الفرقة السيمفونية لعلاج الخمول الثقافي المحلي

16-12-2006

الفرقة السيمفونية لعلاج الخمول الثقافي المحلي

في أمسيتين متتاليتين، لأول مرة حسبما أعلم، قدمت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية حفلتين موسيقيتين رائعتين على مسرح كلية الفنون الجميلة برعاية السيد وزير الثقافة وبقيادة ميساك باغبودريان.

لم استمع لهذه الفرقة منذ شهر أيار الماضي عندما عزفت في قصر المؤتمرات في ايبلا، لذا كنت متشوقا للاستماع لها وكذلك للتعرف على مسرح كلية الفنون، القاعة كبيرة وجميلة وحديثة الهندسة، افتتحت الأمسية بأداء الافتتاحية المأساوية (التراجيدية) من تأليف يوحنا براهمز، ألف براهمز افتتاحيتين للأوركسترا: هذه والافتتاحية الأكاديمية تقريبا في الوقت نفسه (1880) ولكنهما تختلفان في الروح: هذه يهيمن عليها جو من التوتر النفسي والمأساة والحزن الخافت الذي لا تنقصه القوة والعزم والشجاعة. ‏

تفتتح المقطوعة بهدير الطبول مع سيل من الانغام لكل الأوركسترا ويتتالى الحوار بين الآلات ما يضفي سحرا وعاطفة حزينة على هذه المقطوعة، لقد أدت الفرقة مؤلف براهمز بحماس كبير وعاطفة دفاقة وبتجاوب رائع مع الموسيقا، صفق الجمهور للفرقة وللمايسترو ميساك. ‏

كانت المقطوعة الثانية من تأليف غوستاف ماهلر (اللفظ بالالمانية هو مالر وتعني الرسام) «أناشيد الأطفال الموتى» وهي تلحين لقصيدة رائعة للشاعر فريدريك روكيرت كتبها لذكرى وفاة ولديه آرنست ولويزه.. وقد أثرت هذه القصيدة بماهلر لأن اخاه الصغير الذي توفي مبكرا في حياته كان يحمل ايضا الاسم نفسه: ارنست. تفتتح القصيدة بهذه الأبيات: «والآن ستشرق الشمس الساطعة كأن لم يكن هناك حظ عاثر في الليل..» لقد غنت هذا الشعر المغنية المبدعة سوزان حداد، وصوتها من طبقة كونتر آلتو، هذا المؤلف من أروع ما كتب ماهلر ومن أعمق اعماله إثرا في النفس، أود ان اقول: إننا كنا نستمع لهذا المؤلف في بيت صلحي الوادي في خمسينيات القرن الماضي وكانت تؤديه المغنية العالمية كاثلين فيرييه، مع فيلهار مونية فينا وقيادة برونو فالتر، وقد كان أداء الفرقة وغناء سوزان رائعا لدرجة انني استعدت في مخيلتي ذلك التسجيل العالمي، صفق الجمهور عاليا لسوزان.. وإننا نشكرها لهذه المساهمةونتمنى أن تقوم بتقديم أماسٍ غنائية خاصة بأغاني الليدر العظيمة وستكون بذلك قد قدمت فرصة نادرة لمحبي الموسيقا العالمية للتعرف على جانب عظيم من خوالد ما ألفه شوبيرت وماهلر وبراهمز وشومان وهوغو فولف وغيرهم من مؤلفين خالدين، بذلك انتهى القسم الأول من الأمسية وقد أدت الفرقة بعد ذلك «السيمفونية السابعة» لبيتهوفن من مقام «لا الكبير»، تتألف هذه السيمفونية من أربع حركات: الأولى تتميز بسلالمها الموسيقية المتصاعدة والتي وصفت بـ «المدرجات العملاقة» والتي تتفاعل مع الايقاع الثلاثي الذي يتداخل معها خالقاً حيوية قوية ودفاقة، الحركة الثانية بطيئة وهادئة. ‏

الحركتان الثالثة والرابعة تتميزان بعنفوان وايقاعات قوية تخفت ثم تعلو وتتصاعد وتتزايد زخما وقوة وانفعالا لتنتهي بذروة ظافرة وقوية، صفق الجمهور بحماس فائق للفرقة ولقائدها.. وهكذا انتهت امسية رائعة للفرقة الوطنية، نتمنى من القلب ان تثابر هذه الفرقة المتميزة في جهدها ودأبها لتبلغ مستويات تناظر مثيلاتها من الفرق في الوطن العربي وفي حوض المتوسط، ومثل هذا المشروع يتطلب الكثير من الدعم والرعاية الحقيقية و المادية من وزارة الثقافة لكي يحصل اعضاء الفرقة على خبزهم اليومي على ا لأقل، وكذلك من معالجة فعالة لهذا الشقاق والاحتراب القائم ما بين هاتين المؤسستين التوءمين: الفرقة السيمفونية والمعهد العالي من جانب ودار الأسد للثقافة والفنون من جانب آخر، إذا استمرت هذه الحرب القائمة ما بين هاتين المؤسستين فاقرأ على الفن والثقافة والموسيقا السلام.. ولا عجب إذا كانت العلاقات ما بين مؤسسات الدولة مثيلة أو مشابهة لعلاقات هاتين المؤسستين اللتين من المفترض ان تكونا قدوة ومثلا لبقية المؤسسات في القطر، الأمل كبير ألا يهمل هذا الوضع المؤسي والمريض وأن يعالج إما بالدواء الفعال أو بالجراحة التي تبتر كل ما هو مريض ومتعفن لا يرجى شفاؤه، هذا لا ينفي أن زيارة مسرح كلية الفنون كانت فرصة سعيدة ونأمل أن تغدو ايضا موئلا لنشاطات موسيقية جادة وفنية ومسرحية مقبلة لكي تكون هناك نشاطات ثقافية متقاربة تشفي من هذا الخمول الثقافي والفني والمعرفي المهيمن، فإلى أمسية موسيقية مماثلة مع أطيب الأماني باطراد التقدم والنجاح للفرقة السيمفونية الوطنية.

صادق فرعون

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...