اللامبـالاة والأدب يحيـل النسيـان ممكنـاً

06-03-2007

اللامبـالاة والأدب يحيـل النسيـان ممكنـاً

سيزار إيرا، كاتب أرجنتيني من مواليد العام ,1949 يعتبر من أكثر كتاب بلاده غزارة وإنتاجا، ويتسم عمله بالابتعاد عن السهولة، لدرجة انه يعتبر من أكثر الكتاب معاداة للسهولة. هو أيضا كاتب متنوع، كتب العديد من الأعمال التي تراوحت بين القصة والشعر والرواية والبحث والحكاية. هنا مقابلة معه، أجريت في حزيران الماضي في مدينة سان نازير الفرنسية.
في عملك الأول الذي ترجم إلى الفرنسية «الثوب الزهري» تتحدث عن «الشيء ـ التعويذة» الموجود في تلك الحكاية قائلا: «اعتقدناه أزليا، كما لو انه وسم زمنه: لم يخلف وراءه أي أثر للعمل الذي كان رهانه». هل يمكننا القول عينه عن العمل الفني أي عن هذه الرغبة التي يظهرها في ان لا يترك خلفه أي اثر من آثار عمله أي ان يتحرر من زمنه؟
- لم أفكر مطلقا بهذا المجاز (ولا بأي مجاز آخر إذ أحاول جاهدا تجنب كل فكر مجازي). بالأحرى أعتقد أن على العمل الفني أن يترك آثارا. كل عمل فني ليس سوى هذا الشيء الذي هو آثار العمل.
سؤالي ينبع مما قاله «ديغا»، أعتقد أنه هو حين قال بما معناه «العمل في الفن، هو أن نمحو كل أثر». عديدون هم الفنانون الذين انطلقوا وينطلقون من هذه الفكرة.
- لنحتفظ بسعادة كل ما لا ينتمي الى المفكرين العقلانيين والجادين الساعين وراء الحقيقة! الفن، هو على النقيض من الفكر الجدي، انه لعبة فكرية، لعبة بدون نتائج، غير مسؤولة، غريبة عن العلم ـ لحسن الحظ. كلنا نستطيع أن نكون على حق.
لعبة الفلسفة
هل لأنك لست فيلسوفا، أي ان الفيلسوف هو شخص جدي جدا كي يقبل بهذه «اللعبة»؟
- بالتأكيد لست فيلسوفا، ومع ذلك فالفلسفة، بالنسبة إلي، هي هذه التسلية، تمضية الوقت، أي أنها تشكل الجزء الأساسي من قراءاتي.
أي تمييز تضعه إذاً ما بين الأدب والفلسفة؟
- تشكل الفلسفة مثالا لأي علم لأنها تجد نفسها مضطرة على تذكر أي شيء تقوله. في حين يشكل الأدب عمل النسيان أو على الأقل ما يحيل النسيان ممكنا. هذا هو المفهوم الذي أعمل عليه حاليا.
النسيان هو أيضا هذه اللعبة، أي أن نرفض بأن نكون مسؤولين، عقلانيين، أن نفكر ونحلل؟
- انحياز الكاتب هو بالظبط هذه القدرة على ان لا يكون «ذكيا». إنها الحرية في أن يكون «عبيطا» أو أن يمزج «العبط» بالذكاء على شرط أن يمحو أثر هذا المزيج.
لنعد إلى كتاب «الثوب الزهري» الذي يمكن أن نرى من خلاله هذه الصورة الرمزية العائدة للعمل. ثمة فكرة حملتني منذ بداية القراءة وكنت أكتشف، تدريجاً، خلال القراءة، كيف يمكن لكل عمل أدبي أن يصبح حقلا للخلاف والنقاش، مجالا للعشق أو سوء الفهم والسخرية منه، الخ... هل ترى أن العمل الأدبي يمكن له ان يتقاسم هذه السمات مع كتاب «الثوب الزهري»؟
- التماثل موجود بطبيعة الحال. في الواقع لقد رغبت في بناء قصتي حول شيء بدون معنى. كما تعرف، قال هيتشكوك، مرة، وهو الذي كان أحد أكبر منظري السينما مثلما كان أحد أكبر المخرجين، قال لتروفو، في الحوار الشهير الذي دار بينهما، «حين نصنع فيلما حول ملاءمة الشيء، علينا ـ كي نعطي وزنا للقصة ـ أن ندخل أقسى أعمال العنف، أبشع الجرائم، الخ... ومن ثم حين تحل اللحظة في اكتشاف هذا الشيء بين يدي المنتصر، نتيقن انه لم يكن يستحق ذلك كله. إن أي مخرج غير ماهر، يقوم بذلك كله كي يرفع ثمن الشيء. لم يكن هيتشكوك كذلك، أي ما كان يقوم به هو النقيض بالضبط. هذا ما حاولت القيام به في كتاب «الثوب الزهري»، في هذا الأمر يكمن التماثل مع العمل الفني. أكثر أمر خطر يمكن له أن يحدث لفنان هو أن يصدق بأن ما يقوم به على هذا القدر من الأهمية، أن يصدق أن لعمله قيمة كبيرة. القيمة هي العمل الجدي والعمل الجدي هو الحقيقة. ما إن نبدأ بالحديث عن الحقيقة في الفن فإننا نكون قد بدأنا خيانة الفن نفسه.
بين الحكاية والرواية
تصف كتاب «الثوب الزهري» بأنه حكاية، أي انه شكل أدبي يجب أن يقدم تأملا فكريا، موقفا فلسفيا؟
- علي القول إن ثمة خطأ صغيراً في الترجمة الفرنسية، لأن كلمة «cuento» بالاسبانية تعني، في الوقت عينه، إما أسطورة وإما حكاية فلسفية، لكنها تعني وبشكل تقني، قصة. هذا ما أردت القيام به، أي كتابة هذا الشكل القصير والمغلق. لم أكن، قبل «الثوب الزهري»، قد كتبت القصص بل الروايات فقط. والخلاف بين القصة والرواية هو بأن القصة تجيب عن التساؤل التالي: ماذا حدث؟ أي ان الرواية تؤلف شكلا أكثر انفتاحا. كانت قصة «الثوب الزهري» تمرينا كي أطارد الواقع بأمر قد حصل. بهذه الطريقة استطعت إيجاد الوسيلة لأقوم بما كنت لا أتمنى القيام به طيلة عمري: كتابة القصة.
تجمع في الكتاب عينه قصة ثانية هي «النعاج» وما يمكن قوله إن هذه القصة تظهر تناقضا صادما لأنها أكبر من رواية؟
- لأن «النعاج» هي رواية حقيقية تروي ما حدث: سلالة بورخيس بشكل مثال.
هل كانت «الثوب الزهري» حجة لتتخذ موقفا فلسفيا؟
- من الصعب تفسير ذلك. ثمة أمر إن لم يكن فلسفيا فهو يشبه الفلسفة أو لنقل إنه ذو نظام فلسفي... السؤال المطروح في هذه القصة، كما في باقي رواياتي، هو سؤال اللامبالاة. اللامبالاة طريقة للوصول الى الحرية. نعيش ضمن نظام أخلاقي يجبرنا على التحرك لإيجاد أسئلة عاطفية. ونحن لسنا سوى ضحايا وأسرى لهذا الأمر الاجباري. الحل الوحيد للخروج من هذه اللعبة الكئيبة، اللامبالاة: أي أن نتعلم كيف لا نتحرك إزاء شيء. تاريخ الأرجنتين يجبر الكتاب على التحرك في مواجهة ما حدث في بلادهم. من هنا هذه الحاجة في إبداع عالم سعيد، مختلف. يتحرك المتخيل بفضل اللامبالاة. من هنا أضع هذه القصة تحت «برج» اللامبالاة.
هل يمكننا، والحال كذلك، أن نتصور أنه يمكن لك أن تكتب حكاية هندية؟
- هذا أيضا أمر يعود إلى اللامبالاة! لقد اضطرت الحضارة الأرجنتينية للتوقف بسبب الهنود لمدة مئة عام، وحين رغبنا في البحث عنهم للتخلص منهم، لم نجدهم، لأنهم كانوا قد اندمجوا في المجتمع، صاروا «خلاسيين». الهنود الوحيدون الذين بقوا كانوا الجنود أنفسهم الذين ذهبوا لمحاربتهم! الحكاية الهندية الحقيقية هم الهنود أنفسهم.
تقول: «إلى جانب كل قصة واقعية هناك واحدة أخرى، افتراضية»، من هنا كان سؤالي عن الحكاية الفلسفية؟
- كتبت هذا، لكنني لا أستطيع أن أشرحه اليوم، ولا حتى في المستقبل. المهم بالنسبة إلي، قصة حياتي أي أن أقول أشياء ولا يعود بإمكاني شرحها. الكاتب يطرح الأسئلة لكنه لا يعطي أبدا أجوبة حقيقية، بالأحرى انه يعيد اختراح خطابات أخرى بحاجة هي نفسها الى شروحات أخرى. كل شيء يتوقف حين تقال الحقيقة. في حين أن على الكاتب أن يحتاط من الايمان بالحقيقة، لأنها الشيء الوحيد الذي يمكن له أن يوقف عمله.
ماذا يمثل لك الأدب إذا؟
- لا هدف للأدب إلا في أن يجعل الكاتب في دائرة العمل...
وماذا نصنع بالعمل الأدبي؟
- الأدبي؟ العمل الأدبي، ليس سوى أثر الكاتب. هذا ما نحن عليه الآن. إن كانت هناك طرق أخرى لنصبح كتابا فسيكون الأمر أفضل.
حين تقرأ عملا أدبيا هل تفكر في فك رموزه ام في البحث عن سمات الكاتب؟
- أبحث عن الكاتب لا عن وجهه، ولا عن سيرته، بل عن أسطورته الشخصية، وهذا أمر مختلف جدا. ربما كانت الأسطورة الشخصية هي العمل بحد ذاته.
هل تهتم بسير الكتاب؟
- أحيانا تبدو على درجة من الأهمية. قرأت منذ أيام قليلة أن روبير والسر كان خادما. والسر وجان جاك روسو، كاتبان من أصول سويسرية وخادمان. ثمة أمر مسل في الموضوع. أحب أيضا الغموض الذي يلف حياة بعض الكتاب. حين مات كيركغارد، وجدوا في خزانة في بيته، مئات فناجين القهوة. نعرف عنه أنه كان يشرب الكثير من القهوة، لكن لمَ راكم مئات الفناجين؟ هل كان يبدل الفنجان في كل مرة؟ أحب هذا الذي يبقى بدون تفسير.
ثمة جملة أخرى لفتتني في كتابك «العالم يخون نفسه، يثرثر كثيرا». أي علاقة تقيمها، بصفتك كاتبا، مع الشفاهي؟
- علاقتي سيئة جيدا مع كل ما هو شفهي. أستطيع أن أتكلم لساعات عن عداوتي لهذا الشفهي. ثمة مشكلة في التخاطب هنا: إما أن يكون محدثي على ذكاء كبير ولا أستيطع أن أعلمه شيئا، وإما يكون على درجة كبيرة من «الهبل» أي لا أستطيع أن أقول له شيئا. لكن، بشكل عام، محدثي هو الشخصان معا، أي ان المخاطبة مقفلة من جميع الجهات. العلاقة بين الكاتب والقارئ تنتمي إلى الفصيل عينه.
لمَ تكتب إذا ولمَ تنشر ما تكتبه؟
- إنه أمر أشبه بتحد ما. إن كان الكاتب يفكر بقرائه فعليه أن لا يقول لهم أي شيء. عليه أن يبدع أشكالا أخرى، أن يبدع خطابا يمكن له أن يتخطى هذين الطرفين: الذكاء والهبل.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...