إعادة اكتشاف الأساسيات الروحية للإسلام

03-01-2007

إعادة اكتشاف الأساسيات الروحية للإسلام

تشتد هذه الأيام في البلاد الإسلامية حدة التوتر بسبب التقاء «المحلي» مع «العالمي»، وضرورة أن يحدد المسلمون ما يجب الاحتفاظ به من ثقافاتهم. وتحتوي المسيرة الحالية الحاسمة للعولمة بالنسبة الى المسلمين، وفي شكل مفارق، تحدياً ايجابياً للغاية: إنهم مجبرون على إعادة اكتشاف البعد الكوني الذي بُنِيَ عليه الإسلام، وعلى تجاوز الانطواءات القومية والتعصب العقائدي والمذهبي، لينطلقوا نحو جوهر الرسالة الإسلامية عبر الفكاك من التقاليد والأعراف المحلية (سواء عربية كانت أم أمازيغية أم أفريقية أم تركية أم غيرها)، التي غالباً ما يأخذونها على أنها من تعاليم الإسلام، مما يخلق خلطاً ضاراً.

والانتشار المذهل للإسلام الذي تم على مراحل، ما كان ليتحقق لو لم يكن المسلمون يحملون في داخلهم القيمة المحورية للتوحيد، وهو جعلهم يشعرون إنهم في ديارهم حيثما كانوا. كانوا قادرين على التماس «الوحدانية « في تعدد الثقافات واللغات والأديان؛ وكان لديهم تصوّر واحد لهذين المستويين من الحقيقة: الوحدانية والتعدد، مما أتاح لهم التكيف مع حداثتهم، وأتاح لنا أن نتوافق مع حداثتنا نحن. كانوا متراصّين، أفراداً وجماعات، حول محورية التوحيد، في حوارهم مع العالم وفي احتكاكهم الآمن مع الآخرين. وكانوا متلهفين إلى معرفة الحضارات الأخرى واستيعابها، لذا استمرّ الإسلام الكلاسيكي، بل شجع على نوع من العولمة، في أفضل مظاهرها: الكونية الروحية وليس النمطية المادية الحالية.

مع ذلك فإن تقادم الزمن أدّى إلى شيء من الجمود في الثقافة الإسلامية، على الأقل منذ القرن الخامس عشر. ومنذ ذلك الحين، اكتفى المسلمون بتكرار سلوكيات موروثة ومسطّحة، لأنها لم تعد قادرة على التكيف مع واقعها. وبحسب بعض العلماء كابن خلدون، فإن سبب ذلك هو اجتياح نزعة فقهية متسارعة للثقافة الإسلامية؛ ويعني ذلك التطور غير المتوازن للفقه مقارنة بغيره من اختصاصات الحياة الدينية. وباحتكار مصطلح الفقه - الذي كان يعني في البداية «التفكير» و»الفهم» وليس قواعد الأحكام الشرعية - كتمت الشريعة فروعاً مهمة أخرى من العلم كاللاهوت (في مسمياته المتعددة: علم الكلام وعلم التوحيد، الخ..) أو الروحانيات. وأنتج هذا الإصرار المفرط على الفقه ولا يزال نوعاً من الخداع لم تتخلص منه أكثر المجتمعات الإسلامية. وفي الواقع، فإن عالم الأشكال الذي يشرف عليه الفقه إذا افتقد الروحانيات لا يمكن أن يؤدي إلا إلى تباطؤ أو «فصام» بين الأوامر التي وضعت منذ زمان والواقع المتغير باستمرار. لذا تحدث العلماء المصريون مثل السيوطي والشعراني عن ضرورة الاجتهاد الروحي «كل يوم هو في شأن» (الرحمان، الآية 29).

ولكن، لنعد إلى التاريخ. مع بداية القرنين 15 و 16 وكلما ازداد المسلمون ضعفاً على الأصعدة الروحية والثقافية والمادية، كلما تضاعفت هيمنة الغرب، وبالتالي ازداد شعور المسلمين بتعرّضهم للعدوان وزاد انطواؤهم على أنفسهم وانغلاقهم عن الثقافات والديانات الأخرى. لقد أصاب الاستعمار الهوية المسلمة بمقتل؛ ودرَجَ المسلمون، أمام هذه الظاهرة، على عدم الفعل، اكتفوا فقط برد الفعل ضد الامبريالية الغربية. وساد مفهوم متصلّب وكلّياني للنمط الإسلامي، مزيحاً البعد الكوني للإسلام. وبالتوازي كانت أرض الإسلام تتعرض لمزيد من التجزئة ومزيد من التقسيمات. وبما أن المسلمين أصبحوا غير قادرين على التنقل داخل هذه المساحة الشاسعة، فقد أصبحوا يتمثّلون دينهم مختلطاً، في الغالب، بالعادات والخصوصيات المحلية. وزالت الرؤية الممتدة وروح الاستكشاف التي كانت تميّز حضارة الإسلام الأصيل.

وعرف العالم العربي الإسلامي في القرن العشرين أيديولوجيات تتراوح في علمانيتها، وباءت جميعها بالفشل لأنها لا تجيب على سؤال الهوية الحقيقية للشعوب المعنية: كالقومية والوحدة العربية والاشتراكية...الخ. بالإضافة إلى إدراك الذين اتبعوا النموذج الغربي في النهاية «خيبة الأمل» وأزمة القيم التي تسود هذا الغرب، بل إن بعضهم بدأ فعلياً في البحث عن حلول في ثقافتهم الإسلامية. وتبيّنوا أن» التغريب» القسري الذي مارسه بعض الأنظمة أدّى إلى صراعات نفسية واختلال اجتماعي كبير.

العودة إلى الهوية الإسلامية هو إذاً ردّ فعل منطقي: إنه بكل بساطة ردّ فعل حيوي كمسألة «عودة المرء إلى بيته». ولكن، أيّ هوية إسلامية نبحث على تشجيعها؟ هل هي هوية الإحباط، أم هوية «الرأي الأوحد» والانطواء على الذات، أم هي هويةٌ إنسانية روحية تمكّنت من تضميد جراحات الماضي واسترجاع الرؤية الكونية للعالم؟ على البلاد الإسلامية التزوّد بالإمكانات التي تتجاوز بها مرحلة الاستياء، عسى أن ينبثق منها وضع نفسي ايجابي. صحيح أن الغرب يعامل العالم الإسلامي بمكيالين، وأنه، كما كتب مارسيل غوشيه: «عُمي عن آثار عولمة الاقتصاد والأعراف» في البلاد الإسلامية «ولا يقيس الأثر التخريبي لتغلغل أساليبه في العمل والتفكير على العلاقات الاجتماعية القائمة». ولكن، على العالم الإسلامي أن يمارس النقد الذاتي أكثر فأكثر، نقد ذاتي موضوعي وبنّاء، وذلك: 1) ليفهم لنفسه في شكل أفضل 2) وليعكس صورة أفضل عن نفسه.

وإعادة أسلمة المجتمع، التي يمكن أن تكون جارية في العديد من البلاد الإسلامية، لا يجب أن تتحوّل إلى شعار يُرفَع؛ ولا يجب أن تصبح عملية تنميط للملبس الواحد والفكر الواحد؛ بل قراءة معاصرة ومتكيفة لتراث الإسلام الثري والمتنوع. ولا يجب أن تقتصر على عالم الأشكال: فقد استوعب المسلمون إجمالاً التقنية الغربية، كما عبر رشيد رضا عن رغبته منذ زمن، ولكن ذلك لا يكفي (فالمسؤولون عن أحداث 11 سبتمبر 2001 أيضا استوعبوا تلك التقنية). ما يجب القيام به هو المبادرة إلى تغيير السلوكات النفسية، لأنها هي المحددة للهياكل السياسية والاجتماعية. ولأنني أنتمي إلى الغرب ألاحظ قلة الدقة والفعالية في بعض المجتمعات الإسلامية، وهو أمر يتعارض بكل تأكيد مع مُثل الإسلام.

ويؤكد بعض المفكرين المسلمين في الغرب ضرورة إحداث «علم لاهوت التحرير» في البلاد الإسلامية، على غرار ما قامت به بعض الأوساط المسيحية في أميركا الجنوبية: بهذه الطريقة، يمكن للمسلمين أن يميّزوا في شكل أفضل بين قيم الإسلام الحقيقية والجوهرية من ناحية، وتكدّس عقليات وعادات أضيفت عبر القرون إلى هذه القيم من ناحية أخرى. لقد حققت الأصولية الإسلامية بعض النجاحات الميدانية بسبب الفراغ الذي تركته أوساط الإسلام المستنير، فهذه الأوساط غير مهيكلة بالدرجة الكافية التي تجعلها تبرز بوضوح أو تكون فعالة أمام الشعوب. وعلى رغم كل ذلك فإن للمسلمين نقاط قوة، هم على ما يبدو قليلو الاهتمام بها.

فحياتهم لا تزال محكومة بالمرجع الديني الإسلامي مما يعطيهم قوة معنوية جماعية تحتفظ على رغم كل المعوقات بحيوية شديدة؛ ويختلف هذا الأمر عنه في مناطق أخرى من العالم، تعاني مجدداً من «خيبة الأمل» المادية المؤدية إلى «العدمية». وعلى رغم الصدمات العنيفة التي أعقبت ظهور الحداثة في البلاد الإسلامية، فإن هذه قد احتفظت ببَرَكَةٍ واضحة، لأن الإسلام دين حي، ويحتفظ في داخله بروحية حية.

وتوجد في البلاد الإسلامية طاقة إنسانية كامنة، أعني «حرارة إنسانية»، وهو أمر بات الغرب يفتقده يوماً بعد يوم. وعلى رغم وجود بعض النفاق، إلا أن الحياة الدينية ما زالت تحافظ على نسيج اجتماعي، وهو نسيج معارض بقسوة للغرب. لذلك تجد بعض الأوروبيين- متقاعدين كانوا أم لا- يستقرون في المغرب العربي، خصوصاً في المغرب الأقصى وأيضا في تونس، كما تجد المستعمرين القدامى، أو ما يطلق عليهم بـ»الأقدام السوداء» يلتحقون مجدداً بالجزائر. لم تكن السياحة فقط هي المزدهرة بين أوروبا والعالم الإسلامي؛ إننا نجد مثلاً أوروبيين يعملون في المغرب في شركات غير أوروبية، بل مغربية تماماً.

وعلاوة على ذلك فان العالم الإسلامي يمكن أن يوفّر للغرب، وهو يقوم بذلك فعلاً، نموذج إيمان قوي، إذا ما تم عرضه بطريقة ذكية، بل يقدّم أيضاً غذاء روحياً. فالغرب وصل إلى قاع الحضارة المادية: وإذا كان لا يزال واثقاً من نفسه على مستوى الموضوع ، إلا انه الآن يبحث عن الذات. ففي مجتمعاتنا التي فقدت هياكلها تقريباً، والتي قد يصاب الناظر إلى تنوع التجارب الفردية فيها بالدوار، تعمل الروحانية الإسلامية، على إعادة التوازن للشباب المنحدر من أصول مغربية بل للأوروبيين الأصليين أيضاً، والعمل على إيقاظهم.
الآفاق والاقتراحات:

- ليس الحل في العودة إلى الماضي. يجب النظر إلى المستقبل مع المراهنة على الكونية الروحية للإسلام. إن الإيمان وحده هو الذي يعطي للهوية الإسلامية معناها، لأنها تمكّن من تجاوز العداءات ومنطق المواجهة.

- يجب على المسلمين أن يجدوا طريق الوسطية بين التقليد الأعمى للغرب والرفض الغاضب له: عندها يمكنهم أن يجدوا في هذا الغرب بعض الفضائل مثل روح التنظيم والمواطنة، وأدوات التحليل المستمدة من العلوم الإنسانية ...الخ. وذلك من دون التخلي عن شخصيتهم الإسلامية العميقة. وأود في المناسبة أن أشهد أن الغرب نفسه يشهد نوعاً من «الرأي الأوحد» أو ما يطلقون عليه «المقبول سياسياً»، والذي يَفْرِضُ بنعومة أفكاراً وسلوكات، ويمارس نوعاً من الرقابة والضغط غير المباشر ولكن الحقيقي.

- يجب على البلاد الإسلامية القيام بمجهود مضاعف لتأهيل شعوبها إذا كانت تريد تجنب «صدام الجهالات». وعليها أن تعمل على تعليم شعوبها ثراء وتنوع الثقافة الإسلامية الأصيلة، حتى تستطيع رفض «الوصفات الجاهزة» ذات اللون الإسلامي، ومنع الآخرين من فرض طرق عيش موحّدة: أي رفض «عولمة إسلامية» تعمل على تنميط الحياة الدينية والاجتماعية في شكل لا يختلف عن «العولمة الأميركية» غير المرغوب فيها.

- الجهات الإسلامية المختلفة لا تحسن التواصل، خصوصاً مع البلدان الأجنبية؛ وعليها القيام بحملات إعلامية موجهة إلى وسائل الإعلام الغربي وغير الغربي، وسائل تعيب عليها تقصيرها في إدانة الأعمال الإرهابية التي ترتكب باسم الإسلام. إن وسائل الإعلام الغربية تعمد دائماً إلى إبراز هذه الأفعال، وتسكت عمداً عن العمل الضخم المبذول في التنمية البشرية وتعليم السلام الذي تقوم به مجموعات إسلامية أياً كان انتماؤها. ولتعريف العالم برسالة الإسلام الأساسية، يجب على الدول الإسلامية والمنظمات الإسلامية أن تحرص على خلق نخبة مدنية متنوعة وحرة، ولها القدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام العالمية.

وفي الواقع، يجب إضفاء روح على العولمة، ويمكن للإسلام أن يساهم مساهمة كبيرة في ذلك.

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...