجرحى ، وأقيمت المتاريس الفاصلة بين سكانهما ، فتداعى شباب العشيرتين إلى الوقوف ضدّ هذا الانقسام ، وتجمّعوا سويّةً ودخلوا متراصّين إلى ساحة القتال والحدّ الفاصل بينهما متوجهين نحو مصادر إطلاق النار وشكّلوا حاجزاً بشريّاً بين المتحاربين . لقد أذهلت المفاجأة الأطراف المتحاربة ، مما اضطَّرَّهم إلى وقف القتال . وبعدها قام الشباب بإزالة المتاريس وفتْح الساحة – "ساحة الحدّادة" كما كانت تسمّى آنذاك . تجلّى الحسُّ الوطنيُّ والوعيُ لدى أولئك الشباب بمغامرتهم بحياتهم لإنقاذ بلدهم من الفتنة القبلية ، وهكذا فعل عقلاء مشائخ عشيرة الجبور والعكيدات عند نهر الخابور لفضّ خلاف حول أرض تطوّر بشأنها القتال بين العشيرتين بتحريض من القوات الفرنسية . ولا مبالغة بالقول إنّ جميع من شارك في إطفاء حرائق الاقتتال العشائري لم يكونوا من كبار المفكّرين أو المثقفين أو المنظّرين ، بل كانوا لا يملكون إلاّ حسّهم الوطني وإدراكَهم لمؤامرات المستعمر .

وإنني أتساءل هل كانت أجيال أجدادنا من طينة مختلفة في وطنيتها وفهمها عن الأجيال الجديدة ، حيث لم نسمع أنّ شبّاناً إسلاماً أو مسيحيين وقفوا متراساً لمنع القتال في عين الرمّانة والشيّاح في بيروت إبّان الحرب اللبنانية ، ولم نسمع العقلاء والحكماء في فلسطين تدخّلوا لوقف القتال الفلسطيني بين الفصائل المتناحرة ، ولم نجد أيّ نداء من العلماء المسلمين وآيات الله الشيعة في العراق لوقف قتل النفس ، التي حرّمها الله ، على الاسم كأنْ يكون عُمَرَ أو أبا بكر ، ولوقف هدم الحسينيّات .

وقع الجانب اللبناني في الفخّ الذي نصبه المستعمر الفرنسي بعد تأسيس "الفلانج/الكتائب" ، إذ لم يعمدوا إلى استيعاب هذه الحركة ، بل قاموا بإنشاء حزب "النّجّادة" الإسلامي الذي أدّى إلى تكريس الطائفية في لبنان حتى يومنا هذا ، حيث تمترست كلُّ طائفة خلف زعمائها ورموزها .

بعد نكبة 1948 ، قامت حركة "الإخوان المسلمون" بنشاط كبير بدأ في مصر وامتدّ إلى بلاد الشام ، وقد نجح لها نوّاب في الانتخابات النيابية لعام 1949 لإقرار الدستور السوري . سعت هذه الحركة إلى جعل الدستور السوري يعتمد الإسلام ويعتبر الإسلام دين الدولة وإلغاء علمانية الدولة والتشريع . قامت مظاهرات مؤيّدةٌ لهذا التوجّه الديني قابلتها مظاهرات أخرى قام بها الطلبة في الجامعة والمدارس الثانوية السورية تطالب بعلمانية الدولة – كان "الدين لله والوطن للجميع" شعاراً وطنيّاً موحّداً للشعب السوري بكل فئاته . ويجب هنا أن نقول كلمة حق ، إذ أنّ حزب الشعب والأحزاب الأخرى والمستقلين لم يخضعوا لضغوطات "الإخوان المسلمين" ، وحتى أنّ كتلـة العشائر ، التي ترأسّها الشيخ دهام الهادي والتي كانت مع مؤيديها تشكّل ثلث مجلس النواب ، صوّتت لصالح علمانية الدولة ، واقتصر النصّ في الدستور الذي أقرّ عام 1950 على أنّ دين رئيس الجمهورية الإسلام وأنّ الإسلام مصدر من مصادر التشريع .

وأذكر في هذا لمجال أنني شاركت مع طلاب التجهيز الأولى بدمشق بمظاهرة تطالب بإلغاء مادة دين رئيس الجمهورية لأنّ الطلاب كانوا يريدون القائد فارس الخوري رئيساً للجمهورية وليس فقط رئيساً لمجلس النواب أو مجلس الوزراء . ومن هنا نجد أنّ الشعب عاش ويستمرّ في العيش في مساواة المواطنة دون النظر إلى دينه أو عرقه أو لونه . كان شعـار الطلبة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارا ؟" .
النخبة الطليعية ... القيادات الفكرية بالحداثة ... أصحاب الرؤية الثقافية ... أصحاب التطلّعات السياسية ، تقدميّةً كانت أم إصلاحية ... الاتّحادات العمّالية والفلاحيّة ... كلُّ هذه الجماعات لا تملك الحقَّ في حرمان الشعب من إبداء رأيه ... من اتّخاذ قراراته بنفسه ... من رسم سياسته الداخلية والخارجية والاقتصادية ... من التخطيط لمستقبله وحياته وحياة الأجيال القادمة ... والأنكى ... حرمانِه من إدارة شؤونه والتشكيك بقدراته للتطلع إلى المستقبل ، ومقارعة كلِّ القوى الخارجية العاملة على عزله وتخلّفه . فلقد أثبتت تجارب الشعب السوري معرفتَه وتمييزه الغثَّ من السمين ، وتميُّزه بالإنصاف والموضوعيّة في تقدير القيادات السياسية وإدراكه للصعوبات الخارجية والداخلية التي تهدف إلى عرقلة وصول سورية إلى مصاف الدول المتقدمة ومسايرة القرن الحادي والعشرين .

يمكن ببساطة شديدة إدراك ما أقوله والتأكّد منه بالاتصال بأيّ مواطن في قرية فش خابور في الشمال الشرقي على الحدود التركية العراقية وبمواطن آخر في البوكمال ، أو في أية قرية في محافظة السويداء أو حوران جنوب سورية ، أو جبّاتا وسعسع في القنيطرة ، أو في كسب وصلنفة والغاب ، أو التحدّث بحرية مع أيّ شائق تكسي في المدن السورية . لو فعلت ، لاكتشفتَ أنك تستطيع أن تناقش مع أيّ من هؤلاء المواطنين كلّ الأمور الحياتية والسياسية ، من غزو العراق إلى القضية الفلسطينية إلى الحرب على الإرهاب ، بدعة جورج بوش الجديدة ، ولاكتشفتَ الحسَّ الوطنيَّ المرهف الذي يشترك فيه كلّ هؤلاء المواطنين ، ولعرفتَ أنّه لا يحتاج إلى وصاية عليه لتقرير حياته ومستقبله ، وسوف تفاجأ بقدرته على طرح الحلول لكلّ المشاكل .

لا يمكن عقد مقارنة بين المدرسة الزراعية في السلمية شرقي مدينة حماه والكلية العسكرية في حمص من جهة وبين مدرسة البوليتكنيك في باريس أو الكلية العسكرية في سان سير في فرنسة من جهة ثانية . فقد تخرّج المرحوم أديب الشيشكلي من المدرسة الزراعية في السلمية ثم من الكلية العسكرية في حمص في الثلاثينات ، وبالتالي لم يكن أديب الشيشكلي سوى مواطن عربيّ سوري يحمل الأحاسيس والمشاعر الوطنية العميقة . بهذا الإيمان وقف في المؤتمر الصحفي ، الذي عقد في نادي الضباط في شارع الصالحية بدمشق عام 1951 ، مع جون فوستر دالاس ، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك وصانع السياسة الخارجية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية مع شقيقه آلان دالاس ، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ، إذ استطاع أديب الشيشكلي في ذلك المؤتمر أن يكون نِدّاً ومقارعاً الحجّة بالحجّة ، وبالحق الذي يملكه الشعب السوري والعربي في فلسطين ، للدفاع عن طموحاته وحقوقه المغتصبة ، وأحرج الوزير الأمريكي في العديد من المواقف المتعلقة بالقضية المركزية للشعب السوري ، وهي القضية الفلسطينية .

وبعد أكثر من ربع قرن ، في السبعينات ، واجه نفسَ المواقف المرحوم الرئيس حافظ الأسد الذي درس في تجهيز (ثانوية) اللاذقية والكلية الجوية في حلب ، واللتين أيضاً لا يمكن مقارنتهما بكلية فكتوريا أو أكسفورد أو جامعات أمريكا من هارفرد إلى ستانفورد والكلية العسكرية في وست بوينت . فقد وقف طوداً شامخاً أمام صنّاع السياسة الخارجية الأمريكية بدءاً من هنري كيسنجر إلى جورج شولتز إلى جيمس بيكر ووارن كريستوفر ومادلين أولبرايت ، بفضل عقله وفكره وحسّه الوطني وإيمانه بشعبه وبقضاياه العادلة ، إذ لم تخْلُ مذكّراتُ أيٍّ من هؤلاء الوزراء الأمريكيين من ذكر صلابة وعناد مواقف الرئيس حافظ الأسد إزاء قضاياه الأساسيّة الثابتة .

بما ذكرتُه عن الرجلين ، على الرغم من البعد التاريخي والزمني بينهما ، وسواء اختلفتَ أم وافقتَ على حكمهما ، إلاّ أنك لا تستطيع إلاّ أن تعترف أنهما من المواطنين السوريين الذين جسّدوا أمام العالم الخارجي طموحاتِ وأحلامَ الشعب السوري والعربي في قضاياهم العادلة والمحقّة . لذلك ، ارفعوا وصايتكم عن الشعب واتركوه على سجيّته ، فسيصل إلى الحقيقة وسيجد الحلول لكل ما يعترضه لتحقيق طموحاته . فأهل الشام أدرى بشعابها .

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...