الاقتصاد الإسلامي والاجتهاد الغربي

11-02-2007

الاقتصاد الإسلامي والاجتهاد الغربي

يُحكى ان الشيخ ناصيف اليازجي (مسيحي ماروني) كان يجلس كل اسبوع في الجامع الأموي برمشق ويفتي الناس في مسائلهم وقضاياهم على مذهب أبي حنيفة. وهي ليست من الدعابة ولكنها تعني التكامل اللازم في القضايا المعيشية. لكن الافتراض في ذلك اذا تعدى مفهوم حفظ النص والفتوى على ذلك المذهب نحو الاجتهاد في النص وتقويمه لمتطلبات شرعية في النوازل المعاصرة.

الكثير منا قد لا يحتمل ان يتعرف على هذا الامر او لا يصدق ان يأتي الاجتهاد في القضايا المعاصرة من الدارسين غير المسلمين، الا ان الامر عكس ذلك.

وهل يمكن ان نعتقد بأن الامر ممكن؟ حيث ان شرط الاجتهاد في الاسلام هو اسلام الفرد نفسه. وهذا السؤال يحير تماماً كما هو متوقع. لقد فتحت الدراسات الغربية في مجال الفقه منذ الخمسينات، وفي الستينات توجه شاخت توجهاً مختلفاً ليس في دعوته فقط نحو المقارنات المبسطة من الفقه، وهل له امتداد من التشريعات اليهودية او القانون الروماني... الخ؟ بل امتد توجهه الى اعادة هيكلة هذا الفقه من حيث تكوينه وتطوره قديماً. وإن كان هذا الجانب لم يحظ بالقدر نفسه في العلوم الكلامية وفي الدراسات الاستشراقية، اما الدراسات الفقهية، وبالذات مسائل المعاملات، فإنها تقدم نموذجاً لعلم غير المسلمين في المجالات الفقهية المعاصرة. اذ مع توسع نطاق البنوك والاستثمارات الاسلامية التي ازدادت في شكل واضح، اعتقد كثير من الباحثين بأنها محاولة أسلمة المعاملات المصرفية الدولية وإدخال الفقه الاسلامي كجانب التحكم في هذه المصارف.

اذاً، في هذا الخيار ستبقى – ما من ريب في الأمر – البنوك تبحث عن الاقتصادي المستوعب للفقه الاسلامي وليس العكس، ذلك ان القضايا المعاملات هي جزئية وليست من الكليات او قطعيات الدين، وهي تتعلق بالمصالح وادارتها. ولذا، فأفكار واجتهادات الاقتصاديين صارت الخيار الأكثر استعمالاً، وهم سيبقون لأن لديهم قوة التنظير والحلول العلمية للقضايا. ويمكننا الاجابة على كلا الامرين بالايجاب تبعاً للفائدة في الفقه الاسلامي، وهو نعم – ثم ان الفرق ما بين الابداع والتلقي سيعيد نظرنا في مسألة الاجتهاد بين المسلم وغير المسلم في الفقه الاسلامي.

بالامكان اليوم ان نستدعي خبيراً اقتصادياً مختصاً بالاقتصاد الاسلامي من الجامعات الأوروبية لكي يعطيك حلاً فقهياً لمعاملة مالية او يقدم استشارة لإحدى المعضلات التي تواجه الشركات والمؤسسات. فهو خبير لديه من الامكانات والفهم ما يناقش به فقيهاً مسلماً في القضايا ذاتها. فهل هذا تجديد في الفقه الاسلامي واعادة بعث للمسائل الفقهية المعضلة؟ البعض قد لا يصدق هذا الامر، لكن فقه المعاملات الاسلامي يحتاج الى إعادة نظر في فهم القضايا المعاصرة، وتجاوز الآراء المبعثرة حول بعضها في كتب الفقه.

لقد فرضت هذه التطورات أمراً آخر وهو تدريس برامج الاقتصاد الاسلامي في كبار الجامعات الاوروبية ابتداءً من هارفرد بالولايات المتحدة الى درم وادنبره ثم لافبرا في المملكة المتحدة. ومن ثم إدخال برامج متخصصة للاقتصاد الاسلامي مثل برامج الماجستير والدكتوراه. لقد كان المثال الوحيد المقدم من العالم الاسلامي هو الدعم المقدم من ماليزيا في تبني برامج الاقتصاد الاسلامي، وتلا ذلك وفي شكل ضعيف في باكستان وايران والسعودية. إن هذه البرامج تأتي من دول إسلامية، والمغزى المهم في ذلك، كيف للجامعات الغربية أن تتبنى أطروحات الاقتصاد الاسلامي أي ان تستعمل منطقاً مختلفاً في دراسة المسائل المالية، وادارة المؤسسات.

ويمثل هذا نجاحاً نوعياً نظراً للهجرة العربية الاسلامية اليه وكذلك الاصدارات الحديثة في دراسات البنوك الاسلامية ومن المتأكد أن اصدارات جون بريسلي j.Presley Directory of Islamic Financial in Situation ورودني ويلسون R. Wilson في كتابه اقتصاديات السوق الاسلامية Islamic Financial Markets نيكولاس ديلان ري Nicolas Dylan Ray في البنوك العربية الاسلامية وتجديد الفقه الاسلامي Arab Islamic Banking and renewal of Islamic law. وغيرها من الاصدارات المتتالية حيث تستقطب اهتماماً لدى شريحة واسعة من المسلمين وغير المسلمين من حيث فرص العمل والاستشارات القانونية والخبرة الدولية في مجال الأسواق المالية.

وفي حقيقة الامر فإن التوسع في الاهتمام يرجع لنطاقين مهمين هما أطروحة الاسلاميين حول البنوك اللاربوية، والتي بدأت تتأسس أواخر الستينات من القرن العشرين.

والأمر الآخر هو الثروة النفطية الخليجية منذ مطلع الستينات، مما أثر في السيولة المالية ورأس المال المتداول، وأصبح الناس في تساؤل الى أي حد يمكن لهذه المصارف الدولية التعامل بها. لكن منذ أن تبنى بنك فيصل الاسلامي، والبيت الكويتي للتمويل والاستثمار أطروحة فقه المضاربات في المعاملات المالية والعمل على تطويرها، اصبح الامر حقيقة بل تعدى ذلك نحو الأسواق المالية وأسهم الشركات، والتأمين.

فالمصطلحات المالية لا بد من تقنينها في المعاملات الدولية وهذا ما جرى الالتزام به في المعاملات الاسلامية المعاصرة أو ما يقاربها في التعريف حتى تتسنى مراجعتها في شكل دائم مع ما يناسبها في ترتيبات الاقتصاد العالمي.

وهذا التداخل كذلك في شركات التأمين والشركات بأنماطها وقضايا المضاربات والرهن. فالحاجة الماسة للخبراء الاقتصاديين الغربيين لفهم الاقتصاد الاسلامي هو الاستعانة بهم في الاقتصاد العالمي، والعكس صحيح فالفقيه في المعاملات محتاج اليه كذلك. فالاقتصاد الرأسمالي العالمي وتداوله متقارب في نظرياته مع الفقه الاسلامي ولكن تبقى التنظيرات لأجل تطوير الفقه باتجاه معالجة الاشكاليات المعاصرة. ولذا فقد أسس بنك نورث يورك شاير أحد البنوك البريطانية فرعاً فيه للمعاملات المصرفية الاسلامية، وتم الاعتراف به جزئياً في ما بعد في التعاملات المالية البريطانية.

ولا شك في أن المؤتمرات والمجامع الاسلامية تتداول هذه القضية خلال دوراتها، لكن لو استعرض أي شخص منا قائمة الاسماء التي تتداول القضايا الاقتصادية العالمية، وبحث عن الفقهاء بينهم وليس الاقتصاديين بالمعنى المهني أو العلمي لوجدهم قليلين جداً. ولو سألت أي شخص منهم عن مصطلح اقتصادي لظل في حيرة وهو يفتي في ذلك ما يجوز وما لا يجوز من معتقده المذهبي أو اجتهاده الشخصي. القضية معنا مختلفة فالفقيه يقارب القضية الدولية من مصطلح وآراء وآثار من مفهومه العام والمستند اليه في مدرسته الفقهية طوال القرون الماضية من غير حاجة الى ادراك كبير للمتغيرات المتزامنة في عالم المال. أو بطريقة أخرى سيأتي الى المؤتمر أشخاص لا يتجاوزون إصبع اليد للانضمام الى رجال المال والاقتصاد، وذلك من أجل الافادة من السمعة والصدقية أكثر من الافادة من الاطروحات أو الابداع.

عبد الرحمن السالمي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...