الشخصية الإيرانية في الدين والسياسة والدولة

22-09-2007

الشخصية الإيرانية في الدين والسياسة والدولة

يعرض كتاب «بردة النبي» على نحو دراسة روائية للتعليم الديني الشيعي في إيران في مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية عام 1979 من مدخلين اثنين، أحدهما باعتباره التعليم التقليدي المتبقي مما كان سائداً في العالم كله ونشأت عليه جامعات عريقة مثل كامبريدج وأكسفورد، وقدم للعالم علماء وفلاسفة مثل المسيحي توما الأكويني، والمسلم ابن رشد، واليهودي موسى بن ميمون، والمدخل الثاني وهو الأكثر شيوعاً تأثير هذا التعليم في الثورة الإيرانية وفي إيران بعد الثورة.

وفي عرضه لسيرة علي هاشمي، وهو اسم مستعار لشخص حقيقي نتعرف إلى النصوص التي تقرأ في الحوزات والمدارس الدينية في قم، وربما لا تكون سيرة هاشمي نمطية تعبر عن رجال الدين التقليديين في إيران، ولكن الكتاب يعكس ما قاله الإيرانيون أنفسهم للمؤلف.

ويبقى الكتاب «بردة النبي، الدين والسياسة في إيران» برأي مؤلفه روي متحدة وترجمه رضوان السيد (دار المدار الإسلامي، بيروت) حكاية كل واحد منا في هذه المرحلة من التاريخ التي بدأ الدين يؤدي فيها دوراً كبيراً في الحياة والسياسة والثقافة، بعد خيبة كبيرة من الحقبة القومية والاشتراكية والتغريب، لتتشكل نزعة مندفعة تبحث عن قيم الأصالة والتجذر، واستعادة وعي الذات.

كان صباح الحادي عشر من شباط (فبراير) عام 1979 يشكل حدثاً تاريخياً ومفصلياً في إيران. ففي ذلك اليوم حدث ما يشبه ما حدث لعصا سليمان عندما أكلتها دابة الأرض فعرف الجن بموته، لقد كان نظام الشاه قد مات بالفعل قبل ذلك ولكنه يبدو كما لو أنه مستمر في الحكم حتى أكلت دابة الأرض عصا النظام وخرّ على الأرض، كان سقوط الشاه يبدو حدثاً يصعب تصديقه، وبدأت حقبة من حكم الملالي ورجال الدين.

نشأ علي هاشمي في بيت أبيه عالم الدين في قم، وسلك هو الوجهة نفسها ليكون رجل دين مثل أبيه، وكانت قم تبدو في مرحلة صعود العلمانية مكاناً استثنائياً غريباً لم يعد ينتمي إلى الحاضر، يسميها بعضهم مدينة الموتى، وكان رجال الدين يقدمون خدمات للوعظ والجنائز والمناسبات تبدو للجيل الجديد الذي اكتسح الحياة السياسية والعامة وممن نشأ في المدارس والجامعات ذات النظام الغربي أمراً غريباً ولا يفيد في شيء.

البازار والجامع هما المركزان الأساسيان للحياة العامة في إيران، ومنهما انطلقت وتشكلت ونظمت الثورة، وللبازارات والمساجد طابع عام فيه حميمية من الداخل مثل البيوت، ولكن البازار مؤسسة عامة لها تقاليدها الراسخة، ففيه تتحدد الأسعار، وكذلك سمعة الرجال تحدد وتقيم وتعدل تبعاً للمعلومات التي تتدفق عبر شبكة البازار والأصدقاء والثقات، وفي السوق أيضاً تجرى على نحو ما إدارة الحياة السياسية وتسييرها، وعندما تتأزم الحياة السياسية كان البازار هو مقياس التعبير عن الأزمة وحدّتها وتفاعلاتها، وفي عام 1905 أقدم حاكم طهران على معاقبة بعض التجار لأنهم لم يخفضوا أسعار السكر التي كانت تبدو لهم خسارة كبيرة، ويومها أغلق البازار، واعتصم رجال الدين في المزارات وكانت في عام 1906 أول ثورة إيرانية في العصر الحديث.

والمسجد يمثل الحيز الذي يلتقي فيه الناس كل يوم ويعبّرون عن آرائهم ومناقشاتهم حول كثير من المسائل والقضايا، وفي كثير من الأحيان كانت خطب الجمعة تحرك الناس وتجمعهم وتحرضهم.

لقد أنتجت ثورة عام 1906 في ما أنتجته التعليم الحديث والبعثات العلمية إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فكان لدى الإيرانيين عشية الثورة عام 1979 أجيال وطبقات من المثقفين والمهنيين.

لقد كان ظهور المدارس كمؤسسات نظامية لها مبانيها وإدارتها ومعلموها في القرن الحادي عشر الميلادي إنجازاً متقدماً في الحضارة العربية الإسلامية، كانت هذه المدارس تقدم دروساً نظامية ومنهجية في اللغة والنحو والمنطق والفقه والفلسفة والعلوم الإسلامية، وفي المذهب الشيعي تشكلت مجموعة من المدارس والحوزات التي تبلور فيها المذهب الشيعي فقهاً وسياسة، ربما كان أولها حوزة النجف التي تشكلت مع رحيل العالم الشيعي الطوسي إليها من بغداد بعد استيلاء السلاجقة السنّة عليها وإنهاء الحكم البويهي الشيعي في بغداد.

كانت حوزة النجف بقيادة الطوسي مرحلة مؤسسية مهمة في المذهب الشيعي أوضحت الفوارق الفقهية والكلامية عن المذاهب السنية، ولكن التعليم الشيعي ظل هشاً بسبب غياب الغطاء السياسي، وعندما جاء الصفويون إلى الحكم في إيران في القرن السادس عشر الميلادي كان المذهب الشيعي في إيران ضعيفاً، ولكن الأسرة الصفوية بدأت بفرضه بالقوة في إيران، وقد أعطى المذهب الشيعي للإيرانيين هوية جديدة يتجمعون حولها في مواجهة الدولة التركية في الغرب والدولة المغولية في الهند، وازدهرت بسرعة الحوزات الشيعية في المدن الإيرانية: قم ومشهد وتبريز وشيراز.

ومع نهاية القرن التاسع عشر كانت المؤسسة الدينية الشيعية راسخة وقوية في المجتمع والدولة والبازار، وتصوغ حياة الناس ومواقفهم وأفكارهم، وشكلت العمود الفقري لثورة عام 1906 ثم ثورة عام 1979.

كان علي هاشمي (بطل الكتاب) يتعلم في المدارس الحكومية النظامية، وفي الوقت نفسه كان يتردد على الحوزة يتلقى فيها تعليماً منتظماً، وفي تلك الأثناء كان العالم الإسلامي مشغولاً بالجزائر التي تجري فيها ثورة شعبية شاملة لأجل التحرير، ثم رحل إلى النجف ليواصل تعليمه في حوزتها ويزيد من صلته ومعرفته باللغة العربية.

وصعد نجم مصدق قائداً سياسياً يدعو إلى الاستقلال والحرية في إيران، وهو من عائلة سياسية مهمة، فقد كان أبوه من كبار موظفي ديوان الشاه، وكانت أمه من عائلة الشاه القاجاري، وقد تلقى العلوم السياسية في جامعة طهران، ثم أكمل دراسته في باريس، وعاد ليعمل مع الأسرة القاجارية التي تحكم إيران وكان أحد أفرادها، ولكن السلطة انتقلت في عام 1925إلى رضا خان، وكان مصدق عضواً في البرلمان الإيراني.

وبدأ مصدق من موقعه في البرلمان يخوض معارك ومواجهات سياسية لأجل نظام دستوري في إيران، ثم انتخب رئيساً للحكومة عام 1944 ليكون أحد أشهر زعماء العالم الثالث في مرحلة الاستقلال التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وهرب الشاه من إيران عام 1953 بعد محاولة فاشلة لاستبدال مصدق، ولكن مصدق سقط ضحية انقلاب عسكري جاء بالشاه مرة أخرى إلى الحكم.

ولكنها عملية سياسية وعسكرية قدمت عبرة للملالي الشيعة ليعيدوا تنظيم أفكارهم وبرامجهم باتجاه الثورة، واستطاع آية الله كاشاني أن يحشد أعداداً كبيرة من الجماهير المتدينة في «الجبهة الوطنية» التي تضم مؤيدي مصدق والتي كانت تهدف أساساً إلى استكمال الاستقلال باستقلال إدارة النفط عصب الاقتصاد الإيراني.

كانت الشيعية الغطاء التاريخي والسياسي والشرعي الذي تشكلت بموجبه إيران في القرن السادس عشر الميلادي بعدما ظلت طوال التاريخ جزءاً غير مميز من الدول الإسلامية المتعاقبة، ولذلك سيبقى القوميون الفارسيون يشعرون بالامتنان للشيعية التي وحدتهم وشكلت إيران الموحدة القائمة اليوم للمرة الأولى منذ الفتح الإسلامي ثم على نحو متواصل منذ بداية القرن السادس عشر.

وواصل علماء الشيعة دورهم السياسي والاجتماعي ومواجهة السلطة الحاكمة في إيران، فبعد ثورة شعبية ضد إيران قادها الخميني في أوائل الستينات اضطر للانتقال إلى العراق، وهناك في النجف بدأ يشكل مدرسة جديدة في المرجعية الشيعية مختلفة عن المرجعية التقليدية التي كان يمثلها الخوئي (أستاذ السيستاني) تعطي للسياسة والعمل السياسي حيزاً كبيراً بخلاف الخوئي الذي كان ينأى بالمرجعية عن العمل السياسي، بل ويحتقر فكرة العمل السياسي.

كان الخميني يلقي محاضرات على طلاب الحوزات الذين أنهوا النصوص المقررة في مسجد واسع في النجف، وكان مقصد الطلاب بسبب طريقته الجديدة في التعليم ولأن الطلاب والجمهور الشيعي بدأوا ينظرون إليه كقائد سياسي، وتحولت النجف في أوائل ستينات القرن الماضي إلى مركز للثورة على الشاه والتحريض على نظامه السياسي، وكانت خطبه القوية توزع على أشرطة الكاسيت على نطاق واسع جداً، واعتبر الخميني أحد أهم المجتهدين الشيعة على رغم أنه لم يستكمل بعد المتطلبات العلمية والنظرية لهذه المرتبة، وبدأ يتحدث عن ولاية الفقيه وعلى نطاق علني واسع موضحاً بذلك هدفاً سياسياً لإقامة بديل لنظام الشاه على أساس إسلامي يديره الفقهاء.

وبدأت سلسلة من الاعتقالات والمواجهات بين قادة الحوزات الشيعية وبين النظام السياسي الشاهنشاهي، وقتل المئات في السجون في العقد الذي سبق عام 1979 من المثقفين والسياسيين ورجال الدين، وكانت النهضة التعليمية والتنموية التي نفذها النظام السياسي أحد أسباب انهياره على نحو ما لأن طبقة واسعة من الشباب المتعلمين والمهنيين تشكلت في إيران بعد مرحلة من الدراسة في الغرب لتقود المجتمعات والطبقات الوسطى نحو رؤية سياسية وإصلاحية جديدة ومختلفة.

يقول المؤلف إن الحيرة ستصيب مؤرخ إيران في القرن العشرين بسبب موقع الدين الوطيد في الفئات الوسطى والدنيا المدينية مثلما أصابت قوة مكانة الدين أخيراً في إنكلترا في أثناء الثورة الصناعية بالحيرة. فمن كان ينتقل من المناطق الريفية إلى المدن المصنعة جزئياً كان يظهر إما شعوراً دينياً قوياً أو كان يزدري الدين بصراحة. هذان النمطان من رد الفعل كان يمكن ملاحظتهما في إنكلترا في العصر الفيكتوري، وقد كتب فريدريك إنجلز عام 1844: نجد لدى الجماهير في كل مكان عدم اكتراث تام حيال الدين، وفي أفضل الأحوال نجد أثراً من نزعة دينية لا تتعدى الخوف من كلمات معينة مثل كلمة «غير مؤمن» و «ملحد»، وقد أكد الإحصاء الديني الذي أجري عام 1951 تحليل إنجلز، حيث ظهر أن صلة الطبقة العاملة بالكنسية أقل كثيراً من صلة الفئات المتوسطة والعليا.

وفي الأعوام 1976 – 1978 بدأت مواد أساسية كثيرة تنفد من السوق ويجد المواطنون صعوبة في الحصول عليها، فنزل مئات الآلاف من العمال وأبناء الفئات المتوسطة الدنيا في تظاهرات في الشوارع، ومع أنها كانت ثورة للجائعين والمستضعفين غير محددة الأهداف أو الأيديولوجيا، فقد حصل هياج كبير تحول إلى موقف جماهيري كاسح هزم قوات نظام الشاه وأجبره على الرحيل عن طهران ولم يرجع، كان هؤلاء الثوار يستلهمون ذكريات كربلاء وروح الحسين الباسلة في نفوسهم، وقال أحدهم في مقابلة مع أحد علماء الاجتماع: ليس هناك ما يوحدنا أكثر من حب الإمام الحسين.

وبعد مقالة نشرت في إحدى الصحف الإيرانية المؤيدة للحكومة وبتنسيق معها تنتقد الخميني بقسوة وتصفه بأنه حليف للرجعية المتضررة من الإصلاح الزراعي، وأنه ينشر أشعاراً إباحية، فخرج طلاب الحوزات في تظاهرات واعتصامات شعبية واسعة وألزموا البازار إغلاق أبوابه، وطلب الطلاب من قادة الشيعة أن يظهروا تأييداً علنياً للخميني، وأطلقت الشرطة النار على تجمع للطلاب في قم قتل فيه عشرون طالباً، واعتقلت عدداً كبيراً من الأساتذة والطلاب في الحوزات العلمية الشيعية، ولكن نظام الشاه في بطشه وتشدده كان يسرع نحو نهايته، فقد استمر السوق في الإغلاق وتواصل الاحتجاج والإضراب الشامل، فاضطر الشاه للرحيل عن إيران في السادس عشر من كانون الثاني (يناير) من عام 1979، وفي الأول من شباط عاد الخميني من منفاه في باريس وهبط في طهران وسط استقبال شعبي أسطوري، وانحلت الحكومة الإيرانية التي عينها الشاه قبل رحيله، بينما كان الخميني يتلقى وهو جالس في فناء إحدى مدارس طهران البيعة من الجنود الإيرانيين، وهكذا فإن الكلمة على حد وصف المؤلف قد انتصرت، فكانت الثورة الإيرانية بحق هي ثورة الكلمة.

إبراهيم غرايبة

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...