آداب ما بعد الكولونيالية

16-01-2007

آداب ما بعد الكولونيالية

يدرس هذا الكتاب ظاهرة الكتابة باللغة الإنجليزية للتعبير عن قضايا قومية وثقافية وطنية وعالمية والمساهمة في الأدب والثقافة من قبل مجمتعات وأفراد من غير الإنجليز، وهي ما سميت ما بعد الكولونيالية، مثل الهند وأستراليا وأفريقيا وكندا والولايات المتحدة الأميركية، أو السود الأميركان والسكان الأصليين في بلاد استوطنت، أو لدى أفراد مثل إدوارد سعيد، ووول سوينكا، النيجيري الحائز على جائزة نوبل، وسلمان رشدي، ونايبول، الكاتب الحائز على جائزة نوبل وهو من ترينيداد.

ويثير الكتاب نقاشا حول العلاقات القائمة بين أنماط الكتابة ما بعد الكولونيالية وحول العوامل المؤثرة في لغتها وفي أساليب نصوصها، ويوضح كيف تشكل هذه النصوص نقدا راديكاليا للفرضيات التي تقوم عليها رؤى المركزية الأوروبية في اللغة والأدب.

يعنى هذا الكتاب بكتابات الشعوب التي استعمرتها بريطانيا في السابق في مرحلة استقلالها وعملها على بناء ثقافتها الوطنية، وبالطبع فإن مصطلح ما بعد الكولونيالية يمتد ليشمل كل ثقافة تأثرت بالعملية الامبريالية منذ اللحظة الكولونيالية (الكولونيالية تعنى احتلال دولة لدولة أخرى خارج حدودها سياسيا واقتصاديا بالاعتماد على القوة العسكرية) حتى اليوم، بما في ذلك الإمبريالية الأوروبية، مثل فرنسا والبرتغال وإسبانيا، وليس فقط البريطانية.

وهي (الكولونيالية) تجربة شكلت مصير وحياة ما يزيد على ثلاثة أرباع شعوب العالم، وقد يكون من اليسير إدراك أهمية المسألة في المجالات السياسية والاقتصادية، ولكن تأثيرها العام على أطر إدراك الشعوب المعاصرة عادة ما يكون أقل وضوحا.

ويقدم الأدب واحدة من أهم طرق التعبير عن تلك المدركات الجديدة، فمن خلال الفنون الأخرى مثل الرسم والنحت والموسيقى والرقص أصبح هذا الواقع مشفرا بقوة، كما أصبح تأثيره عميقا.

وبناء على ذلك يندرج تحت مصطلح الأدب ما بعد الكولونيالي (ما بعد الكولونيالية تعني آثار العملية الكولونيالية على الثقافات والمجتمعات) آداب البلدان الأفريقية والهند وأستراليا وماليزيا وجنوب المحيط الهادئ، وتندرج أيضا آداب الولايات المتحدة الأميركية، وإن تحولت الولايات المتحدة إلى دولة كولونيالية ولكن آدابها تعد نموذجا لآداب ما بعد الكولونيالية في كل مكان.

لقد كانت دراسة اللغة الانجليزية ظاهرة ثقافية وسياسية، فهي ممارسة يجري خلالها تسخير اللغة والأدب لخدمة نزعة قومية عميقة وشاملة.

وكانت اللحظة التاريخية التي شهدت ظهور اللغة الإنجليزية بوصفها فرعا علميا أكاديميا في القرن التاسع عشر في جامعتي أكسفورد وكامبريدج قد أنتجت الشكل الكولونيالي للإمبريالية، وقدم مفكرون مثل غوري فيسواناثان حججا قوية لربط الدراسة الأدبية للغة الإنجليزية في المؤسسات وما ترتب على ذلك من تثبيت لهذه اللغة بشكل ومحتوى أيديولوجي تطور في السياق الكولونيالي، وبصفة خاصة بمثل ما تطور في الهند، حيت وجد الإداريون الكولونياليون البريطانيون حليفا في الأدب الإنجليزي يدعمهم في الاحتفاظ بسيطرتهم على الأهالي تحت قناع التعليم الليبرالي.

وكان نمو الإمبراطورية البريطانية ودراسة اللغة الإنجليزية قد تطورا من مناخ أيديولوجي واحد، وكان تطور أحدهما مرتبطا ارتباطا وثيقا بتطور الآخر، سواء على مستوى الاستخدام البسيط كالدعاية وعلى مستوى اللاوعي الذي يضفي صفة الطبيعية والحضارية والإنسانية على القيم المبنية في الإمبرطورية وحضارتها وصفة الهمجية والأهلي والبدائي على القيم الأخرى، وهناك عرف مميز نال تمجيدا في قلب عملية تشكيل دراسات اللغة الإنجليزية بوصفه قالبا يخدم إنكار قيمة الأدب "الطرفي" و"الهامشي".

لقد أصبح الأدب يتخذ موقعا مركزيا بالنسبة لمشروع الإمبراطورية السياسي، وبالتالي عندما هددت عناصر من الأطراف والهوامش مزاعم الاقتصار على المركز سرعان ما جرى إدماج تلك العناصر.

وقد كانت عملية الانتساب الواعي على حد تعبير إدوارد سعيد تتواصل تحت قناع البنوة، أي محاكاة للمركز منبثقة من رغبة لا تقتصر على نيل القبول، وإنما تمتد لتشمل أيضا الأطراف إلى الانعماس في الثقافة المستوردة مع إنكار وصولهم، في محاولة لأن يصبحوا أكثر إنجليزية من الإنجليز، ويمكن أن نرى أمثلة على ذلك في كتابات مثل هنري جيمس، وت إس. إليوت.

وبعد تفكك الكولونيالية سياسيا وعسكريا ظل الطابع المستقر للكتابات المتعلقة بالتقاليد الأدبية واللغة الإنجليزية وكذلك وضعها المتفرد والقيم التي أدمجت فيها يتسم بالقوة في التشكل الثقافي والمؤسسات الأيديولوجية للتعليم والأدب، ورغم ذلك اقتضى تطور آداب ما بعد الكولونيالية طرح تساؤلات حول كثير من الافتراضات التي كانت ترتكز عليها دراسة اللغة الإنجليزية.

وتطورت آداب ما بعد الكولونيالية من خلال عدد من المراحل التي يمكن اعتبارها مماثلة لمراحل الوعي الوطني أو الإقليمي فضلا عن المشروع الرامي إلى تأكيد الاختلاف عن المركز الإمبراطوري.

وبدأ يجري تطوير نماذج جديدة، أهمها النماذج الوطنية والإقليمية التي تؤكد الملامح المميزة للثقافة الوطنية أو الإقليمية الخاصة، والنماذج التي ترتكز على العنصر (race) وتحدد صفات معينة تتقاسمها مختلف الآداب الوطنية، مثل أدب الشتات الأفريقي وكتابات السود الأميركان، والنماذج القائمة على التشكيلات الثقافية المقارنة والتوفيقية (اندماح ثقافتين متمايزتين لإنتاج ثقافة جديدة متميزة) والتهجينية (العلاقات الثقافية المتعددة والقائمة على الاعتماد المتبادل).

إن الوظيفية الأساسية للغة بوصفها أداة للسلطة تتطلب تعريف كتابة ما بعد الكولونيالية لنفسها من خلال الإمساك بلغة المركز وإعادة تعيين موضعها في خطاب جرى تكييفه بالكامل لملاءمة المكان المستعمر (بفتح الميم).

وتقوم كتابة ما بعد الكولونيالية بتحقيق ذلك من خلال عمليتين: الإقصاء والاستيعاب، إقصاء أو إنكار امتياز اللغة الإنجليزية، ورفض المفهوم المعياري لما يعتبر صحيحا وقياسيا في اللغة الإنجليزية، وإعادة تعريفه في سياق مختلف، ورفض السلطة المتروبوليتانية (الميتروبوليتانية تعنى هنا المركزية البريطانية والغربية بعامة، ويطلقها الأوروبيون بمعنى المكان الذي يشكل مركز الثقافة، وعادة ما كان المصطلح يشير إلى لندن وباريس) على وسائل الاتصال، واستيعاب لغة المركز وإعادة بنائها، أي امتلاكها وإعادة تشكيلها بحيث تتسع لتشمل استخدامات جديدة تمثل علامة على الانفصال عن موقع الامتياز الكولونيالي.

ومن الناحية اللغوية يمكن أن نجد في الآداب المابعد الكولونيالي آدابا أحادية اللغة، بمعنى أنها تعبر باللغة الإنجليزية فقط عن ثقافة وآداب مغايرة، مثل الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا وكندا، فهي تستخدم اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة محلية.

وأما ثنائية اللغة، فهي مجتمعات أصبحت فيها ثنائية اللغة ترتيبا مجتمعيا دائما، مثل القارة الهندية وجنوب أفريقيا ونيجيريا وجنوب المحيط الهادئ وكيبك في كندا، وكذلك السكان الأصليون في الدول المستوطنة، مثل دول القارة الأميركية وأستراليا، وتكون الإنجليزية هي لغة التجارة والحكومة، ويظهر الاستخدام اللغوي اختلافات أدبية ولغوية واضحة.

وأما المجتمعات متعددة اللغة فتقع أساسا في منطقة الكاريبي، حيث يمتزج عدد كبير من لهجات تشكل فيها الإنجليزية تقاطعات تعيد بناء اللغة الإنجليزية نفسها وتنتج خصوصيات وطنية وإقليمية تميزها عن أشكال أخرى من الإنجليزية.

واتجهت الكتابة المابعد كولونيالية في مرحلة من التهميش والشعور المركزي بالأصالة وضآلة الأطراف إلى تفكيك أفكار الجوهر والأصالة، وإنتاج فكر يجادل في أصالة المركز، ويراها مزيفة، وأن الأصيل في الحقيقة هو ما يبدو هامشيا.

إن إضفاء الامتياز على "الهوامش" في كتابة ما بعد الكولونيالية يسفر عن توجه عملي نحو التساؤلات المتعلقة بالنظرية، فاللغة هي ممارسة مادية تتحدد من خلال نسيح معقد من الشروط والخبرات الاجتماعية، وتعكس الحالة الثقافية والحضارية لمستخدميها، ومن ثم فلا وجود لوضع ممتاز لشفرة معيارية في اللغة وأي رؤية مركزية أحادية للخبرة البشرية.

وتمتد الاختلافات في نصوص المابعد الكولونيالية إلى تمثيلات المكان وتسمية الأشياء، وتشترك جميع مجتمعات ما بعد الكولونيالية، سواء أحادية اللغة أو ثنائية أو متعددة اللغة غالبية تلك الإستراتيجيات التي يجري من خلالها بناء الاختلاف واستيعاب الإنجليزية.

فعلى سبيل المثال لا يبدو المكان في قصيدة لس موراي بعنوان "مزرعة إنجليزية جديدة، أغسطس/آب 1914" لا يتشكل فحسب بما يتجاوز التقليد الأدبي للغة الإنجليزية البريطانية، وإنما يتشكل من زاوية خبرة تاريخية مدوية، خبرة الحرب العالمية الأولى التي تمثل أهمية كبيرة بالنسبة إلى الأساطير الأسترالية بشأن الهوية الثقافية.

ويشرح راجا راو، الكاتب الهندي في مقدمة روايته "كانثابورا" المهام المعينة التي يواجهها الكاتب عند نقله الخصوصية الثقافية بلغة مختلفة، وكيف يخلق موضعه الثقافي نوعين من الجمهور، ويواجه اتجاهين، ويرغب في إعادة تشكيل الخبرة من خلال فعل الكتابة الذي يستخدم أدوات ثقافة واحدة أو مجتمع واحد.

ومع ذلك يظل مخلصا لخبرة ثقافة أخرى أو مجتمع آخر "لم يكن القص سهلا، على المرء أن ينقل روحه بلغة ليست لغته، وأن ينقل مختلف ظلال ومحذوفات حركة فكرية معنية، تعرضت لسوء المعاملة، إلى لغة غريبة، إنني أستخدم كلمة "غريبة" رغم أن اللغة الإنجليزية ليست غريبة عنا في واقع الأمر، فهي لغة بنيتنا الفكرية، مثلما كانت السنسكريتية أو الفارسية من قبل لغة بنيتنا الفكرية، لكنها ليست لغة بنيتنا الانفعالية، نحن جميعا نتحدث غريزيا بلغتين، ويكتب كثيرون منا بلغتنا وباللغة الإنجليزية، إننا لا نستطيع أن نكتب مثل الإنجليز، وليس علينا أن نفعل ذلك، كما لا يمكننا أن نكتب بوصفنا هنودا فحسب".

هذه النظرة المحدقة نحو اتجاهين تمثل ثقافة الكاتب الخاصة، وتشغله دائما بتفسير ما، فهو المفسر الأول، ويتمثل أفضل مثال على ذلك تدخلات المحرر، مثل الحواشي ومسرد بالكلمات العسيرة مع شرح لها والتمهيد الشارح، وجميعها أمور يقوم بها الكاتب، وتمثل هذه البنود بوجودها خارج النص قراءة وليس كتابة، إنها هجمات أصلية النشأة موجهة إلى منطقة التفسير، ويقف داخلها الآخر بوصفه قارئا.

وهذه الترجمات الموضوعة بين هلالين لكلمات منفردة، مثل "الأوبي" و"الكوخ"، فالكلمة الأولى تستعمل محليا في نيجيريا بمعنى الكوخ هي أكثر تدخلات الكاتب وضوحا وشيوعا في النصوص عبر الثقافية، ورغم عدم اقتصار تلك الشروح على النصوص عبر الثقافية فإنها تقع في مقدمة استمرار واقع البعد الثقافي.

لكن التلاؤم الظاهري لكلمتي "أوبي" و"كوخ" يكشف عن عدم كفاية هذا التمرين بشكل عام، ويطرح تجاوز الكلمات بهذه الطريقة وجهة نظر تقول إن معنى أي كلمة هو مدلولها، ولكن القراءة توضح أن كلمة "أوبي" في لغة الإيبو المستخدمة في جنوب شرق نيجيريا هي أحد المباني التي تشكل منشآت الأسرة في المجتمع المحلي.

وإذا لم تحقق الإشارة الظاهرية البسيطة نجاحا حتى بالنسبة للأشياء البسيطة يصبح من الأصعب إيجاد مدلول للمصطلحات الأكثر تجريدية، ونجد أن الإشارات قد أصبحت أقل انتشارا عما كانت عليه الحال منذ 20 أو 30 سنة، لكنها مفيدة في إظهار مدى سهولة ترسيخ الجسور المرجعية لنفسها بوصفها أكثر أشكال الكناية بدائية.

وفي واقع الأمر تتنازع الفجوة الضمنية بين الأوبي (الكوخ) والمرحعية المفترضة للكلمات، وترسخ كلمة أوبي كعلامة ثقافية، فاستبقاء الكلمة بلغة الإيغبو يعمل على تأبيد الوظيفة الكنائية للنص عبر الثقافي، وذلك من خلال السماح للكلمة بأن ترمز إلى الوجود المستتر لثقافة الإيبو.

ونجد الشعور الضروري بالاختلاف مسجلا ضمنا في الفجوة بين الكلمة ومدلولها، وهو مدلول يضفي على نحو ساخر وضع "الواقعي" على الكلمة الإنجليزية، لكن تأثير هذا الغياب أو تلك الفجوة ليس سلبيا بل هو إيجابي، فهو يمثل الاختلاف الذي يمكن من خلاله التعبير عن هويتنا (مبتدعة أو مستعادة).

إبراهيم غرايبة

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...