أموال محروقة على طاولة البهرجة الاجتماعية

22-08-2010

أموال محروقة على طاولة البهرجة الاجتماعية

في مناسبة سابقة، قامت الحكومة بمسح اجتماعي لتبيان واقع الحال المادي لمن يُطلق عليهم «الفقراء». وخلاف ما يُقال شفهياً، فإنَّ الكثير من الأسر لم تتقدَّم ببياناتها، فكان من الطبيعي أن تعيد الحكومة النظر في موضوع الدعم، ولاسيما موضوع دعم المشتقات النفطية (المازوت). وفي موقعة مماثلة، والتي هي فحوى حديثنا، تتعلق بموضوع الزواج وعزوف الشباب عنه، وربط هذه المشاكل بشكل مباشر وغير مباشر بموضوع ارتفاع المهور وأسعار الذهب وموضوع السكن وقلة الدخول وما إلى هنالك.

ومع أنَّ كلّ ما تقدَّم مشاكل مطروحة بمناسبة وغير مناسبة، إلا أنَّ واقع الحال يشير إلى خلاف ذلك؛ لجهة أنَّ هناك إنفاقاً وتبذيراً يُعتبر أكثر ثقلاً ووزراً من موضوع الذهب وأثاث المنزل وخلافها، ويسمى «متممات إنفاقية».
فماذا عن موضوع الإنفاق على حفلات ما قبل الزواج وخلاله وما بعد الزواج، والإنفاق على موضوع الثياب والضيافة والإكسسوارات والعزائم والولائم ووسائل النقل ومصروف الورد والعطور والبخور، وعزائم العروس لصديقاتها والعريس لأصدقائه، إضافة إلى تكاليف الإنفاق على صالات الحفلات والفرق الموسيقية، وما هنالك من إضافات ومفاجآت لا تتعدَّى كونها بهرجة اجتماعية تحت مبرّر «ليلة العمر»، التي لن تتكرَّر إلا مرة واحدة؛ حيث يشير خبراء الاقتصاد إلى أنَّ «نفقات هذه المتممات تفوق موضوع المهور وحلي العروس، باستثناء المنزل. ويمكن اعتبارها اليوم بهرجة اجتماعية يجب ضبطها وتقليصها لشباب يعاني ضعف الدخول وقلة فرص العمل».
 ¶ رحلة الإنفاق
لاشكَّ في أنَّ هناك العديد من العادات الاجتماعية، بغضّ النظر عن المناطق الجغرافية، التي تضعنا أمام تحديات إنفاقية، وتعتبر اليوم أمراً غير مقبول. فجلّ حديث شباب اليوم يتمحور حول موضوع السكن، الذي يغدو امتلاكه حلماً حقيقاً. وفي علاقة متعدية يتطوَّر الحديث إلى موضوع ارتفاع سعر الذهب؛ لاعتباره ركناً أساسياً من أركان إتمام هذه المناسبة، ومن ثم يتَّجه الحديث نحو الأثاث المنزلي وارتفاع أسعار الأدوات الكهربائية وباقي العفش، ومن ثم يتطور الحديث ليغدو موضوع إتمام الزواج ضرباً من العبث.. على أنَّ أحداً لا يتطرَّق إلى موضوع المتممات الإنفاقية التي توازي، بل وتتجاوز في قيمتها، ما تمَّ الحديث عنه، باستثناء قيمة السكن.
ففي بعض العادات، تبدأ عزائم وولائم العرس قبل أسبوع على قيامه، وتنقسم إلى عزائم خاصة بالعروس وعزائم خاصة بالعريس، لتبدأ رحلة الإنفاق على موضوع الضيافة والثياب والإكسسوارات، ومن ثم حجز الصالة والفرق الموسيقية. ويستمرّ العرس ليومين متتالين (يوم للأقارب واليوم التالي لجميع المعازيم)، ومن ثم موضوع شهر العسل، الذي تقلّص إلى أسبوع العسل وما يرافقه من إنفاق، ومن بعده يدخل الزوجان في رحلة استقبال المباركين، حيث يتكبدان خلالها الكثير والكثير.. وكلُّ ذلك غير محسوب أو محسوم لأنها ليلة العمر!.. ومن جهة أخرى هكذا تجري العادات والتقاليد.
 ¶ أسعار الصالات 
لن ترضى الأسر أن تمرَّ ليلة كهذه الليلة دون طبل وزمر (وباللغة المتعارف عليها حالياً الفرقة الموسيقية)؛ لجهة أنَّ أيام «الزمر والطبل» كما كانت تحدث قديماً قد ولَّت، ولن تكون أيّ صالة (أياً كانت الصالة) خفيفة الوزر؛ حيث تتراوح التكلفة بين 400- 1500 ليرة للشخص الواحد. ويرتفع هذا الرقم إلى ثلاثة أضعاف في صالات أخرى. وبعملية حسابية بسيطة، نشير إلى أنَّ حضور 200 شخص يعني 300 ألف ليرة سورية، ماعدا أجور الفرق الموسيقية التي تتراوح مابين 25 ألف ليرة و600 ألف ليرة سورية. ولا ننسى تكلفة «الكاتو» وعرائش الورد التي سيكون مصيرها حاويات القمامة بعد حين. وتتراوح التكلفة بين 15 - 25 ألف ليرة. والغريب في الموضوع أنك لن تجد حجزاً مباشراً إنما ستضطر للحجز على تاريخ قد يطول إلى الشهرين.
   ¶ ضغوط اجتماعية تجعل عقلنة الترشيد ظاهرة نسبية

من جانبه يقول الدكتور عابد فضلية: «هذه المتممات الإنفاقية هي جزء لا يتجزََّّأ من عملية الزواج بشكل كامل، وهي عناصر لازمة وضرورية بحسب العرف والتقاليد والديانات، وتختلف بين الريف والمدينة وبين منطقة وأخرى ومن مجتمع إلى آخر. وإذا كان الحديث ممكناً عن التوفير في قيمة تكاليف هدايا العروس وممكناً عن تحجيم تكاليف السكن والتأثيث للمنزل، إلا أنَّ الحديث عن إلغاء أو تحجيم تكاليف التحضير للعرس وإقامته وحجمه وعلانيته أمرٌ أكثر صعوبة؛ لجهة أنَّ الزواج في حدّ ذاته هو عقد بين طرفين لا يكتمل في الكثير من الأعراف إلا بالإشهار، وهذه ليست عادة بل ترتكز إلى خلفية دينية هي أحد أركان الزواج، ولا تعبّر عن مظهر احتفالي إنما هي جزء لا يتجزَّأ من مظهر الزواج.
 ومن جهة أخرى، العرس مناسبة لا تتكرَّر، وهي وحيدة، وكل أب يتمنّى أن تكون فريدة ومتميزة؛ كونها من جهة تعبّر عن وضع اجتماعي (وإن كان متواضعاً) ومن جهة أخرى تعبّر عن اهتمام الأهل بالعريس أو العروس.. إضافة إلى عوامل أخرى قد لا تكون موضوعية ومقنعة، وهي المحاكاة. فالفرد، بل المجتمع يتماشى غالباً مع العادات والتقاليد السائدة. بمعنى آخر قد لا يكون الأهل مقتنعين بما عليهم القيام به، إلا أنهم قد يقومون به؛ لأنه مطلب اجتماعي. وبالتالي ليس قراراً أو رغبة فردية، إنما هو مطلب مترافق مع رغبات عائلية اجتماعية.
إذاً إلغاؤه غير ممكن اجتماعياً.. إلا أنَّ حجمه واتساعه والبزخ عليه.. مسألة فيها نظر، وتستحقّ التوقف عندها إذا ما فكرنا بشكل عقلاني ورشيد؛ على أنَّ القرار هنا أيضاً لا يعود لجهة واحدة بل إلى المحيط في الوقت ذاته. وبالتالي هناك ضغوط اجتماعية تجعل حتمية عقلنة وترشيد هذه الظواهر المتممة صعبة نسبياً. 
رغم كلّ ما تقدَّم، يمكنني القول بوجود علاقة جدلية بين الأعراف التي تفرض إقامة المتممات والأعراف المساهمة في تغطية تكاليفها بطرق وأشكال مختلفة».
 ويضيف فضلية: «هذه الظواهر حتمية ذات أوجه إيجابية، قد تكون موجعة مالياً لأصحاب العلاقة، على أنَّ هذا الألم المادي يمكن التخفيف عنه من خلال الالتفاف الاجتماعي، ومن خلال العرف والتقليد الذي يسهم في تغطية جزء من تكاليف هذه المتممات».

¶ البهرجة الاجتماعية تزيد عبئنا المالي
لن يكون موضوع البهرجة الاجتماعية وحب الظهور والعادات والتقاليد أمراً مرتبطاً بموضوع ليلة العمر وحسب، إنما يتعداه إلى الكثير من المناسبات الاجتماعية التي تنفق فيها الأسر الكثير والكثير حباً في الظهور بمستوى اجتماعي جيد.. إلا أنها في حقيقة الأمر لا تتعدَّى كونها انعكاساً لعُقد العوز والحاجة والحرمان التي يمكن أن تعاني منها هذه الأسر. إذاً بشكل أو بآخر نعاني من عدم قدرتنا على تنظيم حياتنا حتى المالية منها. وسيد الحكم دائماً العرف والتقليد. والنتيجة، التي خلص إليها الباحث والخبير الاقتصادي هيثم ناصر، بيَّنت تجاهل العديد من الأسر لموضوع الإنفاق على ما يسمى المتممات الإنفاقية في مثل هذه المناسبات، وعدم إدراجها في قائمة النقاش من حيث التكلفة إنما من حيث المطلوب تنفيذه؛ يقول: «حكماً ستجد أباً مثقفاً ومتعاوناً لن يطلب من عريس ابنته ذهباً، وقد لا يطلب عفشاً كاملاً، بل سيخفّض من مقدمها ومؤخرها، ولكنه لن يفاوض على موضوع الإنفاق اللا محدود على ليلة زفافها. وفي موقف مشابه، ستجد والد العريس يفاوض والد العروس على ضرورة تقليص النفقات وتيسير الحال؛ لجهة أنَّ هذا التقليص سينعكس إيجاباً على العروسين، وسيحقّق وفراً لهما قد يسخَّر لأمور أهم، ولكنه لن يتطرق مطلقاً إلى الحديث عن موضوع الإنفاق على المتممات المذكورة آنفاً. وقد يكون السبب المباشر وجود حالة اجتماعية تُسمَّى «النقطة».. وهي مقدار مادي من قبل الحضور يمنح للعروسين؛ إلا أنها في حقيقة الأمر ما هي إلا «سلف ودين» سيرد في مناسبة مماثلة».  ويؤكد ناصر أنَّ معظم الحالات التي خضعت للبحث، وكانت بمثابة عينة عشوائية، تجاوزت قيم إنفاقها على ما سميناه متممات إنفاق، قيم وتكاليف أثاث المنزل ومعداته واحتياجاته، مضافاً إليها حلي الذهب للعروس واحتياجاتها الشخصية. وعند بعض العينات قاربت التكاليف ثمن شراء المسكن؛ يقول: «إذا أخذنا في الاعتبار الفروق المادية ضمن شريحة الطبقة الوسطى، والتي هي هدف بحثنا، سنجد أنَّ الإنفاق تراوح بين ثلاثمئة ألف ومليون ليرة سورية. وهو رقم ليس بقليل، قياساً إلى واقع الحال، وما يشار إليه من وجود مشكلة حقيقية وعوائق مادية أمام شباب اليوم». ويضيف ناصر: «كلّ ما تقدَّم مرتبط مباشرة، بل ويعتبر نتيجة حتمية لموروث اجتماعي ولعادات تقوم على حبّ الظهور والبهرجة الاجتماعية، وقد تكون سبباً رئيساً في زيادة عبئنا المالي بشكل عام».

رياض أحمد إبراهيم

المصدر: بلدنا

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...