أورهان باموك والاتهامات الجاهزة

07-11-2006

أورهان باموك والاتهامات الجاهزة

لم يكن الكاتب التركي أورهان باموك، قبل حصوله على جائزة نوبل 2006 للآداب، مقروءاً بما فيه الكفاية في العالم العربي. وعلى رغم ترجمة عدد من رواياته الى العربية، من بينها «اسمي أحمر» الصادرة عن دار المدى في دمشق و «ثلج» الصادرة عن دار الجمل في المانيا، فإن وقع هذا الاسم على القارئ العربي كان يأتي متأخراً جداً عن أسماء تركية أخرى مثل ناظم حكمت وعزيز نسين وياشار كمال. واذا كان الشاعر الشهير ناظم حكمت قد رحل عن هذه الأرض قبل حصوله على الجائزة التي كان يستحقها بالطبع فإن نسين وكمال كانا حتى أسابيع قليلة من بين الأسماء الأكثر تداولاً في بورصة الجائزة الأهم في العالم.

كان المثقفون العرب كعادتهم كل سنة جاهزين لإطلاق سيل الاتهامات المعد خصيصاً لهذه المناسبة والمتراوح بين اتهام الأكاديمية السويدية بالتعصب للثقافة الغربية، أو بالجهل والتقصير عن متابعة ما يكتب في مناطق العالم البعيدة عن المركز الأورو – أميركي، أو بتحويل الجائزة الى رشوة سياسية يتقاضاها بعض كتّاب العالم الثالث المنشقين عن سلطات بلدانهم أو المنقلبين على قيمها السائدة. وكان من الطبيعي في وضع كهذا أن تكون التهم ضد الكاتب التركي مجهزة سلفاً ومعدة للتداول والتصدير، خصوصاً أن باموك كان اتخذ موقفاً جريئاً ومتفرداً من المذابح التي قام بها الأتراك ضد الأرمن في مطالع القرن الفائت، كما أن عمره القليل نسبياً يضع تجربته الروائية في خانة النقصان وعدم الاكتمال.

اعترف في هذا السياق بأنني واحد من الذين لم ينتبهوا على الإطلاق الى مكانة باموك الأدبية قبل حصوله على الجائزة على رغم أن روايتين له على الأقل موجودتان في مكتبتي منذ شهور عدة: وككثر غيري وجدت نفسي أهرع لقراءته بسرعة فائقة بعد تلقف النبأ الأهم الذي ينتظره كتاب العالم ومبدعوه عاماً بعد عام. وما تنبغي الإشارة اليه في هذا المجال هو أن الجائزة التي شكلت الحافز الرئيس لقراءة باموك بالنسبة إلي سرعان ما تراجعت الى الخلف ليحل محلها شغف شديد بمواصلة القراءة لم يتوقف حتى الانتهاء من قراءة روايتي «اسمي أحمر» و «ثلج» اللتين يناهز عدد صفحاتهما الألف ومئة صفحة. كان أول ما لفتني بعد قراءة الروايتين هو أن الأكاديمية وان كانت تملك دوافع سياسية ما لمنح الجائزة الى هذا الكاتب أو ذاك إلا أنها من الذكاء والنباهة بحيث يقع اختيارها على كتاب رياديين تملك أعماله صفة الفرادة والتميز ومقاربة القضايا الإنسانية الكبرى. ولو سلَّمنا بأن القيمين على الجائزة قد أخذوا جرأة باموك السياسية والأخلاقية في الاعتبار فإن الجانب الأهم في الموضوع هو أن الكاتب التركي يستحق جائزته تلك بمعزل عن أي اعتبار سياسي، تماماً كما هو الحال مع نجيب محفوظ الذي تبدو مسألة موقفه الإيجابي من معاهدة كامب ديفيد هامشية جداً إزاء إبداعه المتميز وعلو قامته الأدبية.

تبدو مسألة الهوية التركية والتمزق التركي بين خياري الأسلمة و «الأوربة» حاضرة بقوة في أدب باموك المهموم بالسياسة والفكر والاجتماع اهتمامه باللغة والأسلوب وتقنيات السرد. ولعل سؤال الهوية هو العصب الأساسي الذي يحرك الشخصيات ويحكم مواقفها ويقودها الى مصائرها الصعبة أو المأسوية. ففي «اسمي أحمر» يتبدى صراع الخيارات القاسي من خلال مقاربة فني الخط والنقش اللذين لعبا دوراً أساسياً في بناء الحضارة الإسلامية واللذين بدأت تطالهما قبل ثلاثة قرون، زمن الرواية بالذات، رياح «التغريب» والتغيير القادمة من جهة ايطاليا والغرب في وجه عام. واذا يبدي باموك اطلاعاً واسعاً، وهو الذي بدأ حياته كرسام، على فنون الرسم والنقش والخط يعرف بمهارة فائقة كيف يدمج ثقافته الواسعة في اطار القص والسرد مؤالفاً بذكاء بين الواقعية والبناء الدرامي والحبكة البوليسية، الأمر الذي يدفع القارئ الى حبس أنفاسه على امتداد الرواية بأكملها. ولعل شخصية باموك المتسمة بالوسامة والفتوة وشهوة الحياة هي التي تقف وراء ذلك الدور المفصلي الذي تلعبه المرأة في الرواية، كما في الرواية الأخرى «ثلج»، بحيث تجسد الأنوثة والذكاء والفتنة من جهة وتجسد الجانب الأنثوي من الروح التركية من جهة أخرى. واذ تختلف شخصية شكورة في «اسمي أحمر» عن شخصية ايبك في «ثلج»، باعتبار أن الأولى تعيش في زمن السلطة العثمانية والأخرى تعيش في الحقبة الأتاتوركية، فإن كليهما تلتقيان في الجاذبية الطاغية وقوة الحضور كما في كونهما تحملان عواطف مضطربة وقلقة وغير مستقرة.

تشكل رواية «ثلج» بدورها مقاربة شديدة العمق والرهافة لواقع تركيا الرجراج والمثخن بالصراعات في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وبخاصة اثر انقلاب الثمانين الذي جعل العسكر التركي يلعب دوراً محورياً في الحياة السياسية التركية. وما يثير الإعجاب هو قدرة الكاتب الهائلة على انشاء رواية طويلة تشغل مئات الصفحات في حين ان وقائعها تنحصر في أيام ثلاثة فقط هي الأيام التي تنعزل فيها مدينة قارص الواقعة شرق الأنوضول عن العالم بأسره بفعل الثلوج المتراكمة على طرقاتها. وفي حين يمثل بطل الرواية المرموز اليه باسم «كا» المثقف التركي العلماني الذي يعيش في المانيا والمبهور بالنموذج الغربي يمثل «كحلي» في المقابل النموذج الإسلامي الذي لا يرى أي مستقبل لتركيا خارج تاريخها الحقيقي المتمثل بالإسلام. أما صراع الإرادات أو تمزقها الداخلي فيبدوان من خلال الصراع الدموي بين الإسلاميين من جهة وبين الأتاتوركيين الممثلين بصوناي ظائم من جهة أخرى.

وقد تكون العزلة التي فرضها الثلج على قارص هي التي ظهَّرت الصراع بين الطرفين وأوصلته الى ذراه الأخيرة حيث لم تتمكن السلطة المركزية في أنقرة من التدخل الا بعد قيام الانقلاب العسكري بمجزرة دموية مروعة بحق الإسلاميين فضلاً عن الاغتيالات المقابلة التي قام بها الإسلاميون ضد العلمانيين. الجميع في هذه المعمعة يدفعون الثمن حيث ينتهي الأمر بقتل كل من كحلي وصوناي ظائم، كما أن كا الذي قدم الى قارص لإجراء تحقيق حول النساء المنتحرات، بسبب اجبارهن من قبل السلطة الحاكمة على خلع الحجاب، ما يلبث أن يقع في شرك الصراع بين الطرفين ويدفع غالياً ثمن لعبه على الحبال. اذ ينتهي به الأمر بخسارة ايبك التي أحبها وأراد أن ترافقه الى فرنكفورت ليكتشف فجأة أنها كانت واقعة في حب كحلي المقتول وليموت مقتولاً في ألمانيا بعد سنوات.

لا بد للقارئ من أن يعثر في رواية «ثلج» على شبه ما بين عالم أورهان باموك وبين العوالم المختلفة لكل من كافكا وكونديرا وكاداريه وساسكندة كما يجد نسباً مماثلاً في رواية «إسمي أحمر» بين باموك وبين أمبرتو إيكو، وبخاصة في رواية «اسم الوردة» حيث الحبكة البوليسية والتوتر النفسي والصراع المحموم بين الإيمان والعقل. وما يلفت النظر في شكل واضح هو أن حرف «كا» الذي اختاره باموك اسماً لبطل روايته «ثلج» هو القاسم المشترك بين هذه الأسماء كلها وصولاً الى اسم الكاتب نفسه كما الى اسم كمال أتاتورك الذي قد يكون البطل المضمر للرواية برمتها.

شوقي بزيع

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...