الإسلام في سورية:الدولة تتقارب مع الاسلام الشامي والمعارضة تتحالف مع السلفي؟!

27-11-2013

الإسلام في سورية:الدولة تتقارب مع الاسلام الشامي والمعارضة تتحالف مع السلفي؟!

فرقة «تهليل» السورية في المهرجان الصوفي في الاردن عام 2010 (أرشيف)للقوى الإسلاميّة في سوريا تقاليد خاصّة في العمل السياسي، خصوصاً من الناحية التنظيميّة. وإذا كان اليسار والحركة القوميّة، على سبيل المثال، استندا تاريخياً إلى المبدأ الكلاسيكي للحزب وبنائه التنظيمي الهرمي، فإن التيارات الإسلاميّة في سوريا اعتمدت على النشاط الديني والاجتماعي العام. وهذا النشاط يظهر في المساجد والمعاهد الدينية، ومن خلال العمل المدني والخيري بالمعنى الواسع للكلمة. وحتّى التنظيمات الإسلاميّة الظاهرة، مثل جماعة «الإخوان المسلمين»، لجأت إلى تلك الأساليب في عملها، إلى جانب بنيانها التنظيمي الخاص.
وعلى هذا الأساس، تتفرّع التيارات السياسيّة الإسلاميّة إلى ما هو أكثر من الجماعات أو الأحزاب المعروفة، فتظهر بأشكال مختلفة: شيوخ ومريدون، طُرُق دينية، مؤسسات تعليمية، وأخرى اقتصاديّة وخيّرية.... وهذه البُنى كانت بمعظمها تندرج في إطار«التيار الإسلامي الشامي المعتدل»، الذي يوصف بأنه شعبيٌّ ووطني بامتياز، كونه يمثل الميل العام لدى الجمهور المتديّن البسيط، نحو الوسطيّة والاعتدال، ونبذ الغلوّ والتشدّد اللذين طبعا الأحزاب السياسيّة الدينية، كجماعة الإخوان، وحزب التحرير الإسلامي، ومشتقّات «القاعدة» وغيرها.
وشكّل هذا التيار، تاريخياً، المنبر المعادي للسلفيّة الوهابيّة، ليس في سوريا فحسب، بل على المستوى العالمي، وخاض في إطار ما سُمّي «اتحاد علماء بلاد الشام» بقيادة العلّامة الراحل محمّد سعيد رمضان البوطي نضالاً شاملاً ضد السلفيّة بالمعنى الديني والأيديولوجي، وحقّق انتصارات معرفيّة مهمّة على المستوى الشعبي.
يذكّر أنصار هذا التيار دائماً بقول العلّامة البوطي: «في المفاضلة ما بين الدين والعلم فإنّي أختار العلم، لأن العلم يقود إلى الدين الصحيح، أما الدين الأعمى فيقود الى الضلال والجهل». وبهذا يكون البوطي قد أعطى المعيار للفصل بين الدين من جهة، والحياة العامة من جهة أخرى، مسجلاً موقفاً تاريخيّاً يقترب فيه من الفكر المدني والعلماني إلى درجة قلّ نظيرها في العالم العربي والإسلامي. ويرى أقطاب هذا التيّار أن «الإسلام السياسي»، ممثلاً بالتنظيمات الدوليّة («الإخوان»، «القاعدة» ومراكز الإفتاء في الخليج)، وُجد لكي يستثمر الإسلام في سياسات دولية مرتبطة بالمصالح الغربية والخليجيّة مباشرةً.
يقول الشيخ سليم الملّا، وهو إمام مسجد وأحد أتباع البوطي: «لا شك في أن لكل منا، نحن أئمة المساجد، آراء ومواقف سياسية واجتماعيّة، إلا أن عقيدتنا ترفض التحزّب، لأن الدين الحنيف أرفع وأشمل من الفرق المتحزّبة». ويدافع الشيخ سليم عن تعاليم البوطي، بقدر ما يفعل أعضاء الأحزاب والتنظيمات، وبما يزيد في بعض الأحيان. كما يدافع عن الدوّلة السوريّة، ويهاجم الفكر التكفيري وأتباعه، وينتقد في الوقت ذاته التجاوزات والأخطاء في أجهزة الدولة ومؤسساتها. أما عندما تجري مقاربة أسلوب الشيخ سليم بأي خطاب سياسي متحزّب، فإنه يردّ بالقول: «إن عدم انتمائنا إلى أحزاب أو جماعات، لا يقلّل من أهميّة فكرنا، ولا يعني عدم رسوخ إيماننا بقناعات مشتركة: الاعتدال والوسطيّة كانا منهج العلّامة الشهيد وديدنه، ونحن ماضون على هذا الطريق من بعده».
ويرى المتابعون للشأن الإسلامي في سوريا أن هذا التيار يتواجد تاريخيّاً، وعلى نطاق واسع، في مدينتي دمشق وحلب بالدرجة الأولى. وأقطابه وشيوخه هم الأكثر شهرة على النطاق الوطني الواسع، كالبوطي وأتباعه، ومن بعده ابنه الشيخ توفيق البوطي، ومجمّع الشيخ أحمد كفتارو (المفتي السابق للجمهوريّة)، وأنصار مفتي الجمهورية الشيخ بدر الدين حسّون في حلب، وشيوخ الطرائق الصوفيّة في كلٍ من حمص والحسكة وغيرهما.

المعارضة تهاجم التيار المعتدل

تحت شعار «إسقاط النظام»، سعى الكثير من وسائل الإعلام الغربيّة والخليجيّة إلى شيطنة صورة جهاز الدولة في عيون السوريين، وذلك من خلال إظهاره كأداة طيعة بيد «طائفة معينة» أو «طغمة حاكمة»، والعمل على تكريس الانقسام العمودي، ما بين: معارضين ــ أعداء للدولة من جهة، وموالين ــ أبناءً ومستفيدين منها، من جهةٍ ثانية. إلا أن الأداة الأساسية في تغذية هذا الانقسام، في رأي موسى بيلجي (28 عاماً)، الطالب في معهد الفتح الإسلامي في دمشق، «هي من خلال الزعم عبر وسائل الإعلام بأن هناك إجماعاً لدى أهل السنّة على رفض الدولة التي زعموا بأنها تمثّل الأقليات فقط». ويعدّد بيلجي الضغوط التي مورست على أنصار التيار المعتدل: «اُتهمّنا بالتشبيح والعمالة للطوائف الأخرى، فقط لأننا أظهرنا أخلاق الإسلام الشامي المعتدل، ودعونا إلى نبذ الصراعات الطائفية، وقلنا إن الدولة هي ملك للشعب كلّه، وليست عدواً أو صديقاً لهذه الطائفة أو تلك».
وعانت المؤسسة الدينية الشاميّة، كغيرها من مؤسّسات المجتمع والدولة، من ظاهرة «الانشقاقات» التي «رفدت الحملات الإعلاميّة المناوئة للإسلام المعتدل»، يضيف بيلجي، «وذلك من خلال إطلاق الأقاويل والإشاعات عبر وسائل الإعلام بأن رموز هذه المؤسسة ليسوا سوى موظفين لدى الحكومة، ويأتمرون بأمر أجهزتها الأمنيّة». الى جانب التهجّم على المشايخ أو اعتقالهم من قبل التكفيريين، ومحاكمتهم في ما يسمّى «المحاكم الشرعيّة»، في المناطق التي يسيطر عليها أولئك.
إلا أن ذروة هجوم المعارضة على هذا التيار كانت في موجة الاغتيالات لأقطابه الأساسيين، وعلى رأسهم الشيخ البوطي، الذي أثار اغتياله استهجاناً واسعاً في أوساط الجمهور المتديّن من المدّ التكفيري، بلغ حدّ الصراع المسلّح بين أنصار التيارين، المعتدل والتكفيري، في بعض ريفي دمشق واللاذقيّة في حينه، حتى بين مسلّحي المعارضة أنفسهم. كما ان «الجهة المنفّذة لعملية الاغتيال لم تجرؤ على تبنّيها، وسارع إعلام المعارضة كالعادة إلى اتهام النظام بذلك، لتفريغ شحنة الغضب الشعبي الذي أثاره مقتل العلّامة»، يقول أحد المقرّبين من الشيخ توفيق ابن العلّامة البوطي. ويضيف نقلاً عنه وصفه لهذا الاتهام بأنه «سخيف، وأن الغاية منه التملّص من المسؤولية الدينية والأخلاقية والتاريخية لهذا الاغتيال»، ولا سيما أنّ بعض القوى التكفيرية، سبق لها أن أبدت نيتها واستعدادها لقتل العلّامة، بعد أن كفّرته مراراً.

اغتراب بسبب التجاوزات الأمنيّة

ويثير الحديث عن الأزمة ومجرياتها الكثير من الأسى لدى أنصار التيّار المعتدل. فهذا الأخير الذي لا يزال يستمدّ قوته من جمهور واسع على الأرض، من متدينين وغيرهم، كان حتى الأمس القريب ممسكاً بالشارع الإسلامي السوري برمته تقريباً، بحسب المتابعين.
إلا أن خروج معظم التظاهرات من المساجد رَبَط، من الناحيّة الرمزيّة على الأقل، بين المعارضة والتيارات الإسلاميّة على اختلاف مشاربها، وهذا الأمر انعكس على سلوك الأجهزة الأمنيّة. فهذه الأجهزة أخذت تتعامل مع كل من يتردّد على المساجد على أنه «مشروع متظاهر». يقول إمام مسجد في دمشق: «لم يكن من الممكن التغاضي عن تجاوزات الأجهزة الأمنيّة في بداية الأحداث، بغض النظر عن المواقف السياسيّة، فمطلوب منك كرجل دين أكثر مما هو مطلوب من أي شخص آخر: أن تقول الحقيقة كما هي، من منطلق الواجب الشرعي والأخلاقي. ولا سيما أن البعض من أنصارنا قد تعرّض إلى الضرب والاعتقال من دون سبب».
وانعكست جرأة أنصار التيار المعتدل في انتقادهم للتجاوزات الأمنيّة، عليهم بمزيد من الأذى، الأمر الذي زاد من اغترابهم عن جمهورهم، فتضاءل تأثيرهم السياسي والاجتماعي العام، وانحصر دورهم بالنشاط الديني البحت، يقول الشيخ سليم: «لا نزال نسمع من الناس التعليقات الساخرة، بكثير من التفهّم، كأن يقال ان الشيخ فلان ينهي خطبة الجمعة بخمس دقائق خوفاً من محاسبته على كلمة قد تخرج عن السياق، أو أن أحد المشايخ يجمع صلاة الظهر مع العصر ليقلّل من احتمال إصابته بسوء من جرّاء تردّده على المسجّد». إلا أنّ هذا الأمر لا يعدو كونّه حالة عابرة من «حال غلبة الشكّ في النفوس، وغياب اليقين»، التي تسود في الظروف العصيبة، كالأزمة التي تمرّ بها البلاد. هذه الحال كانت سادت في بلاد الإسلام المعتدل غير مرّة وذهبت عند أول «يقظة للعقلاء»، على حدّ وصف الشيخ سليم.
وعلى أساس المعطيات الجديدة التي فرضها واقع الأزمة، تراجع نفوذ التيار المعتدل، من الهيمنة على كامل الساحة الدينية، إلى تقاسم النفوذ مع التيارات الإسلامية المعادية له، «الإخوان» و«القاعدة» بشكلٍ أساسي. إلا أن الفرز لا يزال جارياً في أوساط الجمهور الديني، بحسب شيوخ هذا التيار، فكثير من الذين ولّوا ظهرهم لتيار الاعتدال والوسطيّة، نتيجة أعمال العنف التي تشهدها البلاد، والحملة الإعلامية المعادية التي وجهت ضدّه، تعود اليوم إلى أحضان هذا التيار بعد أن خبرت طبيعة القوى التكفيرية عن قُرب وعانت منها، ولا سيما بعد مقتل البوطي. وعلى عكس ما تقوله وسائل الإعلام الخليجيّة والغربية، بان هذا التيار انتهى مع اغتيال البوطي، فإن جمهوراً واسعاً دفعه الاستياء من هذا العمل إلى مراجعة موقفه من تيار الاعتدال الشامي، «فالإسلام المعتدل يقوى بكل شهيد يقدمه على مذبح إيقاف الدمار الذي تجلبه القوى التكفيرية لبلادنا»، يقول أحد شيوخهم، ويؤكّد أن شيوخ هذا التيار وأقطابه تداعوا لاستعادة زمام المبادرة على المستوى الشعبي، بعد اغتيال البوطي، ولعب الشيخ توفيق البوطي ومفتي الجمهورية دوراً محورياً في إعادة إحياء نهج العلّامة الراحل.
ويبدي أقطاب التيار المعتدل استعداداً وشجاعة تجاه القضايا المتّصلة بالمصالحة الوطنيّة أو الحوار أو الحلول الإنسانية. فهم واثقون من استعادة ذلك الجزء من جمهورهم، الذي أبعده عنهم هول الأزمة ومفارقاتها، وكانوا من أوائل المبادرين إلى التسويات وتجارب المصالحة، في دمشق وريفها، «فهذا نهجنا، نهج الإسلام الحقيقي، الذي أطلّ فجره على هذه البلاد من دون أن يلغي حقيقة تنوعها وغناها، وليس نهج الفرق المتحزبة التي تتغطّى بعباءة الإسلام ولا تفتي إلا بالقتل والباطل» يقول أحد أقطاب المعتدلين.

في دائرة الاستهداف منذ ما قبل الأزمة

تاريخ الاغتيالات في صفوف التيار الديني المعتدل في سوريا يعود إلى ما قبل الأزمة. ففي منتصف عام 2005 اختطف الشيخ الدكتور معشوق الخزنوي، ابن الشيخ أحمد الخزنوي، مؤسس الطريقة الخزنويّة، وقتل ودفن في صحراء دير الزور. آنذاك اتهمت المعارضة النظام بقتله، زاعمة أن سبب الاغتيال هو نشاطه القومي (الكردي)، إلى جانب النشاط الديني. وكان الدكتور معشوق قد شغل منصب نائب رئيس مركز الدراسات الإسلاميّة في دمشق. ثم كشفت التحقيقات أن الجريمة نفذها اثنان من مريدي الطريقة الخزنوية السابقين، كانوا قد انتقلوا إلى صفوف التيارات التكفيرية. وبدت الجريمة محاولة لتسعير الحساسيات بين الأكراد وأهالي دير الزور، التي نشأت على خلفية أحداث آذار 2004 في محافظة الحسكة.
وكان الاغتيال الأبرز للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، زعيم تيار الاعتدال، في جامع الإيمان، بواسطة تفجير انتحاري في نيسان الماضي، أودى أيضاً بحياة حفيد البوطي.
وسبق ذلك اغتيال ساريّة حسّون، ابن الشيخ أحمد بدر الدين حسّون مفتي الجمهورية، في تشرين الثاني من العام 2011. ويضاف إلى القائمة العشرات من مشايخ التيار المعتدل جرى استهدافهم وقتلهم من الجهات التكفيرية، خلال الأزمة السورية، وقبلها.


الصوفية والاعتدال

شاع وصف «الصوفية» على الإسلام السوري في العالمين العربي والإسلامي. واستند ذلك إلى كون الحركة الصوفيّة اتخذت تاريخيّاً من سوريا مركزاً لها، في حين حاربتها التيارات السلفية والتكفيرية في بقاع مختلفة في العالم، كالخليج العربي وآسيا الوسطى (أفغانستان وباكستان)، منذ ثمانينيات القرن الماضي.
واتخّذت الصوفيّة طابعاً شعبياً في المناطق التي حلت فيها، بما ينسجم مع مضمونها الأيديولوجي، فظهرت بشكل «طُرُق» تقوم على طقوس من العبادات الكثيفة، ولهذه الطرق بنية تنظيميّة تقليدية: «السلك» الصوفي الذي يرتقي فيه الأفراد، ضمن تسلسل المراحل من الأتباع إلى المريدين إلى الأقطاب.
ويتفق الكثير من الباحثين والمتابعين على الوصف الذي أطلقه هادي العلوي على الحركة الصوفيّة المعاصرة وهو الـ«دَرْوَشة»، من لفظة دراويش، بمعنى أنّها تخلت عن جوهرها السياسي المعارض للأنظمة السياسيّة والاجتماعية، واقتصرت على جانب العبادات بعيداً من المواقف السياسية الجارية في كل زمان ومكان.
وتوجد ثلاث طُرُق أساسية للحركة الصوفية في سوريا، الأولى: طريقة الشيخ أبو النور خورشيد في منطقة الشيخ محي الدين في دمشق، والثانية الطريقة النقشبنديّة في حمص، والثالثة الطريقة الخزنويّة (الشيخ أحمد الخزنوي) ومركزها في منطقة تل معروف في ريف الحسكة.
ولا تزال هذه الطرق الثلاث إلى جانب الدولة السوريّة لسببين، الأول: أن القوى الإسلامية المعارضة ناصبت الحركة الصوفيّة العداء تاريخيّاً، والثاني: هو هوامش الحرية التي أعطتها الدولة للصوفيين في ممارسة شعائرهم. إلا أن قسماً غير قليل من أنصار هذا التيار، انتقل إلى صفوف القوى المتشدّدة، بحسب المتابعين، بسبب حجم التناقضات التي خلفتها الأزمة في سوريا، والهجوم الإعلامي عليهم.
ويرفض شيوخ التيار المعتدل المطابقة بين تيارهم والصوفيّة، وهم من لمسوا الآثار السياسية والأيديولوجية لهذا الوصف، فـ«الصوفية برأي التيار السلفي، بدعة تُشِيع الإيمان الجاهل بالدين الذي يرتكز على الغيبيّة، وليس على العقل، وبهذا تسهل عليهم مهاجمة التيار المعتدل، بعدما فشلوا في الحجّة». أما التيار المعتدل في سوريا، وإن كان لا يتعارض مع الصوفيّة، فهو «قلعة للعلم، إلى جانب الأزهر»، بحسب بعض شيوخه.

ليث الخطيب

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...