الرواية مدخلاً إلى معالجة الزواج المختلط

20-05-2007

الرواية مدخلاً إلى معالجة الزواج المختلط

يؤسس الدكتور منصور عيد في عمله الروائي الجديد "شرارات الرماد"، لنمط جديد من المعالجات الادبية التي تتناول قضايا مجتمعية معاشة، معتمداً فنّ المزج بين مشكلية الواقع وبناء الفرضيات المعقولة التي يوظفها للاسهام باعادة ترسيم خطوط المجتمع التعددي، بما يتوافق وتقنية استثمار الحدث، وادارة المعلومات، خدمة للهدف، والقصديات الاصلاحية.
في ذلك ينطلق من نظرية "قياس القيم" على مستوى سلوكيات الافراد، والعلاقات الناظمة لتصرفاتهم، والمنطبعة بخلقياتهم والكامنة في وجدانهم الديني وتقاليدهم الفكرية، حيث تعصف التحديات وتتوالى بين مأزقية الواقع ومأزومية المأمول، خصوصاً في حالات التمزّق الداخلي التي يعيشها (العلماني) الطامح الى بناء كيان مجتمعي انفتاحي متحرر من انغلاقيات النظريات الآسرة، ويتطلّع الى خلق مفهوم عملي لشعار "العيش المشترك" من خلال الإقدام على مغامرة "الزواج المختلط" والرهان عليها كخطوة واجبة التطبيق في بيئة تتلاقى فيها الاديان والطوائف، من دون ان تتماهى، لتخلق حالة طبيعية تكتسب صفة الأنسنة.
منصور عيد، في رؤيته الروائية في بناء هرميته السردية، فضلاً عن حسه النقدي وشاعرية خواطره، وتقنية استخدام اصول الحوار يتوسل القص الروائي لطرح قضية محورية في العلاقات بين المذاهب والطوائف، فيعالجها بكتابة واقعية، تتكثف فيها المستهديات التعبيرية التي تتكلم عن نفسها بنفسها، بحيث يشعر القارئ انه في قلب النص، لا خارجه، وانه شاهد على جمالية ائتلاف قلبين جمعهما النضال التحرري فهدما جدار الفصل بين الطوائف، ليؤسسا حوار الحب، ويحاربا العصبية التخلفية، بالانفتاحية والإقدام.
الدكتور عيد المسكون بالامل باعادة تركيب المجتمع من خلال الاضاءة على مفهوم احترام جدية الفرد وقرار القلب، يجهد من خلال مشهدياته الحوارية والسردية لأن يدعو الى احترام "كرامة الاختلاف" وتظهير ذلك من اجل التأكيد على ان الاختلاف العقيدي والايماني، هو غنى للبنان ولمعنى الانسان فيه، وليس مدخلاً للخلاف والنزاع.
ففي معالجته لجماليات التلاقي بين القيم والخلقيات عند حبيبين من دينين مختلفين، يقيس الروائي الناهل من ثقافة العلمنة نظرة المجتمع المتنوّع الى الزواج المختلط وما يحمله من قيم، بمقياس الطامح الى صياغة "حالة لبنانية" عابرة للمذهبيات والطبقيات، معتبراً ان لبنان الذي طالما اسبغوا عليه صفات "الصيغة الفريدة" و"ارض التلاقي بين الديانات" لا بد ان ينتقل من حالة الاختبار المستدام، الى حالة الواقع الصلب والمحصّن بقناعات وثقافة عَيْشية، تبعد عنه الاهتززات التي تعرضه لعدم الاستقرار، وتبقيه معلقاً بحبال الهواء والاهواء!
لقد نجح منصور عيد بصياغة نصه الروائي في ثلاثيته (طائر الفينيق 1998)، و(غداً يزهر الثلج 2004)، و(شرارات الرماد 2007)، اضافة الى نتاجاته القصصية والبحثية، التي أغناها بالكثير من المعارف والتطلعات، واجتهد ليقول كلمته في الزواج المختلط وثورة الشباب، ورفض الاجيال للقديم وسلطة الاقطاع وكل ما هو (زعيم)، فيحرض على التحديث والتطوير، ويبشر بالتغيير كقاعدة للتغيير في الذهنيات والتركيبات الفكرية، حيث الانسان هو الهدف في كل ما كتب نثراً، وما قال شعراً. فالانسانية التي وشمت أدبه بعلامات فارقة، شكلت المحور لخواطره وافكاره التي اسس عليها عمارته الروائية، فراح يبحث في التاريخ ويتوقف عند بعض (الايام)، ينفعل لها، يتأثر، يعيش احداثها بمهارة المغامر الذي، لشدة اندماجه بالحدث، تكتبه الرواية قبل ان يكتبها، خارج التكلّف والصنعة والابتذال...!
القراءة المتأنية لاحداث الرواية من منظور نقدي وتقويمي، تؤكد احترام المؤلف لوحدة السياق، التي تجمع بين فنية اختيار الاحداث والتواريخ واستخدامها في مجرى تسلسل اللوحات وتتابعها المترابط، والمنسوج حبكات، تتوافق فيها البداية مع أطر تنامي الاحداث وتقنية الانتهاء الى الخاتمة الروائية، من حيث هي قاعدة الهرم في العملية السردية، وحجر الزاوية في ركيزة المغزى الذي ينتظم الاعمال الروائية والقصصية لمنصور عيد، تمثلا بالقواعد الاسلوبية التي وضعها ارسطو للرواية، حيث التركيز على الحبكة الواحدة التي تطورت مع الرومنسيين، مع المحافظة على وحدة الاثارة، بما يعكس الطاقة الانسانية المتكاثفة في أدبه.
هكذا، وببراعة البساطة التعبيرية، قعَّد عيد للرواية، كفنٍّ هجين من فنون سيرة الجماعة الذي جمع فيه بين دقة التحري التاريخي، وجمالية الامتاع القصصي، حيث امتزاج الواقعي بالخيالي، والاستناد الى معلومات وتواريخ مرجعية لها مطرحها في دفتر الوطن ووجدان الناس، حتى يخال القارئ نفسه في سفر زمني، ينقله الى قلب الاحداث وأزمانها ويحيله بطلاً شريكاً في الرواية، لا قارئ نص او ضيف شرف فيها.
لقد تمكن المؤلف من توظيف سرده النثري في خدمة هدفه الانساني، متجاوزاً الفن المروي الى الاصلاح والاتعاظ، حيث أسبغ وجوداً واقعياً على الاشياء والاحداث والشخصيات، بأسلوب تعبيري متخيل او مختلق او مؤلف من عناصر حادثة ووهمية، حيث يتصدى لقضية الزواج المختلط وتحدياته واخفاقاته، مصوراً الاخلاق والعادات والسلوكيات البشرية، فينزل شخصياته بمسمياتهم الطبيعية ضمن اطار اجتماعي معين، او مزوَّق، وفق متطلبات السياق الذي حمّله غاية خلقية وفلسفية ودينية ومجتمعية، هي في بعدها الرهاني مغامرة واجبة الحدوث، كي لا يبقى لبنان ميدان تجاذبات اختبارية.
هذا ما سعى إليه الدكتور عيد الذي يشعر بخطورة الوضع المأزوم الذي تفرضه الطائفية على المتحررين من القيود والرافضين لحالة الاقامة الجبرية التي تفرضها عليهم موروثات التقاليد التي تشد بالمجتمع الى الخلف امعاناً بالامساك بسلطة الاقطاع الزمني، والخوف من الخروج على سلطة الوصاية الروحية التي اقمنا على نفوسنا، ولم نعد نقوى على مصارحتها، بأننا نريد ان نعيش (كرامة الحدث)، وان نحيا التعاليم الدينية، بقيمها وخلقياتها... ولكن، بحرية عقلانية!
لقد اخترق صاحب "شرارات الرماد" عمق النفس البشرية بمخيلة أشاعت الحياة في ارجاء الرواية، واستطاع، بحسه "الديموقراطي" ان يلتقط مفاصل الاختلاف والخلاف في المجتمع البناني، ويقدمها قضية مركزية وبنداً رئيساً في جدول اعمال النقاشات الحوارية بين المسيحية والاسلام، التي لا تزال في حدود التبادل البروتوكولي، وادبيات التلاقي، من دون الانتقال من حالة المقاربات النظرية الى ملامسة التطبيقات الميدانية، ومعالجة ظاهرة الزواج المختلط التي يرى فيها البعض خطأً، والبعض خطيئة، وقلّة تجهر بها من دون الاقدام على هذه المخاطرة في حين ان القلة النادرة تتخطى اعمدة النار في ساحة المعمودية، فيخلص بعض، ويتطهر بعض آخر، وكثيرون يكونون حطباً في موقد الطائفية، وآخرون يتطايرون شرارات رماد، فيها لون كرامة!

 

جورج كلاس

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...