إدريس الشرايبي: عاش غريباً ورحل غريباً

05-04-2007

إدريس الشرايبي: عاش غريباً ورحل غريباً

«لم يُطل الله» عمر الروائي المغربي إدريس الشرايبي كي يكمل روايته المستوحاة من مجزرة «قانا» الثانية. رحلَ صاحب «الماضي البسيط» كما عاش: غريباً في الإقامة واللغة والكتابة والأدب. واصطحب معه بطله الشهير قبل أن ينهي مغامرته الأخيرة

الماضي ليس بسيطاً كما يوحي عنوان كتابه الشهير. أو على الأقلّ لم يكن الماضي بسيطاً بالنسبة إلى إدريس الشرايبي، هذا الكاتب الكبير الذي انطفأ مساء الأحد الماضي في أحد المستشفيات الفرنسية عن عمر يناهز الواحدة والثمانين. دخل اسم الشرايبي تاريخ المغرب المعاصر كأول مهندس مغربي مختص في الكيمياء، إثر حصوله على دبلوم الدراسات العليا في الهندسة الكيميائية في فرنسا (1950). الا أنّ هذا الفتى اللامع سرعان ما شعر بالملل من وظيفته كمهندس، فما كان منه إلّا أن غادرها من دون أسف كبير، ليتابع دراسات متقطّعة في علم النفس المرضي. وظل يتقلّب بين الوظائف المتواضعة والمهن المخجلة من دون أن يستقر على حال. عمل حارساً ليلياً، عاملاً، حمَّالاً، مدرساً للغة العربية، منتجاً في الإذاعة الفرنسية... قبل أن يفاجئ الجميع بروايته الأولى “الماضي البسيط” الصادرة عام 1954، أي قبل سنة من استقلال المغرب. تلك الرواية التي تشبه سيرته الذاتية، يتمرّد فيها شاب مغربي على والده ومجتمعه المحافظ ويغادر لإكمال تحصيله العلمي في فرنسا.
منذ إصداره الأول، فهم الجميع أنّ الرجل لا يكتب دفاعاً عن استقلال بلده، لكنّه أيضاً لا يكتب لقضاء الوقت أو للتسلية.
روايته “الماضي البسيط” كانت ثورة عاصفة اندلعت مثل حريق في وجه الجميع: في وجه أدباء باريس والأسلوب الفرنسي المنهك، وفي وجه المجتمع المغربي الراكد كبحيرة والمحافظ حتى النخاع، في وجه زعماء الحركة الوطنية الذين لعنوا هذا الشاب “المستلب”، ورأوا انتقاداته اللاذعة لبلده ومجتمعه نوعاً من الخيانة والجحود! وأخيراً جاءت روايته عاصفةً في وجه والده الحاج الفاطمي، تاجر الشاي الصيني الميسور الذي قرر أخيراً أن يقطع عن ابنه المساعدات المالية التي كان يبعث بها إليه ليدبّر حاله هناك في الغربة.
الا أنّ غربة الشرايبي لم تكن في باريس فقط، بل كانت في اللغة وفي الكتابة والموقف الأدبي. الأدباء الفرنسيون لم يتحمسّوا كثيراً لهذا الشاب المغربي النزق الذي كتب ليصدم الوعي الثقافي الفرنسي، ورفض بشدة تصنيفه في خانة الأدباء المغاربيين الناطقين بالفرنسية. كان كاتباً وكفى. كاتباً فقط. هكذا عارياً من كل تصنيف. أمّا “ذوو القربى” فقد جاء ظلمهم بالمضاضة المناسبة، إذ منعت رواية “الماضي البسيط” في بلاده عشرين عاماً، ولم يرفع الحظر عن أدب الشرايبي في المغرب إلا عام 1974.
لم يكن الشرايبي كاتباً كالآخرين. رقماً ضمن الأرقام. بل هو الأب الروحي للرواية المغربية، والمؤسس الفعلي للأدب المغاربي، وكان في معظمه، آنذاك، مكتوباً بالفرنسيّة. يراه عبد الكبير الخطيبي “أول من امتلك آليات الاشتغال على الرواية، وفهم أصولها. ورغم مجايلته لمولود فرعون وكاتب ياسين، إلا أنه لم يكتب مثلهما شهادات حية وسروداً ذاتية، بل كتب رواية حقيقية. لقد وظّف مبكراً خصائص الرواية الأميركية التي تعتمد السرعة واختيار الشخوص المفعمة بالحركة، بإيقاع حيّ متنوّع. أما لغة الشرايبي فكانت جريئة وواضحة: “أحب الأشياء المضبوطة” قال مرةً، قبل ان يكمل: دراستي للكيمياء أفادتني كثيراً. في كتاباتي، أحب الجمل الدقيقة لا الجمل المائعة العائمة”.
بعد “الماضي البسيط”، تواصلت أعمال الشرايبي قويةً صادمةً بالغة الجرأة: “التيوس” (1955)، و“الحمار” (1956)، و“تعاقب مفتوح” (1966)، و“الحضارة أمّاه” (1972)، و“موت في كندا” (1975)، و“أم الربيع” (1982)، و“ميلاد في الفجر” (1986)، و“المفتش علي” (1991)، و“الرجل القادم من الماضي” (2004)... هذا إضافة إلى أعمال روائية أخرى أكّد من خلالها إدريس الشرايبي موقعه كرائد للرواية في المغرب العربي، وككاتب حرّ ظل دائماً يعلن تبرُّمه من السياسة، وتهرّبه من سؤال الهوية. الهوية بالنسبة إليه “مشكل زائف نقاربها عادةً مدججين بالمغالطات والأفكار المسبقة”.
في شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، زار الشرايبي مدينة الجديدة، مسقط رأسه. هناك، التقى أصدقاءه ورفاق صباه وأسرَّ إليهم أنّه يتمنى من الله أن يطيل عمره ولو لستة أشهر أخرى فقط، ليتمكن من إنهاء روايته الجديدة. وهي رواية استلهم أحداثها من مجزرة “قانا” التي ارتكبتها القوات الاسرائيليّة الصيف الماضي في الجنوب اللبناني. تدور الرواية حول انهيار منزل على رأس أم شابة كانت تضعُ مولودة جديدة، عندما بدأت البلدة تتعرض للقصف. الا أنّ الأم أسلمت الروح خلال الوضع، لتظل الطفلة حية رغم القصف، تستمد الحياة من جثة أمّها عبر حبل السرة.. لكن ماذا بعد؟ هل ستعيش الطفلة؟ من سينقذها؟ لقد أُسدل الستار على قصة الكاتب الكبير إدريس الشرايبي قبل أن ينهي مغامرته التخييلية الأخيرة. فمن يجرؤ اليوم على ارتجال فصولها المعلقة؟

ياسين عدنان

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...