العلمانية في سورية بين الواقع والحاجة

17-04-2007

العلمانية في سورية بين الواقع والحاجة

انبهار الآخر بالمجتمع السوري، لم يأتِ بسبب تقدمه الاقتصادي، أو فرادة نظامه السياسي، أو ترفه العلمي، بل بسبب تنوعه الثري في شتى المجالات، وتمكن أفراده من التعايش بموجب عقد اجتماعي، نتيجة إرث حضاري اجتماعي الطابع، جملةً وتفصيلاً. هنا، محاولة صحفية لا تتحمل التأويل والتفسير في غير ما أرادت (المال)، طالما أن هدفنا جميعاً المحافظة بكل قوّة على ذلك الإرث. وقد يسأل أحدهم، في محاولة لتأويل أو تفسير ما، لماذا العلمانية وما علاقتها بذلك الإرث الذي نحب؟ ربما لأننا بدأنا نشعر بتراجع دور العلم والعلمانية (والعلمانية هنا يجب أن يكون واضحاً للجميع من البداية لا تعني الإلحاد لأننا لسنا معه) ولأن سورية برأي الكثيرين هي مجتمع ودولة علمانية.
في الحادي عشر من كانون الأول في عام ,2005 أدلى السيد الرئيس بشار الأسد بحديث إلى التلفزيون الروسي (القناة الثانية) وقد أجرى الحديث الإعلامي الروسي بريليوف سيرغي.
سأل حينها 12 سؤالاً، في معظمها طويل كعادة المحاورين الروس من الإعلاميين، وتحديداً ومن سؤاله الثامن نقتبس: في روسيا يثمنون عالياً وخاصة الاختصاصيين بشؤون الشرق الأوسط، دور سورية العلمانية والتي هي في الوقت ذاته جزء من العالم الإسلامي...، وسؤالي إليكم كرئيس لنظام علماني، ولكن مع ذلك لدولة إسلامية بشكل أساسي، كيف تنظرون في العالم الإسلامي وفي سورية بالذات إلى مشكلة الإسلاميين المتطرفين... (انتهى الاقتباس).
يجيب السيد الرئيس: أن تكون دولة علمانية وبالوقت نفسه بلداً مسلماً فهذا شيء طبيعي، ولا يتعارض كما يعتقد البعض، لأن العلمانية لا تعني الوقوف ضد الأديان، وإنما العلمانية تعني حرية الأديان وعدم الربط بين الدولة ودين الإنسان. (الجزء الأول من الجواب).
سؤال الإعلامي الروسي يعكس نظرة الآخر لسورية بأن نظامها علماني، وحاجة ذلك الآخر (روسيا مثلا) لوجود دولة علمانية في المنطقة، وجواب السيد الرئيس يحمل إشارة ودلالة واضحة على ماهيّة الدولة السورية.
ورغم الإقرار بشكل أقرب إلى الإجماع، بماهية هذه الدولة، إلا أنه وحتى الآن لم تجرِ أية ندوة أو يفتح الحوار حول العملانية في سورية، ولم تكن هناك أية مبادرة، وفق معلوماتنا، من قبل أي جهة حكومية (وزارة الثقافة مثلاً أو حتى وزارة الإعلام) جهتان تعملان في هذا الحقل في دولة علمانية، وللإشارة هنا، فقد أقام مركز الدراسات في جامعة دمشق عام 1995 ندوة في أسبوعه الثقافي الثاني كان أحد محاورها العلمانية في العالم العربي، ندوة يتيمة.
 كريم أبو حلاوه، وهو أستاذ جامعي في قسم علم الاجتماع بجامعة دمشق، كان بسؤال المدخل: عَلمانية أم عِلمانية، حيث اختلف المفكرون العرب الأصل من العالم أم من العِلم. فرأى أن اختزال المسألة ببعدها اللغوي في الفكر العربي يعبر عن فقر. فهي عملية مركبة كمفهوم، لها وجه معرفي يدل على إمكانية فهم العالم دون الحاجة إلى قوى غيبية أو ميتافيزيقية، ووجه سياسي يعني فصل الدين عن الدولة أو فصل المجال الزمني عن المجال الروحي المقدس، ووجه أخلاقي يشير إلى أهمية الفرد بتحمل المسؤوليات الأخلاقية اعتمادا على الضمير، أي أن الوازع داخلي.
وهناك الوجه التاريخي للفكرة حيث طرحت كحل لمشكلة (الإصلاح الديني) بهدف فصل الدين عن السياسة بصيغة ما زمن الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، وقد تعرف الفكر العربي على العلمانية من خلال الدارسين في أوروبا آنذاك، أمثال محمد عبده ورفاعة طهطاوي، وقد أعجبوا بها ووجدوها حلاً مناسباً، ولكن المفارقة أن مفكري النهضة السابقين قد رأوا ضرورة امتلاك العلم والعلمانية العربية لمواجهة الغرب نفسه، أي لابد من امتلاك القوة التي يمتلكها.
ويضيف أبو حلاوه أن الفكر العربي يرفض العلمانية لأسباب منها، اعتقاد المفكرين العرب أن العلمانية ما هي إلا نتاج ثقافة غربية، واستنساخها وتطبيقها في مجتمع وثقافة مغايرة لا يمكن وليس بحل، ويحتج البعض كذلك بأنه لا يوجد في الإسلام كنيسة مثل الكنيسة الغربية، وبالتالي فإن الاضطهاد الديني الذي مورس هناك لا يوجد ما يماثله في الإسلام.
وبرأيي، والكلام لأبي حلاوه، هذا الكلام صحيح في الشكل، ولكن الأزهر، النجف، مؤسسات دينية وإن لم يكن فيها تراتبية مثل الكنيسة، وفي العودة إلى التاريخ حول ممارسة الاضطهاد الديني في أوروبا، فإن الكنيسة اضطهدت وحاكمت كل من خالف رأيها (غاليلو)، وكل من قدم تصوراً مختلفاً عن الفكر المقدس، وفي الإسلام حدث الشيء ذاته حيث في لحظة حورب العلماء واضطهد الفلاسفة والمتصوفون..إلخ.
وأما أكثر الأشكال في الفكر العربي فهو الشكل المعتمد على الرأي بأن الإسلام دين ودنيا ولا حاجة للعلمانية، ويرى أصحاب هذا التيار أن الإسلام دين علماني بطبيعته ولا حاجة لنا بالعلمانية الغربية. وهذا الكلام يحوي تناقضاً منطقياً، لأن السؤال: هل هناك دين علماني وغير علماني؟
فهناك فرق معرفي بين الدين والعلم، لأن العلم معرفة عقلية تبرهن التجربة على صحتها، والدين إيمان وعقيدة، وبنية المقدس داخل الدين مختلفة عن الفهم العقلاني للعالم الذي هو فهم علمي في النهاية، وبالتالي ليس هناك دين علماني وغير علماني.
وفق ما قدمت سابقاً، كيف ترى العلمانية في سورية؟ يجيب: لم تكن مشكلة مطروحة على اعتبار أنها محلولة (أي علمانية)، حيث لو كانت سورية دولة إسلامية، لكان سيتم طرح العلمانية كحل لكن هذا لا يعني أن أنظمة الحكم العربية العلمانية _ ومنها سورية_ قد حلت المشكلة بجوانبها المختلفة، لأن العلمانية ليست فصل الدين عن الدولة أو الزماني عن الروحي فحسب، بل يجب أن تنطوي على عقلانية وديمقراطية، وإذا لم يكن، فهي ناقصة وهنا تنشأ المشكلة، عندما يظهر التعارض بين الديمقراطيات والحريات وبين العلمانية _كما حدث في فرنسا وتركيا_ حيث تم قمع الحريات باسم الدفاع عن العلمانية، وبهذا المعنى يقول المفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري: نحن العرب نحتاج إلى العقلانية والديمقراطية ولا نحتاج إلى العلمانية، وهو بذلك قد ضرب كل العصافير بحجر واحد، فأرضى الإسلام السياسي، وأرضى العلمانيين وابتعد عن تهمة استيراد الأفكار الغربية.
ورأى أبو حلاوة أن الحل المرن الذي قدمه الجابري مناسب للمجتمع العربي أكثر من الاتجاه العلماني المتشدد.
ووجه سؤال للدكتور كريم عما إذا كان يعتقد بزيادة في التشدد الديني مؤخراً داخلياً وخارجياً؟
بصراحة، فإن: المجتمعات ذات العمق الديني، من الصعب قول آراء فكرية أو سياسية ضد الدين، وهنا لدي تحفظات على العلمانية إذن من المفروض أن نرى المزايا والخصائص وأخذ الضروري منها والذي نحتاجه أكثر من أوروبا، لأن مجتمعاتنا فسيفسائية. والردّة ليست دينية فقط، وهي اجتماعية؟ ولذلك في هذا المجتمع المتعدد نحتاج إلى مرجعية مشتركة، فالمجتمع بسواده الأعظم لم يتخلَ عن الدين، ولكن تعبيراته الفكرية والسياسية لم تكن سابقاً دينية.
وسبب الردّة الدينية عموماً، برأي حلاوة، هو فشل الدولة العربية في تحقيق المهمات المطلوبة (تحرير الأرض ـ التنمية لا سيما منها الاقتصادية والتعليمية ـ الديمقراطية) الذي دفع الحركات المعارضة وأهمها الإسلام السياسي، بأن تقدم نفسها كحل للخروج من الفشل.
جوانب مقلقة
لؤي حسين، كاتب وناشر، وقد نشرت صحيفتان عربيتان خبراً منذ شهور، مفاده أنه ومجموعة من المثقفين يسعون لتأسيس جمعية ثقافية، وأحد أهدافها الرئيسة نشر الثقافة العلمانية.
فهل جاءت المساهمة في هذا الاتجاه عن جوانب مقلقة؟ يقول حسين إن هناك أكثر من جانب مقلق دفع للمساهمة في هذا الاتجاه، وقد اختصره في ثلاثة عناوين، أولها تراجع بعض مؤسسات الدولة عن الروح والإنجاز العلماني للدولة السورية، وتصب هذه المراعاة في الحقل السياسي المجتمعي، فإذا ما أرادت جهة ما القيام بنشاط وحصلت على موافقة إحدى الوزارات، حتى ولو كانت نشاطاً فنياً، فإن تلك الوزارة تتساءل عن موقف رجال الدين من ذلك النشاط، وهذا يعني إدخال رجال الدين في الشأن السياسي. وثانيها الجائحة الطائفية في المنطقة، فمن السهل أن تؤثر على المجتمع السوري، ومواجهة الجائحة هي بتكريس الدولة العلمانية والثقافة العلمانية المبنية على أن ما يجمعنا سوريتنا وليس طوائفنا.
والثالثة هي مقولة الدولة الإسلامية التي تحدث عنها البعض من الإخوان المسلمين ووافقتهم عليها بعض الأطراف السياسية المعارضة داخلياً وخارجياً، وإعطاء الصيغة الديمقراطية على هذا الموقف مع أن النظام الديمقراطي يشترط العلمانية، فلا ديمقراطية دون عملانية.. من هنا، كان لابد من مواجهة الطرح الثقافي السياسي بطرح بديل ديمقراطي وهو تكريس الدولة العلمانية، ونشر الثقافة العلمانية التي ستساهم بقوة وبعدة أشكال في تنمية مجتمعية اقتصادية تعليمية.
لم تأتِ علمانية الدولة السورية بشكل انقلابي، يقول حسين، وإنما جاء كانعكاس لعلمانية المجتمع السوري الذي استطاع التعايش بجميع فئاته دون ادعاء فئة بأحقيتها على فئة أخرى بالوجود الطبيعي في الدولة. ورأيي أن مناخ العلمانية على نطاق الدولة في تراجع قياساً على الإرث العلماني للدولة السورية، والدولة العلمانية هي بأبعاد بإبعاده رجال الدين عن الشأن السياسي وبالمقابل أن تكون الدولة على مسافة واحدة من جميع الجماعات الاعتقادية والدينية بغض النظر عن حجمها وأصالتها، وبالمقابل حماية حرية الاعتقاد كما كفله الدستور.
ورغم وجود جوانب علمانية مهمة أو أساسية في الدولة السورية إن كان على صعيد القوانين أو الدستور، ولكن لا يجعل منها دولة علمانية ناجزة.
والعلمانية تواجه مشكلة في سورية، يشرح حسين، فهناك ضغوط هائلة، وبات من السهل امتطاء العلمانية ومهاجمتها بشكل كبير، من قبل رجال دين متعصبين، فبدل مهاجمة قضايا سياسية معينة، يعلنون هجومهم على العلمانية على اعتبار أن لا أب لها. فالدولة كانت حاضنة للعلمانية، ولكن ربما مررنا بفترات تراخت فيها هذه الحضارة وأصبحت تميل أكثر باتجاه دغدغة مشاعر الشارع الديني.
ولابد من التذكير بأن القوانين السورية هي أفضل من قوانين بلدان عربية أخرى تتداخل فيه الدين والدولة، وسورية هي البلد الوحيد مع الأردن الذي رفع شعار الدين لله والوطن للجميع حسب علمي.
(المال) استقصت أيضاً رأي الكاتب وائل السوّاح، وكان قد نشر مقالاً عما حدث في إحدى المدارس الخاصة التي منعت درساً حول الفائدة، وألغت درساً في مادة العلوم عن التكاثر الجنسي وما أثاره مقاله من إشكالية.
سوّاح اعتبر أن ما يحدث هو دليل تراجع الدولة العلمانية في مجال هو الأهم وهو المجال التعليمي.
وتحدث عن مقال آخر وهو ما حدث حيال حل إحدى الجمعيات، لمجرد أنها حاولت إجراء استبيان حول تعدد الزوجات وحضانة الأطفال والطلاق، وقد لاقت مقاومة من البعض لدرجة أن الاستبيان قد أوقف، وصدر قرار عن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بحل الجمعية، وهذا أمر غريب للغاية.
محمد سعيد حمادة الباحث والكاتب، ورئيس تحرير صحيفة رؤى الثقافية، يرى أن الكثير يحسب أننا نعيش في ظل دولة علمانية والواقع هو ربما ليس هكذا، في عالمنا العربي لم نتمكن من الخروج من الفكرة التوفيقية بتلازم العروبة والإسلام.
وأضاف أن هناك تناقضاً واضحاً ومكشوفاً في الدستور السوري، إذ تقول المادة الثانية إن نظام الحكم جمهوري والسيادة فيه للشعب، فإن المادة الثالثة تقول: إن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، والفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريع، ولهذا يبدو الدستور وكأنه لفئة من السوريين، وبالتالي فإن فئات المجتمع السوري مستثارة من مجرد الحلم لما هو حق لمواطنيهم ومحرم عليهم، مع أن جزءاً منهم على سبيل المثال سميت سورية باسمهم (السريان). وبالتالي هناك انتقاد لأبسط شروط العلمانية وهو فصل الدين عن الدولة، وهذا لا يتوافق مع مفهوم الدولة القومية، إننا هنا في حالة حوار هادئ ومهم لمستقبلنا الاقتصادي والمجتمعي في ظل اقتراب العالم من بعضه.


غسان الصالح

المصدر: مجلة المال

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...